لا يمكن الفصل في أهم المسائل التي تعرض إليها الخوارج المتحيزين للنص القرآني ضدا على آلية استرجاع السلوك اليومي للنبي وآله وصحابته، إلا بإمعان النظر في ما تقدمه كتب الحديث والمغازي والسيرة، ومراجعتها مراجعة معمقة استنادا على التحليل والمقارنة واستقراء الوقائع، ذلك أن الصراعات التي انتهت إلى معركة «الجمل» ثم موقعة صفين أدت إلى فرض «صيغة من تمثّل الماضي» تقوم على تقديس لحظة التأسيس، رغم أنها لم تخل من اتهامات بالقتل والزنا والسكر والردة. وقد جرى توسيع هذا التقديس بالسنًة، رغم أنه لم يكون معروفا في بداية الإسلام، ورغم ثبوت حصول الشقاق في قلب عائلة محمد، بل أيضا بين صحابته وتابعيهم المتهمين بارتكاب أخطاء جسيمة.
وهذا ما استند عليه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، حيث رأى إلى سور قرآنية ذكرها برهانا على أن الصحابة والمقربين من النبي لم يكونوا معصومين من الأخطاء والآثام. ويؤكد أنّ هذه الإحالات تنطبق على كل أحد منهم :»قل، إنّي أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» (الأنعام 15- يونس 15)، «فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل لله إن الذين يضلون عن سبيل لله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»( ص- 26).
إن معركة صفين وما تلاها من أحداث هي التي أفضت إلى اندلاع أهم الإشكالات المعرفية التي بلورها «علم الكلام»، بل إنها كان جوابا واضحا على ذلك الانقسام السياسي الذي أصاب المسلمين، انطلاقا من السؤال الإشكالي الجوهري: «من هو المؤمن»؟ لقد انبنى علم الكلام، بالمعنى المعرفي، على «الإرجاء» الذي يقول أبو البقاء الكفوي في كتابه «الكليات» (ج2، ص173) بأن أصحابه هم «في تعريف المتكلمين يسمون المُجبِرة، وفي التعارف الشرعي المرجئة». وكان مؤسس هذا العلم جهم بن صفوان (ت 128 هـ)، تلميذاً للخارجي المعتدل عبد لله بن أباض (ت 86 هـ) الذي قال، بالتضاد مع الأزارقة الخوارج الذين قالوا بتكفير المسلمين الآخرين، بأن استطاعة وفعل الإنسان كلاهما مخلوقان من لله وفق تقدير مسبق وضمن وجهة محددة ومسار معين، وأن الإنسان لا يملك من إرادته شيئاً، بخلاف قول الأزارقة الذين انبنى تكفيرهم للمسلمين الآخرين على قولهم بحرية الإرادة، وهذا ما جعل ابن أباض ينحو إلى اعتبار مرتكب «الكبيرة» غير مشرك، بل كافر نعمة.
يقول محمد سيد: «على طريق ابن أباض، طرح جهم نظريته في خلق الله ﻠ»الفعل» الإنساني، بخيره وشره، بوصفه جوابا على التكفير الخارجي. وهذا ما أدى به إلى نفي حرية الإنسان الذي هو ليس مسؤولاً عن أفعاله، حيث أن الخير والشر مقدران من الله، ولا دخل للعبد في تقريرهما. والملفت للنظر هو نفيه لصفات الله، واعتباره غير قابل للإدراك والتصور الإنساني الذي لا يمكن أن يحيط به، الشيء الذي جعله ينفي تشبيهه أو تجسيمه، رغم وجود كثير من الآيات القرآنية التي توحي بذلك، حيث نراه يرفض «خلّة» إبراهيم و»تكليم» موسى، وكذلك إمكانية «رؤية» لله في الآخرة.
(…) فتصور جهم للنظام الكوني، المحكوم بالحتمية، هو الذي يفسر عقلانيته، ولكن تلك العقلانية التي لا تستطيع شيئا سوى المعرفة وفهم آلية ونواظم الكون، لا تغييره. لهذا كان «الإيمان» عنده هو «المعرفة»، ولا يحدده ولا ينقص أو يزيد العمل منه.
وهنا، نجد أن تنائي الذات الإلهية سيؤدي إلى الفصل بينها وبين وسائطها (= الكلمة) التي تقدمها للإنسان. حيث نجد أن نظرية جهم حول «خلق الفعل» قد أدت به إلى القول بـ»خلق القرآن»، الذي كان أول من قال به ابن أباض في تاريخ الإسلام. مما يعني أن تلك الوسائط ليست من الذات وإنما تعبير عنها. وهذا تأكيد لتباعد الذات الإلهية عن الأرض، لا اقتراباً منها، ولذلك لم يكن مستغربا، في النهاية، أن يقول أصحاب تلك النظرية، كما نرى عند بعض المعتزلة، إن نظم القرآن ليس بمعجز [أبو موسى المردار (ت 226 ﻫ) وإبراهيم النظَام (160 – 231 ﻫ).
ولكن مشكلة إسناد الشر إلى الفعل الإلهي، هي التي جعلت غيلان الدمشقي (ت عام 111 ﻫ)، يقرر مساحة معينة من حرية الإرادة للإنسان، وهذا ما جعله مفترقا عن جهم صاحب «الجبرية الخالصة»، الشيء الذي تابعه تلميذ غيلان، أي واصل بن عطاء (80-131 ﻫ) مؤسس مذهب المعتزلة، الذي أراد استخدام تلك المساحة لتأكيد نظريته حول «تفسيق» أحد الطرفين في «الجمل» و»صفين».
لذلك كانت مشكلة «التنزيه» عند واصل، مختلفة عما كانت عليه عند جهم. وهي، هنا، ناتجة عن نظريته حول امتناع إضافة الشر إلى لله، وإتيانه من قبل الإنسان، المالك والمفوض بالاختيار بين الشر والخير، حيث أن الأخير هو مقدر تحديدا من لله. وهذا ما يفسر إصرار المعتزلة على لقب «أهل العدل والتوحيد نظرا لقولهم بـ»الامتناع»، و»التنزيه» عن الصفات وتأكيدهم على ذات لله الوحدانية .
ﻔـ»تنزيه» واصل هدفه هو تأكيد الجانب الشرير في الإنسان، وتعالي لله عن هذا المحيط «الدنس»، وتنائيه، وتنزهه عنه. من هنا، يجب أن نفهم أساس تبنيه لنظرية «خلق القرآن»، حيث لا يمكن لتلك «الذات المتعالية» أن ترسل جزءا من ذاتها إلى ذلك المحيط، ولكن يمكن أن تبعث بتعبير عنها، هو “الكلمة” التي هي مخلوقة شأنها شأن المرسلة إليهم.»
و»يضيف محمد سيد في مقال بعنوان (علم الكلام:مشكلة التوسط بين المتعالي والعالم الحسي): «رغم «رسالة الرد على الزنادقة» التي وضعها واصل ضد المانوية، إلا أننا نجده يقيم ثنائية بين «المتعالي» الذي هو الخير في ذاته، وبين الإنسان الذي يأتي الشر منه. صحيح أنه مريد ومختار وعقله مفوض ومالك القدرة على التمييز بين الخير والشر، إلا أن مذهب واصل بن عطاء ونظريته في “تفسيق” صاحب الكبيرة إلى درجة أنه يخرجه من محيط الإيمان ولو ليس إلى درجة وضعه في الكفر، توحي، وإن ضمنا، بأن هذا العقل، عندما ينزع إلى الشر، فهذا تعبير عن الطبيعة البشرية، والله هو خارج الدائرة، هنا. كما نجد أن نظريته حول «خلق القرآن» لا تختلف عن مفهوم الأفلاطونية الحديثة والمانوية ﻠ»الإله الخالق – الصانع» الذي خلقه «المتعالي» كوسيط ومدبِر للعالم الحسي، كي لا يتلوث به من خلال الاحتكاك معه، حيث نرى ابتداء من فيلون الإسكندراني (20 ق.م- 50 م)، ميلا إلى جعل «الكلمة» هي ذاك «الإله الخالق – الصانع»، والتي تتوسط «المتعالي» و»العالم الحسي»..».
صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 12 : بين جهم بن صفوان وواصل بن عطاء

الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 09/06/2017