صوت يخترق الكلمات قراءة في ديوان « أبحث عن وطني .. في وطني» للتونسي عادل بوعقة

يقدم ديوان « أبحث عن وطني … في وطني» للشاعر التونسي عادل بوعقة ، باقة من القصائد القلقة والمتمردة ، والمنشغلة بالبحث عن وطن طاهر – غابر في خريطة هذه الجغرافيات الملتبسة والمبهمة ، بعد ثلاث مجموعات شعرية هي « خدوش الماء « وللحب رائحة المطر « و» براءة الماء».
قد يبدو البحث عن وطن في وطن ، مغامرة ورحلة عتيدة وقاسية ، لكن ، الحلم بالمستحيل ، الذي يمكن أن يستحيل واقعا بالأمل والعمل ، هو جنون الشعراء المعقلن ، كما أن الشعر ” يعذب صادحا بإرادة الحياة والحرية والحب، وطافحا من القلب بجمال النضال ” حسب تعبير الشعر إدريس الملياني .
بداءة ، دعونا نتفق ، أن عين القارئ لا يمكنها أن تمر فوق غلاف ديوان ” أبحث عن وطني .. في وطني ” ، دون أن يثير فضولها متعة العنوان وإرباكه ، فهو أولا، يفشي بالسر ، ذلك أنه يضعنا وجها لوجه ، أمام ديوان شعر تونسي ، له الوطن موضوعا ، ثم ثانيا ، يفاجئنا الشاعر بصيغة تناقضية مبنية على الطباق ، في الإحالة على وطنين ، الأول مبحوث عنه ، والثاني شاخص أمامنا وفوق أرضي يجري البحث ، إنه التعارض بين الحاضر والغائب , الغابر والظاهر .
ومن هنا يكون الشاعر قد أولى عنوانه المركزي عناية خاصة ، بل لكل عناوين قصائده ، وحتى عنونة أقسامه “حنين ،أوتار، أحلام ثائرة ” تنم عن أنه يمتلك مهارة خاصة في اقتناصها ، ، لا يسع القارئ سوى أن يطرح سؤالا فضوليا بخصوص العنوان المركزي ، من قبيل : لماذا الوطن ؟ وما هذا ها الوطن المؤجل الذي يبحث عنه الشاعر عادل بوعقة ، ويسعى لأن يوجد في أحلامه بلدا بكامل مواطنته الشاملة الحقوق والواجبات ؟
وهذا ما نسعى إليه في هذه القراءة العاشقة لديوان ” ابحث عن وطني .. في وطني ” ، الصادر صمن منشورات مكتبة الاتحاد للنشر والتوزيع ،في 121 صفحة من القطع المتوسط ، ويتكون من ثلاثة أقسام من القصائد المختلفة الطول والبناء ، يحمل كل قسم عنوانا كبيرا « حنين ، أوتار ، أحلام ثائر «.
إن وطن الشاعر هو كل الوطن ، وكل الوطن العربي والإسلامي ، مادامت لغة النص عربية ، أما أقواها ، فهي الحرص على أن تكون الرؤية شاملة تنشد سعة الآفاق وتأبى الحدود الجمركية ، حيث يلتبس الزمن والمكان العربي بالوطني فيقع الهياج وتنفجر الكوامن ، نقرأ من قصيدة « بغداد « :
يا صوت مدينتنا
يا عراب ذي قار
يا زمن الأوغاد
هذي سبايا المغول ..
تقاطر منها العري ..
تفضح تتار العصر الهمجي « ص52
إن الشعر ، بعبارة ، فعل جمالي ، وهذا يعني أنه نقيض تشويه الحياة والحضارة والثقافة والإنسان والوطن ، وحسبنا شاهدا على هذا الوقوف نقيضا للمسخ ، أن نقتطع على سبيل المثال من قصيدة ” أول الحروف ” :
” حين أخذتني من يدي
وأشرت للبئر وقلت :
” هاهنا رمي بيوسف ليكون عزيز مصر ”
أو تذكر أني سألتك :
ارمني أبت أكون يوسف ..
أجبتني: سنشوه التاريخ
إن نحن أعدناها هنا « ص10
من الجدير ، هنا بالذات ، استحضار الشاعر لقصة يوسف والرغبة في إعادة إخراجها كما هي موافقة للنص ، لأن لن يعدو أن يكون تشويها للأصل ، ونفيا للخلق والإبداع ، لأن الوطن – الحلم لا يمكن أن ينمو قوة وفعلا إلا بتعقيل تاريخه ، وهذا بالضبط هو منطلق وهاجس بحثه .
وفي سياق هذا البحث عن الوطن في الوطن ، لا يملك الشاعر سوى الصبر الجميل والأمل :
« أيوب يا سعف الحكاية
يا نخلة لم تنحن للريح يا عراف أسرار البداية
عيناه مغمضتان لكن …
إنه الآن يراه .. إنه الآن يراه « ص 22
لا يخفي هذا المقطع الشعري صبر الشاعر وانتصابه في ما يروم القبض عليه من بقايا وطن منفلت ، ومن ثمة كان الاعتماد على الحلم – إغماضة العينين لا يعول على كفايته ، بقدر ما تغيا الشاعر الإضاءة والعض بالنواجد عن رؤياه التي لن تكون سوى وطن يريده بديلا لوطن .
لنواصل مع الشاعر البحث عن وطنه في وطنه ، وهذه المرة، تكون المرأة والتي احتلت حيزا كبيرا في الديوان ، ولا غرابة في ذلك ، فالمرأة دعامة أساسية التي تقوم عليها حياة البشر ، وبها تتجدد الذات والكتابة ، يقول الشاعر في قصيدة” تونسية ” ص96
” إنني أهواك من دون براقع تونسية
دمت شمسا
دمت نخلا
دمت روحا للحياة
تونسية .. تونسية”
ينحاز الشاعر في هذا الشاهد النصي للانفتاح على نصفه الثاني كما في أسطورة الخنثى ، حبا ، حياة ، نورا يشع من من نبض أرض، عنادا ، ووطنا يروم هويته , ويسع كل فضاء .
ويواصل الشاعر بهجة الانفتاح على المرأة عبر فعلي التحفيز والتحريض” انهضي ، قومي ، انتفضي ” والذي يشير إلى عهود موغلة في القدم ” عقبة ، كاهن ” :
” يا بنت عقبة انهضي
يا بنت كاهن القبيلة
بنت ملح الأرض من الشمال إلى الجنوب
أنت سيدة المكان والزمان
قومي الآن وانتفضي ” ص 93
لقد بدت المرأة جزءا من وجدان الشاعر واحتجاجه ، وشريكة له في قلقه وفرحه ، ولا يقبل البحث من دونها ، إذ لا استشراف ولا أمل في وطن آمن في ما وراء الجدران وفي غياب المرأة .
وفي سياق انفتاح الشاعر وتخطيه للحدود الفيزيقية والخصوصية للوطن ،باتجاه الوطن الكبير عربيا وإسلاميا ، نقرأ من قصيدة :
” لعل الغد
يجيء إلينا بحمد جديد ..
هناك ..
سيكتب أهل العراق على اللوح
تاريخهم الجديد ” ص70
واستقواء وتداولا لهذه البهجات من خلال رؤية شعرية شاسعة نقرأ من نفس القصيدة :
هناك
على الشاطئ البابلي
يقدون أروقة للصهيل الجديد ” ص71
وبهذا المعنى ، فقصيدة عماد بوعقة لا تنحصر في حدود خصوصيتها الوطنية والهوياتية وإنما تتجاوز ذلك لتراهن على الحد العربي والإسلامي .
الشاعر يميل إلى معجم القسوة في الدلالة على عالم خشن ، في ما يستدل به على عالم القسوة الذي تحفل به المجموعة :” سجوني ، رصاصة ، دمي ، الشهيد ، اليتيم ، الثكالى ، الحرب ، الإمراض العصبية ، احترقنا ، الجريح ، خدوش ، تتار …”
هذا القاموس الذي ينشر الشاعر غسيل عدوانيته على حبال القصيدة ، كان شاهدا على أن هذا الوطن الكائن الذي نعيشه ، مصاب كيانه بآلام سرطان المرحلة ، كما يحيل هذا القاموس الخشن الفظ على موقف الشاعر من كل ما من شأنه تدنيس الكرامة الإنسانية .
ثمة معجم من نوع آخر ، في قصائد الديوان ، ونعني بها الكلمات الناعمة والموحية والنامية :” آت ، لحنا ، نجمي ، الخرير ، الحلم ، الفجر ، عشق ، عروسي ، أغني ..” ، وبالطبع هو قاموس ينبئ عن رؤية الشاعر التفاؤلية والتي لن تعدو أن تكون لغة وطن مبحوث عنه ، ولا يكف الشاعر عن استحضاره رغم محاولات تغييبها حتى حلما .
وتساوقا مع هذين القاموسين تحضر مجموعة من الشخصيات والرموز التراثية التي تستقوي بهذه الثنائية الضدية التي يجسدها فعلي غياب – حضور الوطن الذي ما فتئ يؤرق الشاعر .
وانخراطا بالقصيدة في المد الحداثي ، استثمر الشاعر الجانب البصري في قيمته الجمالية ، حيث الكتابة المختلفة عن سواها ، وبناء على هذا التوجه ، تحضر الكلمة مقطوعة الأوصال ، مما يضع العين أمام انحراف وتحوير للكتابة السائد ، قوامها تشظي الكلمة ، مما يحول اللغة إلى كتابة شعرية مرئية ، نقرأ من قصيدة ” موطئ الروح ” ص35
« لم تقاوم « كريات الدم « الدم ضوءا حالما يعدو
ليعلو
ثم ..

ل
غ
ي
فتنة للقادمين «
وجملة القول ، يبدو ديوان : أبحث عن وطن .. في وطني « للشاعر عادل بوعقة ، كتابة شعرية أكثر التفاتا للوطن ،ونموذجا باذخا من الشعر الصافي فيه يحضر الحلم والبحث والقلق ، في حين يبقى السؤال معلقا وحسب تعبير الشاعر:
« هل وطن هذا أم …
أم نبع سراب …
يقطر منه الحقد رصاصا «
ابحث عن وطني … في وطني
دون جلباب.


الكاتب : ذ عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 30/05/2018