صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة : 21 الطبيب الفيلسوف أبو بكر الرازي، ناكر النبوة

لم يكتف أبو بكر الرازي، الذي اشتهر كطبيب ممارس، بنقد الأديان والقول بغلبة العقل على الفكر الديني، ولم توقفه قلة المتبعين للفلاسفة وأصحاب المقالات العقلية، ولا ضرب السيف الذي يهدد المفكرين الأحرار الذين يتحركون خارج النص. فردّ الرازي على هذا الاعتراض المتوقّع من الخصم بأن قال «إنّ أهل الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد، ودفعوا النظر والبحث عن الأصول، وشدّدوا فيه ونَهَوْا عنه. ورووا عن رؤسائهم أخبارا توجب عليهم ترك النظر ديانةً، وتوجب الكفر على من خالف الأخبار التي رووها. ومن ذلك ما رووه عن أسلافهم أنّ: الجدل حرام في الدين والمراء فيه كُفْر. ومن عَرَض دينه للقياس لم يزل الدهرَ في التباس؛ ولا تتفكّروا في الله وتفكّروا في خلقه؛ والقَدَر سرّ الله فلا تخوضوا فيه؛ وإيّاكم والتعمّق فإنّ من كان قبلكم هلك بالتعمّق»، ثمّ قال «إن سئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم، استطاروا غضباً، وهدروا دم من يطالبهم بذلك، ونهوا عن النظر، وحرضوا على قتل مخالفيهم. فمن أجل ذلك اندفن الحق أشدّ اندفان وانكتم أشدّ انكتام.. إنما غرّهم طول لحى التيوس وبياض ثياب المجتمعين حولهم من ضعفاء الرجال والنساء والصبيان، وطول المدّة حتى صار طبعاً وعادة».
فالعقل عنده يكفي وحده لمعرفة الخير والشرّ، فلا مدعاة إذاً لإرسال أناس يختصون بهذا الأمر من جانب لله. وبوضع العقل في مكانه المناسب تتمّ إزاحة الهالة القدسية التي يحيط بها المتديّنون قناعاتهم وما يتوارثونه من المسلّمات التي أطاح بمصداقيتها ما أنجزه العقل عبر تراكم خبراته في ميدان الصواب والخطأ.
وتبعا لذلك، يعتبر أبو الرازي من أهم المفكرين الذين ساهموا في تأسيس حركة «المفكرين الأحرار في بلاد الاسلام»، فهو واحد من كبار العلماء الذين كان لهم إسهام رائج ومبكر في الطب والكيمياء والفلسفة في الثقافة العربية الإسلامية. كان مفكرا ذا ثقافة شاملة ومتعددة، ولم يقتصر اهتمامه على مجال دون آخر، وإنما كان موسوعة من الفكر وبحرا لا حدود له من المعارف، رغم أن الجانب الطبي هو الذي وصلنا منه عبر كتابه «الجامع». أما الشق الفلسفي، فلم نكتشفه إلا مع المستشرق بول كراوس من خلال المناظرة التي دارت بين الرازي وداعية من دعاة الإسماعيلية أبرزت فعلا انتقاده للدين الرسمس، ولكل الديانات المؤسسة، حسب ما ينقله دومينيك أورفوا في كتابه «المفكرون الأحرار في الإسلام».
وقد تعلم الرازي مبادئ المنطق والطب والفلسفة والرياضيات، حيث كان شغوفا بالمعرفة ومهتما بمعرفة أصول الحكمة والطب». كان الرازي مجليا في دراسة الفلسفة وصناعة الحكمة [الكيمياء] وفنون الفلسفة كلها إلا الرياضيات. قال: فإني مقر بأني إنما لاحظتها ملاحظة بقدر ما لم يكن لي منها بد، ولم أفن زماني في التمهر بالقصد مني ذلك، لا للعجز عنه» (محمد بن زكريا الرازي الطبيب والفيلسوف دراسة، تأليف محمد عبد الحميد، ص12).
وقد ولد الرازي بمدينة الري القريبة من مدينة طهران، ثم سافر إلى بغداد حيث أقام لمدة من الزمن، وذلك في عهد خلافة المعتمد. وهناك درس مبادئ المنطق والفلسفة والطب والفلك. أما تعليمه، فكان على يد ثابت بن قرة الحراني مؤسس الفكر الفلسفي، وخصوصا الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والفيثاغورية. كما اطلع على طريقة ثابت بن قرة في رصده لحركات الشمس وموضع أوجها وصورة تعديلها.
لقد بدأ نشاط الرازي، فكريا وفلسفيا، يظهر للوجود في بغداد التي تعتبر مهدا للفكر العربي وملتقى لكل الحضارات والمذاهب والثقافات، والتي منها شرب الرازي كأس المعرفة العلمية والفكر الفلسفي. غير أن بغداد كفت عن أن تكون قبلة للمفكرين والعلماء، بعد أن اهتاج الحنابلة عليها، وقويت شوكتهم، حيث صاروا يطاردون الفلاسفة والفلسفة. حيث ناظر الرازي المسعودي، وعلى إثرها غادر بغداد ورجع إلى مسقط ميلاده مدينة الري. عاد إليها، وفيها بدأ ممارسته الطب والتدريس، حيث ذاع صيته وطاف في المشرق الإسلامي، معالجا السلاطين والأمراء، حتى صار من أشهر الأطباء الممارسين لمهنة الطب في العصور الوسطى، ثم رجع إلى بغداد إلى أن توفي فيها.
وقد وجه الرازي للأديان نقدا شديدا، لأنها بالنسبة إليه لا تعتمد على المبادئ العقلية الموضوعية التي تجعل الطريق واضحا، مما دفع الجماعات الإسلامية والسلطات السياسية في البيئة الإسلامية إلى نعته بالزنديق الملحد؛ ومن ذلك إنكاره للنبوة ورفضه لها، إذ أقام حجاجه بشأنها على أساس العقل، هذا العقل الذي اعتبره القائد والحاكم والزمًام والدليل الذي لا دليل سواه، كما اعتبره ملكا مشاعا للناس كافة، وبإمكانهم متى استندوا إليه بلوغ الحكمة، وعندما يوجّه المتكلم الإسماعيلي السؤال التالي للرازي الفيلسوف: «هل يستوي الناس في العقل والهمّة والفطنة أم لا؟» تأتي الإجابة واضحة: «لو اجتهدوا واشتغلوا بما يُعينهم لاستووا في الهمم والعقول» (أبوبكر الرازي، رسائل فلسفية، بيروت : دار الآفاق الجديدة، الطبعة الرابعة 1980، ص 296).


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 20/06/2017