في الوقت الذي كثر فيه الحديث عن الطفل، عن حقوقه، عن ما يشبه عقيدة طفت على سطح الجرائد ومختلف وسائل الإعلام، عقيدة أنشئت من أجلها المنابر، كان آخر صيحاتها برلمان الطفل، إنها عقيدة «الطفولة»..يظهر الإشهار كإطار إنتاجي يتقن لغة الأسواق وجديدها مستغلا الصورة وسلطانها القوي الذي لا يقاوم داخل نفس المنابر المنادية بالاهتمام بالطفولة وحقوقها جاعلة من بطن الطفل وعقله، وجيب الأب وقلة حيلته طريقا إلى الاغتناء والترويج السافر للسلع والبضائع الاستهلاكية .
إن الاستغلال الممنهج للصورة داخل الوصلات الإشهارية خصوصا التي تعتمد الطفل/بطنه بالخصوص مطية لغزو لذيذ لا يقاوم يدغدغ إحساسه ويدفعه إلى استعمال و»استغلال طفولته البريئة بطريقة عفوية إما احتجاجا أو توسلا للظفر بالمنتوج الذي تقدمه الصورة بسلطانها الذي لا يقاوم والذي يوسع نطاق الاستهلاك ويضيق دائرة الإبداع وإعمال الذكاء لدى الطفل بالخصوص، ويسد الطريق على المبدعين في الطفولة أن يطوروا ثقافة الإبداع، لأن خطر الصورة أكبر من أن يحارب بالقلم أو بالكلمات، الصورة تحاربها الصورة الأكثر إثارة وسلبا للعقول ..
الصورة وحقوق الطفل
تعتبر الصورة بوابة – بدون حارس أو رقيب – لولوج عالم الألوان والأسرار، وما الطفولة إلا لون وحكاية وأسرار وعوالم سحرية يتجاذبها الخيال الجامح والحكايا التي تستمد تحررها وانطلاقاتها من مغامرات الشخوص المحبوبة لدى الطفل والقريبة منه والتي يتمناها معها متعاطفا أو لائما، والتي تشكل منطلق صناعته التي عليها ينهض ويتأسس مستقبله .
وإذا كان الطفل عالما مستقلا بذاته، له كيانه الخاص، وهمومه ومشاغله الصغيرة،وحقوق لا زالت أغلبها تسبح فضفاضة في سجلات ودواوين المنظمات والهيئات والجمعيات تنتظر الإفراج والتنفيذ، فإن الصورة عالم أخر غريب ومدهش في نفس الآن، تستطيع بفضل سلطانها القوي الذي تنشره عبر الحركة واللون والإيقاع أن تحرف ما بين السطور وتغير مسار حياة باستغلالها حقوق الطفل لصالح أهدافها، بل أخطر من هذا، تستطيع أن تشد إليها انتباه الطفل وتحجر خياله وتحدد له مسارات انطلاقه وتجعل منه، بالتالي، خادمنا أمينا لها (الصورة) توجهه بسحرها وجمالها الخادع والأخاذ الوجهة التي تريد هي أمام أعين الرقباء الذين يدعون اهتمامهم بالطفولة وحقوقها، بل تجعل منهم هم أنفسهم (الرقباء) أدوات طيعة فعالة ومساعدة لإيصال خطابها الذي يروج – للطفل وبالطفل – للاستهلاك المغلف بأطروحات تنادي بالعناية والاهتمام بالطفل أساس كل بناء مستقبلي .
وإذا كان للصورة سلطان يلعب على جميع الأوتار ليتقرب من الطفل ويكتسح عالمه حسب خطط مدروسة واستراتيجيات غير متسرعة في تحصيل النتائج، وآليات تعتمد اللون والحركة والإيقاع، فإن الطفل يفتقد الحصانة الكـافية التـي تصد عنه هجمـاتها التـي تنهـال عليه كشلال لا يتوقف داخل البيت وسط أسرته – التلفزة / الفيديو،الهوائيات، الألعاب الإلكترونية – وفي الشارع – ملصقات، مقاهي الإنترنت .. – خصوصا في الأوساط الفقيرة والمتوسطة التي يقضي أطفالها أكثر من نصف عمر طفولتهم أمام جهاز التلفاز يتشربون بنهم واضح وخطير الصور التي تتزاحم عبر الأفلام والرسوم المتحركة والوصلات الإشهارية التي تمجد سياسة السوق التي تعتمد على الاستهلاك أولا وأخيرا وتدفعهم، في غياب وسكوت متواطئ مع آليات المراقبة والمحاسبة التي تمثلها الأسرة والمدرسة والوزارات المهتمة وسائر المؤسسات المجتمعية..
تأسيسا على ما سبق، يتضح أن الصورة الإشهارية بالخصوص تهدف – وبدون تحفظ – إلى خلق المواطن الاستهلاكي السلبي الذي يجعل ثقافة الإبداع في المرتبة الأخيرة من تفكيره اليومي الشخصي أو العائلي أو الجمعي وثقافة السوق والاستهلاك في أول القائمة .
الطفل والصورة الإشهارية
أو « الغاية تبرر الوسيلة »
من أخطر استراتيجيات الصورة الإشهارية توظيف الطفل داخل الصورة مع تغييب سافر للتربوي والقيمي والأخلاقي والجمالي في كثير من الأحيان، واستحضار التجاري الذي تعتبره المبتدأ والمنتهى، والوسيلة إلى الربح السريع المضمون الذي تجتهد المؤسسات الإشهارية إلى تحقيقه والوصول إليه ولم لا تجاوزه وتحطيم أرقامه القياسية .
اللوحة الإشهارية – حركية كانت أو صورة – تمارس الإرهاب على الطفل منتجا ومستهلكا بحيث يحاول صانعوها تبليغ الخطاب الاستهلاكي المغلف باللون والحركة والإيقاع والكلمة الهادفة – الهدف هنا هو الوصول إلى الإقناع وتوسيع شبكة الاستهلاك – عبر شلال متدفق لا يكاد يتوقف من الصور المتتابعة والإيقاعات التي تصم الآذان في اتجاه واحد ووحيد هدفه مرامي مختلفة في استغلال متقن ومدروس استراتيجيا لمقولة: « الغاية تبرر الوسيلة « .
فإذا كانت غاية الصورة الإشهارية أولا وأخيرا ضمان ربح أوفر، وسد الطريق أمام المنافسين، والاجتهاد على مستوى الإرهاب، واستمالة جمهور كبير من الأطفال.. وإذا كانت سوق الاستهلاك تجيز جميع السبل والمسالك – المستقيمة والملتوية – الموصلة إلى الأهداف والغايات المخطط لها سلفا، خصوصا التي تجعل من الطفل ضحية الصورة دون مراعاة للقيم، ولا القدرة الشرائية للأسرة.. إذا كان الأمر كذلك، فإن مقولة « الغاية تبرر الوسيلة « تجد لها المرتع الخصب الذي يدفع بالمضاربين إلى إسراع وثيرة الإرهاب والتفنن فيه وفرض حياة/طفولة نمطية، مقولبة، «جديدة» مبنية على الصورة التي تشوش العوالم السحرية والخيالية للأطفال وتحكم عليها بالإفلاس والجمود والتحجر .
الطفل ليس بضاعة تباع وتشترى، ولا قنطرة عبور نحو الربح السريع والمضمون، وليس فضاء مفتوحا للمضاربة وفتح المزادات، ولا آلة استهلاك لا هم لها سوى تغذية البطن أولا وأخيرا يكفي أن نزين له المنتوج الاستهلاكي باللون والإيقاع والأغنية المبتذلة لتنفتح شهيته لطلب المزيد وإحراج أسرته، وبما أن الطفل قاصر وغير مؤهل لتجلية خبايا الخطاب الذي تحمله الصورة بين طياته تقدمه سما زعافا مغموسا بالعسل والشكولاطة، وغير قادر على فك الرموز والمعاني الثاوية وراء اللون والإيقاع أو كبح جماح شهوته وغريزته التي تطلب المزيد دائما، فإن مروجي الصورة الإشهارية – وهم على علم بالطفولة وخباياها – يستغلون هذا «الضعف» لدى الطفل ويجعلون منه وسيطا للغزو وتبليد العقول، وتلجيم الخيال الذي يصبح بفعل السحر الذي تبثه الصورة، كسيحا لا يستطيع تجاوز البطن وإشباع الرغبة في اللعب فقط في غياب تام لكل ما من شأنه أن يدفعهم إلى إعمال الذكاء وتفعيل آليات التمييز بين النافع والضار، والخير والشر، وتيسير السبل أمام الآباء والمؤسسات المجتمعية المهتمة بالتربية والتعليم لخلق إنسان الغد المتوازن والسليم الذي يستطيع أن يأخذ من الصورة ما يخدمه ويدفعه إلى العطاء والبذل ..