صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 35 .. أبو العلاء المعري: أهدر الفقهاء دمه واعتبروه كافرا

كان أبو العلاء المعري، الشاعر الفيلسوف، ميالا إلى الارتياب، ولذلك قال: «أما اليقينُ فلا يقينَ، وإنما/ أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسَ». وقد انتهى به الأمر إلى إذابة هذا الارتياب المنهجي في عقيدة جعلت الناكرين لها يقذفونه بالمروق عن الدين والإلحادية، وهو القائل في «اللزوميات» : قال المنجمُ والطبيبُ كلاهما/ لا تُحشرُ الأجسادُ قلتُ إليكما/ إن صحَّ قولكما فلستُ بخاسرٍ/ أو صحَّ قولي فالخسارُ عليكما… وهكذا، كل ما أصابه في حياته كـرهين المحابس الثلاثة، بيته وعماه المبكر وجسمه، أمسى يصيِّره بقلمه تحفة شعرية عزَّ نظيرها عمقا جماليا وفكريا. وقد ذهب إلى اعتبار كتابه «الفصول والغايات» ذا نصيب إعجازي، يتطلب إمدادَه بزمن كافٍ من القراءة والاستيعاب، كيما يخلق وهجه وآثاره… وكم زندقه وكفّره فقهاء في زمانه، ومنهم من أفتى بإهدار دمه! وظل ذلك ساريا حتى بعد مماته.
ولد أبو العلاء المعري عام 336هـ في مدينة المعرة جنوب حلب في أسرة عريقة ذات علم وفضل، تولي جده القضاء، وكان والده وأخواه شعراء، واشتهرت أسرته لأمه بكثرة الرحلات والكرم وحب العلم. وفي السنة الرابعة من عمره أصيب أبو العلاء بالجدري فذهب بعينيه معا، وقد خلفت هذه العاهة في نفسه حزنا عميقا جدا أثر في مجرى حياته كلها، تلقى أبو العلاء مبادئ العلم على أبيه ومشاييخ المعرة في مسجدها الكبير، مما جعل نبوغه يظهر مبكرا، حيث أنه نظم الشعر في سن الحادية عشرة من عمره، وفي سن الرابعة عشرة، توفي والده فرثاه بقصيدة رائعة تليق بالرعاية التي حظي بها من طرفه غير أن أمه وأخواله عطفوا عليه وساعدوه في مختلف أموره وفي مقدمتها تحصيل العلم· ارتحل المعري الى حلب ليروي ظمأه من العلم، كما ارتحل الى انطكية وطرابلس ليطلع على ما فيهما من الكتب، ومر على اللاذقية، ونزل في ديرها، ولقي الرهبان فأخذ من علومهم، وأعجبوا به كثيرا من خلال مناقشته لهم في كثير من المسائل، وفي هذه الرحلات درس المعري المذاهب والديانات المختلفة مما زرع في نفسه بذور الشك في كل المعارك والعقائد السابقة هذا الشك الذي جعل منه وسيلة للوصول الى الحقيقة عاد المعري الي بلدته في سن العشرين وقضى بها خمسة عشر عاما مكرسا كل وقته في القراءة وقرض الشعر، وبعدها سافر الى بغداد طلبا للشهرة ورغد العيش على الرغم من منع أهله له من ذلك وعندما وصل الى بغداد، التف الناس حوله مبهورين بأدبه وعلمه، وهناك اطلع على المكتبات وجالس العلماء وشاركهم في المجامع الأدبية والعلمية مما جعل صيته يذيع وبعد مدة من الزمن فوجئ بمرض أمه مما اضطره للسفر قصد عيادتها، لكنه فجع بموتها قبل الوصول إليها، فاشتد حزنه واسودت الدنيا في قلبه لتقطع عنه كل خيوط الأمل، فقرر اعتزال الحياة العامة والزهد الكامل ليعود الى المعرة معتكفا بمنزله وقد سمي نفسه برهين المحبسين أي العمى والمنزل.
عاش أبو العلاء حياة خشنة صعبة، يلبس غليظ الصوف، ويكتفي بأكل الشعير قابعا برزقه الضئيل وبقي علي هذه الحالة مدة طويلة.
جعل أبو العلاء وقت عزلته للعلم والأدب، يؤلف ويكتب وينظم الشعر، فأغنى المكتبة العربية والفكر العربي، وأخفق في عزلته، إن لم يتركه الناس حيدا، بين همومه وآلامه وأفكاره بل قصدوه من أطراف البلاد وأقاصيها، والتف حوله التلاميذ، ونال مكانة رفيعة في الناس.
امتاز أسلوب أبي العلاء بالجدية والتحقيق والاجتهاد والمناقشة، وقد شرح بعض الدواوين في مجال الشعر، وألف في النحو ووضع عشرات الكتب في مواضيع شتى، أشهرها سقط الزند، اللزوميات ثم رسالة الغفران· وجدير بالذكر أن أبا العلاء امتنع عن الزواج مخافة الجناية على أولاده وظل كذلك حتى توفي بعد أن أصبح مقعدا في أواخر عمره وأوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد.
في كتابه «اللزوميات» قدَّم المعري خلاصة أفكاره الفلسفية التي تأثر فيها بمختلف الثقافات والفلسفات على مر العصور، وفيما يتعلق بالإيمان فقد آمن المعري بالإيمان العقلي الفطري المعتمد على النفاذ إلى جوهر الدين، وإن كانت له بعض الآراء المثيرة للجدل فيما يتعلق بالبعث بعد الموت والنبوات، وغير ذلك من المسائل التي دفعت البعض لاتهامه بالزندقة والكفر.
يقول المعري «أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكرٌ من القدماء.. فلا تحسب مقال الرسل حقاً ولكن قول زور سطّروه.. وكان الناس في يمنٍ رغيدٍ فجاءوا بالمحال فكدروه.. دين وكفر وأنباء تقص وفرقان وتوراة وإنجيل»،  كان المعري دائم الانتقاد لاستغلال الجماهير البسيطة بدعوى الدين، كما أنه ندد بالخرافات في الأديان خاصة مع استغلال كثير من الخلفاء في عصره للدين كأداة لتدعيم سلطتهم.
وقد ظلت تهم الزندقة والكفر ملاحقة للمعري في حياته وبعد مماته، والقائلون بهذا الاتهام يستندون إلى بعض ما كتبه المعري في «رسالة الغفران» أو «اللزوميات»، فضلًا عن سيرته التي شهدت زهدًا عن الزواج وتناول اللحوم في الطعام وغير ذلك، إلا أن آخرين تباروا في دفع هذه التهمة عنه ومنهم ابن العديم الذي قال في كتابه «كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري» إن البعض قد حمل كلامه على غير معناه ومنهم من وضع على لسانه أقوال ملحدة فجعلوا محاسنه عيوباً وحسناته ذنوباً وعقله حمقاً وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام.
وقال الإمام الذهبي عنه «كان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب. وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير والمشكل منه فله على زعمه تفسير».


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 10/07/2017