غالبا ما تمنحنا العتبات النصية الاحساس بالاطمئنان، وهي تدعونا لاقتحام عوالمها الساحرة. عتبات لا يمكننا أن نتغاضى عن عبور مسارها بكل ثقة نحو رحاب النص.
كذلك توقعت وأنا أقرأ عتبة رواية” ولي النعمة” التي اعتقدت أنها سفر عكسي مضمخ بأنفاس سرد حريري، خصوصا وأنا أتأمل لوحة الغلاف بما حركته بداخلي من صور من مخزوني القرائي التراثي عن الليالي، استحضرت صور نساء أخريات ودورهن المؤثر عبر التاريخ في كل المجالات، نساء فاتنات تربعن على عروش السرد، وكراسي الحكم. غير أن توقعي سرعان ما انهار بعد قراءة هذه الرواية. وغصة في القلب والروح تجتاحني بقوة، تؤكد لي عدم ثقتي في العتبات المخاتلة والمراوغة.
رواية ولي النعمة اتخذت في الواقع مسارين: قصة عبد الغني الضعيف كسارية للرواية، وقصة العربي الطوسي، كنص معضد لها، مع تطعيم السارية الرئيسية بمجموعة من القصص الجانبية (حكاية السفياني جد وفاء الذي كان كاتب قاضي القضاة، وحكاية مقتل أم العربي الطوسي، وقصة بهاء، أو سر لوحة ذات القرطين” التي شكل فيها الجسد عاملا أساسيا في البناء، وأبرز زوايا النظر إلى كل من: الجسد المنبوذ، والجسد الفاتن، الجسد المغتصب، الجسد المهدور، والجسد المستعبد، الجسد المبضع، الجسد العاشق، والجسد المبغوض. ما دام الهدف هو إماطة الأقنعة الزائفة عن وجه المجتمع المغربي الذي شكلت فيه فضاءات بعينها أوعية مثالية لإبراز هذا الطرح، بدءا من قصر ولي النعمة، غرفة النشاط فوق السطح، مقهى الشعب، ومقهى بول، والفندق، ومكتب الجريدة. وساعدت النظرة إلى الجسد على تناسل الاحداث بما حملته من دلالة وبما فرضته في الواقع من هيمنة وحضور فعلي.
لنتساءل بأية خلفية فنية وجمالية كتبت بها هذه الرواية؟
I.الجسد بين الجوهر والمظهر
1.الجسد المنبوذ/ جسد عدواني
شكلت شامة أخت البطل مولاي العربي الطوسي مثالا للجسد المنبوذ داخل المتن الروائي، فرغم أنها لم تحظ بحيز وافر من الظهور على خط الأحداث إلا أنها كانت تتحكم في كل خيوطه. ولعل أول ما يطالعنا اسمها كان خلال لحظة سقوطها في النهر” زلت قدم أخته شامة في النهر.. أنطقه الخوف على شامة وعلى نفسه”، وبعد وفاة جدته سيتكفل بها” تحمل مسؤولية أخته شامة” التي تأخرت في الزواج لكن مكانة أخيها مولاي العربي ساعدتها على أن تحصل على زوج ” تاجر قماش من فاس” وهو زواج لم يعمر طويلا بسبب عقمه.
سنلمس الدور الذي لعبته شامة في فترة غضب ولي النعمة على أخيها العربي، وجرأتها في الخروج للبحث عنه عندما قصدت السي النحال، أحد جلساء ولي النعمة وعادت منكسرة، كما برزمن خلال حوارها مع بهاء ” لا يمكننا إخطار أحد فالمسألة أعقد وأخطر من أن يتحدثا فيها عبر الهاتف. كما لا أحد يمكن أن يعرف ما يحدث خلف الأسوار العالية الشائكة لمجلس ولي النعمة”.
ساهمت في تدميره نفسيا، من خلال معاناته من صراعها مع زوجته من خلال” انحيازه إلى رأي أخته، كسر خاطر زوجته وأشعل غيرتها من كنتها الحاضرة في كل تفاصيل حياتهما”. هذا الصراع رسخ كرها دفينا لبهاء. ستعمل على تغذيته بعناية فائقة بحيث كانت الشخص الوحيد من بين أفراد الأسرة من كان يعرف مصير بهاء وسرها بعد وفاة ولي النعمة، وظلت محتفظة به لوحدها حسب ما نستشفه من خلال الحوار الذي دار بينها وبين امرأة غريبة:
” لالة شامة السر قريب يتفضح
(..)
أش من حقيقة؟ بغيتهم يعرفوا بأن بهاء حمقاء عايشة بالدواء
حتى دبا خاصك لفلوس نعطيك وننهي هاد الموضوع”.
2.سلطة الجسد الفاتن
لا سلطة سوى سلطة الجسد، شعار سيرفعه الاعجاب، وتذكيه الرغبة والحب، وهي الصور التي رسمها الراوي لشخص صوفيا الطوسي التي بدت في عيني عبد الغني الضعيف، رب عملها، مثيرة جدا وجذابة، يقول الراوي:” كيف له أن يقاوم كل هذا السحر؟ وضع كفه على خصرها النحيف وهي تتمايل على إيقاع معزوفة ساحرة.. كأنها الأميرة الفارسية.. التي ضلت زمنها، وكأنه الفارس الذي يمتطي لحظة السعد هاته”. فالرغبة في جسد صوفيا جعلته يستحضر كل النساء الأخريات اللائي أثثن حياته”و” زوجته الغبية ذات الجسد الذي يلهب اشتعاله والعابرات اللائي تزرعهن الصدف الجميلة في أسرة اسفاره وتنقلاته العديدة عابرات سرير “.
لقد شكلت صوفيا وجدة وفاء السفياني رمزين للجسد الفاتن الممتنع في نفس الوقت بما كانت تذكيه في روحه من فتنة دفعته في النهاية إلى التحرش بها قافزا على كل الخطوط الحمراء التي سبق له وأن رسم حدودها بعناية بين العمل والحياة الخاصة. ” ساد اللحظة صمت محموم، أنفاسه الساخنة تلفح عنقها.. تعمدت أن تدير عنقها نحوه، ملتفتة، شاهرة في وجهه القريب ابتسامة تكاد تلتصق بشدقيه الرقيقين .. انهمر الدم شلالا هادرا في شرايين شبقية”، غير أنه سيقع في فخ شروطها الواقعية بعد تمنعها وإصرارها بشكل واضح على تقديم مقابل منطقي بعد أن ساومتها بعرضه ” ما هو الثمن؟ أقصد تسعيرة ليلتين، لعل لي شروطا أو طلبات معينة كم؟… فأكدت له ضرورة ” توقيع عقد العمل لمدة قابلة للتجديد مع أجر أساسي لا يقل عن خمسة وعشرين ألف درهم” .
في حين تكشف قصة جد وفاء السفياني، المرأة ذات الجمال الفاتن التي جاءت تشتكي زوجها البخيل وكان الجد يشغل منصب كاتب قاضي القضاة ” طار عقل الكاتب السفياني وهو يستمع لهذا الصوت الشجي ويتخيل ملامح المرأة المتوارية خلف نقابها.. هام عن السجل ..وأخذ يحرك القلم في المدواة الممتلئة بالحبر.. بشكل تصاعدي غابت معه قدرة يده على إدراك ما تؤمر به…. حين خلص القاضي من الاستماع للمشتكية، التفت لينهي الجلسة .. وجد هذا الاخير هائما على وجهه في ملكوت آخر. نهره القاضي بصوت آمر وطلب منه تدوين حكم بحبس الكاتب اسفياني وجلده مئة جلدة. تأثرت الحسناء بمال الكاتب ..سعت بدهاء بعد تطليقها من زوجها إلى الارتباط به على سنة الله ورسوله” مثالا آخر على سحر الجسد الفاتن الذي عرض صاحبه لعواقب وخيمة.
3.الجسد المغتصب
اغتصاب الأبنة
وهي الصور التي نشكلها من خلال الرواية عن أخت الصحفي عبد الغني الضعيف عبر الاسترجاع الذي مكن من فتح كوات الداخل وسراديبه القاتمة من بؤس أسري وفقر مدقع وإدمان رب أسرة متعددة الأفراد .يقول عن أخته” تدفع مع الدافعين بعجلة اقتصاد هذا الوطن بما حباها الله من مفاتن وحسن سخرتهما لممارسة أقدم مهنة عرفها الانسان، لجلب عدد من السياح العرب وغير العرب. عمل شاق وجهد خارق تقوم به بتفان قديسة وتعالي أميرة، لتسويق البلد كأحسن وجهة سياحية”. ولعله نقل ساخر وفظيع في نفس الوقت، يكشف عن خدوش مرايا الداخل التي لم يعد بالإمكان التستر عليها لتحرير كل الأثقال التي تنهك الذاكرة. وقد مهد له بمحصلة نهائية سيعقبها تبرير جارح، يقول الراوي عن واقعة اغتصاب ولده لأخته” كان يكفي أن أفتح عينا واحدة لأرى ما يحدث، ويا لفظاعة ما رأيت؟ .. سكتينا ولا نقتل دين أمك.. سكتت أختي، سكتت أمي، سكت أنا، واسترسل هو في أفعال رأيت الشيطان نفسه يغمض عينيه كي لا يكون شاهدا على قذارتها”، وهو ما يدخل ضمن محيط دائرة القهر كذلك كل من الأم، وعبد الغني الضعيف.
4. الجسد المهدور
لعل تيمة الهدر بقدر ما شكلت لعنة تطارد بعض شخوص الرواية، بدت في الواقع منطلقا لفعل درامي جسده قتل والدة شخص العربي الطوسي ، حدث شكل بثقله صدمة قوية لصبي صغير ستفقده القدرة على الكلام لأحقاب طويلة. وترجع أسباب الحادث حسب الراوي الى ” جار هام عشقا في الزوجة دون أن يطال نظرة منها، فلما أعجزه الصد، سكب الوقود على نار الشك ليخرج الزوج عن صواب العقل ويطعن المسكينة في قلب إخلاصها”.
لمسنا ملمح الجسد المهدور في التواطؤ الذي تم بين لالة أم هاني ومولاي العربي، من خلال إصرارها على تزويج ابنتها بهاء منه دون رغبتها، ولم تترك لها فرصة للاختيار أو إبداء رأيها في موضوع مصيري، باعتبارها فتاة “لم تجاوز العشرين”. وهو أمر تنبهت له صديقتها شامة عندما نهت أخاها بلطف، لما رأته من استحياء الفتاة” مولاي العربي .. بهاء باقية صغيرة ماشي قد كلامك”، تنبيه تغافلت عنه لالة أم هاني التي “كانت رغبتها واضحة في الدفع بهذا التشابك إلى أقصاه، لدرجة أربكت مولاي العربي نفسه”.
5.الجسد المبضع ( تبضيع الجسد)
” وقد غدا (الجسد)، مثلما كان الأمر مع الروح في وقت سابق، الرياضة المفضلة للتجسيد، والميثولوجيا الموجهة إلى أخلاقيات الاستهلاك. يمكن معاينة إلى أي درجة أصبح الجسد مرتبطا بغايات الإنتاج كحامل ( اقتصادي)، ومبدأ إدماجي موجه للفرد( سيكولوجي)، واستراتيجية للضبط الاجتماعي (سياسي)”،
وهي الصورة التي تقدم داخل العمل الروائي حول أخت عبد الغني الضعيف من خلال عمليتي التذكر والاسترجاع، في الفصل المعنون بالماضي، الذي رغم محاولات التخلص من أثقاله ظل بدوره يصرف تبعاته على آخرين . ماض قاس يستحضر فيه بتواطؤ كبير دوره في الاسترزاق بالتكتم على دعارة اخته، بل والاستفادة من بعض عائداتها وهو ما يجعله غير مختلف عن انحراف والده وأخته كذلك في المساهمة في تبضيع الجسد يقول الراوي” ألم يكن دوما مقيدا بالحاجة والفقر والحكرة؟ عبدا ذليلا لمئة درهم التي كانت تجود بها عليه أخته، تشتري سكوته وفوق ذلك تلزمه بفتح باب المنزل بعد عودتها من سهراتها الصباحية”.
6.الجسد المستعبد
شكلت صورة شخص بهاء داخل الرواية برمزية عالية جدا، من حيث الدلالة كاسم في إحالته على الجمال والصفاء. سيرة بهاء هي سيرة العنف المختزلة بدقة عالية، كفتاة محرومة من حرية الاختيار واتخاذ القرار، بدء من تزويجها بالعربي الطوسي رغم فارق السن المهول بينهما، وكذلك جراء معاناتها مع كنتها شامة وانحياز زوجها باستمرار لرأي أخته التي كانت تضيق عليها الخناق في بيتها وتمارس عليها وصاية الحماة. غير أن التحول الكبير في مسار هذه الشخصية هو معانتها النفسية بعد تطليقها تحت طائلة الاكراه من زوجها، – وهو أمر يحرم شرعيا – ومن ثم إخراجها من بيتها ومن عصمة زوجها بالقوة من طرف العريفة لتنضاف لحريم ولي النعمة. معاناة بهاء النفسية كانت أبلغ وأعمق وهي داخل قصر ولي النعمة مع حريمه ” نامت واستيقظت وغيبوبة وعي، حتى أدركت ألا أحد يملك أن يغير من هذا المصير الذي ساقها له قدرها المحتوم”، حيث ستتعرض كذلك لكل أشكال القهر والاستعباد” أمرتهن (العريفة) بصوت صارم بنزع الروب والوقوف صفا واحدا مستقيما عاريات كما أنجبتهن أمهاتهن إلا من شبه تبان يكشف أكثر مما يستر”. غير أن أفظع صورة للاسترقاق هي حكم ما أمر به ولي النعمة في حقها عندما رفضت الكشف عن محاسن جسدها له في حضرة طبيبه برنار دومينيك” الجسد الذي يخشى عين سيده يستحق بتر أطرافه.. اقتلع هذين النهدين من جذورهما كي تتعلم هذه الوقحة كيف تتعامل مع سيدها ولتكون كذلك درسا لغيرها”.
في كل مجتمع يؤخذ الجسد داخل سلطات ضيقة تفرض عليه إلزامات ومحظورات أو موجبات، فالجسد دخل ضمن آلية للسلطة تنقب فيه وتفكك مفاصله وتعيد تركيبه… لكي يتصرفوا فيه كما يراد لهم ووفقا للفعالية المحددة لهم. فهذا الانضباط يصنع أجسادا خاضعة، أجسادا طيعة صامتة”.
7. الجسد العاشق
شكل شخص وفاء السفياني أنموذجا للمرأة الجامحة المتقدة بالرغبة،. شابة متيمة بعشق رجل يدحرجها حبه على غير المعتاد من دائرة المنطق المليئة بالواقعية، نحو زوايا الاستيلاب المعتمة.” تستسلم وفاء لإلحاح عبد الغني ولفوران رغبتها وتعد نفسها في كل مرة أنها ستكون آخر مرة تنساق فيها لنداء جسدها العاشق” هي امرأة حسب الراوي تختزل سحر كل نساء العالمين، يسكنها صوت عشيقها الذي يتحول قطرات نبيذ معتق بالوله. ” صوت يملأ خواء لا يبرح الروح، ليعيدها إليه خاضعة أسيرة، صاغرة، مهزومة كأية عاشقة تنتصر للحب، بالحب”. وتكشف قصة حب كل من عبد الغني ووفاء عن لقاءات حميمية عديدة في غرفة فوق سطح عمارة، غير أن علاقتهما ستعرف بعض الفتور بعد سفر عبد الغني المفاجئ سرا نحو الخارج، وستعود لسابق عهدها بعد عودته رغم زواجه من امرأة أخرى ” فهمت منذ لقاء الوداية الشكل الجديد الذي ستلبسه علاقتهما القديمة،عشيقة لحبيب عائد من عمر الأحلام خاوي الوفاض إلا من لحظات متعة مسروقة ووعود هشة بالوفاء” لتظل لحظات منفلتة من عقال زمن ضاغط وسريع” لقاءاتهما أصبحت تسرق بعناء ومشقة من وقت لم يعد ملكا لكليهما، لقاء غالبا ما يكون مندسا بين موعدين مهمين لعبد الغني أو سفرين أو ندوتين أو مقالين”، وبالتالي بقي صوتها خافتا رغم احتلاله لحيز مهم من أحداث الرواية” سأنتظرك حتى ولو إلى آخر العمر” مما يعبر عن قناعتها بدور الوصيفة، رغم أنها خرجت خالية الوفاض، وظلت كعشيقة لزير نساء يدرك أن صوته يدحرجها على غير المعتاد لتظل صاغرة مهزومة للأبد. تعاني في صمت دون أن تتجرأ على التعبير عن قناعاتها بشكل جلي.
” يرى جون بوديار في كتابه ” مجتمع الاستهلاك” أن الجسد بعد عدة قرون من العفة والماهوية،” أصبح الأسطورة الموجهة لأخلاق الاستهلاك” لقد أصبح رأسمالا نستثمر فيه باعتباره يدل على الوضع الاجتماعي، كما أصبح مقدسا، بل مؤلها”.
8.الجسد المبغوض
وقد تجسدت معالمه من خلال الصورة التي قدمها “السيمو” نادل المقهى عن أم زوجته ولو أنها جاءت بشكل عارض من خلال حديثه عن الأستاذ عبد الغني الضعيف، يقول الراوي” لم ينس أن يغمر “سيمو” النادل بابتسامة امتنان وشكر.. لمسة تجعل السيمو يتباهى أمام زملائه وخصوصا أمام زوجته وأمها العقروشة بصداقته الوطيدة وعلاقته مع الاستاذ الكبير والصحفي المشهور صاحب القلم اللاذع..” فصورة الحماة يتم تجسيدها بنوع من العدوانية المترسبة في لا وعي شخص سيمو وبكرهه الدفين كرد فعل على وقائع سابقة، وترسبات نفسية قديمة.
9.صورة الجسد الأنثوي في الحلم
لقد تم توظيف الحلم كتقنية لتوجيه رسائل محددة داخل المتن الروائي، وإطار لفتح مسار جديد يمكن من حل لغز ظل غامضا بالنسبة للعديد من الشخوص. سواء لتقريب المسافة بين صوفيا وأمها، أو كتمهيد أولي للعودة بأحداث النص نحو مسار انطلاقها الأول، والربط بين بقية الأحداث ما دامت قد بدأت تسير نحو الانفراج النسبي، بعد بروز خيوط أمل جديدة في
الكشف عن سر ظل عصيا على الفهم. ” عاودها ذلك الحلم الذي لم
تستطع أبدا التخلص منه، وجه المرأة المنير كبدر مكتمل التكوين… فاتحة ذراعاها تدعوانها لحضنها.. صوفي..صوفي.. لتختفي المرأة فجأة” وهو الحلم الذي ظل يتكرر لديها منذ طفولتها المبكرة” كانت تتعمد النوم مبكرا فقط لتلتقي تلك المرأة.. التي تشبه ملامحها الصورة الوحيدة المثبتة خلف زجاج في إطار خشبي أسود”.
10.الجسد الفني (فتاة اللوحة التشكيلية)
أول إشارة تطالعنا في الفصل المعنون بلوحة الزمردة، والذي تتم الاشارة من خلاله الى ” فتاة بملامح ساحرة، كأنها حواء كما صورتها الأسطورة لا تلبسها سوى دهشة البداية وورقة التوتر فتاة تضم إليها بقوة نهديها العريين، محدقة بفزع في الفراغ أمامها”. كما تتم الاشارة إلى تفاصيل أخرى ك” القرطين اللذين يتدليان من أذني فتاة اللوحة الفاتنة”، وهي اللوحة المنسية التي قرر عبد الغني الضعيف تقديمها هدية لوفاء بعد أخرجها من الغرفة الموجودة فوق سطح بيتهم. وطلب من سيمو نادل المقهى البحث عمن يرمم فوضاها كي تستعيد بعضا من بريقها. وكانت من إنجاز الطبيب الخاص لولي النعمة رسمها في ظرف استثنائي جدا، تكفيرا عن ذنبه وشهادة للتاريخ، ابراء للذمة من جهة، وللتكفير عن خطيئة ارتكبها بأمر من ولي نعمته حسب ما جاء في رسالته التي تم تضمينها داخل المتن وجهها إلى ابنتها” وأنا أقيم صلاتي على البياض في محراب الألوان حين فرغت منها.. أرعبتني ذاكرتي وهي تستحضر تفاصيل قرطي الزمرد، الجوهرتين اللتين كانتا تهويان كشهقة على عنقها الطويل. سكنني بريقهما الذي لا يضاهي اشتعاله سوى هلع تينك العينين الساحرتين” ويؤكد في نهاية رسالته أن اللوحة ضاعت منه ” لوحة بهاء، أمك، ضاعت مني، أنتقم لها سارقها المجهول، اقتص لها مني، ليعود بي إلى نقطة الفجر التي غالبت عبثا، إحساسها المرير، انتصر علي، هزمني، أعدم الفنان نهائيا في، بعد أن كنت قد أجهزت بيدي على الطبيب”.
11.الجسد كسجن
يتحول الجسد بصفة عامة إلى سجن غير مرئي لصاحبه، سجن لا تحتمل وطأته وجبروته، ما دام يحاصر صاحبه ولا يترك له مجالا للانعتاق من قبضته بسبب الوهم. فما يترسب بداخل الأفراد من استيهامات مختلفة، وتصورات حول أجسادهم، قد لا تجعلهم يشعرون بمدى المأزق الذي يقعون فيه ما داموا واقعين تحت سطوته الجبارة، ف” أقسى السجون هي تلك التي تفتل قضبانها من خيوط الإذعان والخنوع” وهو ميسم ميز بعض الأجساد الذكورية كذلك داخل المتن الروائي وجعلها حبيسة زاوية نظرها الخاصة، كالتعذيب النفسي الذي مارسه الدكتور برنار دومينيك على ذاته بعدما أحس بالذنب الذي اقترفه، وعبر عنه من خلال رسالته مسجلا إياه كموقف من حادث بتر نهدي أم صوفيها الطوسي. وهي رسالة تكشف طبيعة علاقته بولي النعمة، كتابع له وكمسترزق كذلك، رسالة كانت عسيرة جدا، وتكشف عن تأنيب ضمير ورغبة في وضع الصخرة من على ظهر سيزيف، إلى درجة احتقار ذاته وتبخيسها” ” هل كان من الضروري أن يلتفت إلي أنا بالذات ليأمرني باستئصالهما؟…” وقد اعتبر سرقة اللوحة التشكيلية من قبو فيلته بمثابة عقاب من السماء له” حيث يضيف “لوحة بهاء، أمك، ضاعت مني، أنتقم لها سارقها المجهول، اقتص لها مني، ليعود بي إلى نقطة الفجر التي غالبت عبثا، إحساسها المرير، انتصر علي، هزمني، أعدم الفنان نهائيا في، بعد أن كنت قد أجهزت بيدي على الطبيب”
وتكررت هذه الصورة في الصورة التي كونتها شامة عن جسدها” لم تحظ شامة بنصيب وافر من الجمال كما كانت تميل إلى البدانة بقامتها القصيرة، وصدرها الممتلئ، وأس بشعر كث مكور فوق جسد مدور لا تفصل بيتهما رقبة، ببشرة داكنة وأنف أفطس”
النظرة الى الجسد تشكلت عن وعي أو بدونه من طرف أغلب شخوص الرواية إلى ذواتهم فمولاي العربي الطوسي كان ينتابه نفس الاحساس من ذاته التي لم يهتم بها كثيرا كعازب مضرب عن الزواج، ” لقناعته الراسخة بعدم صلاحية حياته النمطية للقوالب الجاهزة.. لم يكن مستعدا للمقايضة بحريته مقابل وهم الأبوة والاستقرار… ظل عزوفه عن الزواج مصدر تنكيت لا يكل ولا يفل في مجلس ولي النعمة.. الذي أصدر أمرا لطبيبه الخاص لفحص ذكورة العربي والتأكد من مدى فحولته في مشهد مسرحي”.
II.قراءة في العتبات النصية للرواية
لم تخرج مختلف مسارات هذا العمل من توظيف الجسد بدلالاته وإيحاءاته المختلفة سواء خارج أو داخل المتن الروائي. بدء من العنوان، ولوحة الغلاف، والاهداء، والعناوين الداخلية، وتقديم الناشر. . في حين تميز مقتطف الناشر في الصفحة الرابعة من الغلاف باستفزازه للقراء ” ولي النعمة رواية محظورة على ضعاف القلوب كما لا ينصح بها للمرضعات والحوامل”.. ولعل إلقاء إطلالة سريعة على بعض عتبات فصول الرواية يكشف مدى إيحاءاتها على الجسد الأنثوي رمزيا ودلاليا وهو الأمر الذي تدعمه المسارات السردية المشكلة لمعمار الرواية بشكل عام كذلك.
•العنوان: “ولي النعمة”
هو عنوان محيل على البحبوحة والعيش الرغيد، ودال على أيادي بيضاء على المنعم عليهم، وهو مصطلح ارتبط تداوليا داخل طبقات الملوك، والحكام، والأعيان بصفة عامة. ولي النعمة ارتبط دينيا برب السماء، بالخالق سبحانه وتعالى، وأولياء الله المنعم عليهم هم اصفياؤه وأحباؤه، مع ما رافق المصطلح من قداسة، وطهر. ولي النعمة هو مالك الأرض في العصور الوسطى، ورب المعمل والمشغل في فترة تحول المجتمع نحو التصنيع، هو صاحب رأس المال في المجتمع الرأسمالي، في ميادين التجارة والصناعة، والخدمات. وداخل النسيج الأسري يرمز إليه كمعيل..، ليظل المفهوم دالا على علاقة تبعية وخضوع تام في كل المجالات. فتعدد الدلالة مكن عتبة الرواية من تشكيل امتدادها الكبير نحو آفاق متعددة، محفزة على اقتحام المتن الروائي واستكناه دلالاته. ” العنوان الروائي الحديث يكسر هذا الانسجام فنيا، فلم يعد يعبر بالضرورة عن الحدث أو الشخوص، بقدر ما صار يشكل عصيانا النص، فلا يمثل غير الاشراقة الغافية في باطنه، ومن ثمة فهو غواية لا تقدم لنا شيئا بقدر ما تفاجئنا وتفتننا”.
•صورة الغلاف
تمثل صورة فتاة في رحاب قصر باذخ تساعدها خادمتها على ارتداء فستانها مع ما يميز الجسد البض الفاتن للفتاة في حين تكشف العتبة بدلالتها عن فتح مسار للإطلالة على واقع طبقة نبيلة أو حاكمة وهي للفنان الفرنسي المستشرق رودولف أرنست.ويشكل غلاف الرواية من لوحة تشكيلية تمثل نصا بصريا ذا طبيعة أيقونية، ما دام يحيل على موضوعات قابلة لأن يتعرف عليها. إذ الأيقونة صورة تشخص نموذجا، وهي بالتالي إشارة تحتفظ بخصائصها المعنوية حتى ولو لم يكن مرجعها موجودا: أي أنها تدل بموجب علاقة مشابهة بينهما مدلولها.”
•الإهداء
تميز بالاقتضاء والقصر وهو إهداء شخصي موجه إلى أم الكاتبة ” إلى عفاف سيد غريب الحفناوي أمي” مع ما يكتنفه من خصوصية و إحالة على علاقة قرابة لها دلالتها الخاصة عند صاحبتها.( الأم تحديدا)
•العناوين الداخلية
لمسنا عناية كبيرة في انتقاء العناوين الداخيلة، فجاءت موحية، مكتنزة من حيث الدلالة والمعنى، وساعدت من خلال إشاراتها المنفتحة على تتبع مختلف المسارات ، كما تباينت من حيث الإحالة بين الخاص والعام، والسير ذاتي، والنفسي، والحميمي، والتراجيدي.( صرخة البداية، عبد الغني الضعيف، مقهى الشعب، اللقاء، لوحة الزمردة، عودة ولي النعمة، خفافيش المعنى، صوفيا الطوسي، تافوكات، الهدية، بهاء، الماضي، بهاء2، الرسالة)
في ختام هذه القراءة يمكننا الاقرار أن الروائية سلمى أمانة لله مختار قد توفقت إلى حد بعيد في باكورتها “ولي النعمة” من تقديم عالم روائي فاره، ومشوق ومثير، بحبكة متينة ولغة فصيحة، عرت من خلالها على واقع الحياة بالمغرب خلال سنوات حرجة جدا، كما كشف عن بعض تحولاته الاجتماعية والسياسية، وأماطت الثام عن قضايا ظلت مسكوت عنها، ولا تثار إلا همسا، قبيل فترة الانفراج السياسي بالبلاد. وبذلك تصبح رواية ولي النعمة إضافة نوعية للرواية المغربية والعربية.