الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .
“ دارت “ معاملة اجتماعية –اقتصادية أبدعتها النساء . نساء يجتمعن و يقررن إدارة تقنية اقتصادية نعتت بدارت . تمنح كل النسوة قسطا متساويا من المال ، بسيط أو متوسط ، حسب أوضاعهن الاجتماعية ، و تبدأ اللعبة الجدية . تجميع المال يرفقه الاتفاق و التعاقد على سلم التسليم . من ستستلم الحصة كاملة في البداية ، ومن ستليها إلى أن تغلق الدائرة . مفاوضات تنتهي باتفاق أو عقد أخير لتبدأ حركة دوران النقود . لا يرتكز التعاقد على ما هو مكتوب ، ففي الغالب تكون النسوة على صلة ببعضهن البعض ، و في حالة انضمام عضوة جديدة فإنها تتم تحت ظل ضمانة رمزية من طرف عضوة سابقة لها . “ معاملة دارت “ إسمها نابع من دائرية المجموعة و دوران الحصة المالية المجموعة . دائرية حامية من الدين وثقله و القرض و فوائده ، و في الآن نفسه مقوضة لأركان المعاملات الاقتصادية الرأسمالية المبنية على الربح و الفائدة .
معاملة بسيطة و إبداع عملي بسيط ، انتشرت عدواه بين الرجال كذلك ، واستوطنت بلاغته في الإدارات العمومية . معاملة اقتصادية بسيطة لكن خطورتها على توحش و وحشية الرأسمال لا يدركها سوى خبراء و مستشارو مؤسسات القروض الصغرى و الكبرى . فكل اتساع في جغرافية “ دارت “ يعني فقدان زبناء جدد من جهة و ميلاد مناعة جديدة ضد غواية الإشهارات السامة لهته المؤسسات ، و التي تنفق عليها هته المؤسسات ميزانيات محترمة .مواجهة مفتوحة و مكتومة بين اقتصاد اجتماعي صغير يبعد قيمة الربح و المنفعة ، و اقتصا د ضخم متوحش يرى في الكائن الإنساني عملة لمراكمة الربح . و لن يكون من باب التضخيم اعتبارها مقاومة نساء للرأسمال المتوحش . مقاومة تندرج ضمن مقاومات صغرى أخرى تؤرق خبراء السوق المالي المتوحش . ( إننا حينما نحمل بين أيدينا داخل المتاجر الممتازة المجهزة بكاميراتها الخفية ، منتوجا ونطلع على كل ماهو مكتوب عليه ، و نقلبه مرة و مرات ، ثم نرجعه إلى درجه لا نعرف أن خبراء شركة المنتوج يحملون صورنا الحية بكل حركاتها و يقومون بدراستها و تحليلها للكشف عن سر تردداتنا و كذا امتناعنا عن شرائه … ترددات و حذر يفزعان و يقلقان و يؤرقان شركات كبرى ) . مبدأ دائرية معاملة “ دارت “ يجعلها تنتمي لاقتصاد الهبة المضاد لاقتصاد السوق ، للإقتصاد النبيل (حسب مارسيل ماوس و بورديو ) المضاد للاقتصاد الجشع .
في “ بحثه حول الهبة “ يرصد مارسيل ماوس اقتصاد الهبة ، في أشكاله المتعددة . من بين هته الأشكال هنالك “ اقتصاد الكولا KULA . هته الأخيرة نوع من البوتلاش الضخم ، تجري من خلاله تجارة كبيرة بين القبائل الواقعة في جزر تروبريان . تجارة من النوع النبيل لانها ليست عمليات تبادل اقتصادي مبني على الربح أو المقايضة . مبدأها العام هو أن الطرف الذي يقدم الهدية اليوم لطرف ثان يكون هو متلقي الهدية في الغد ،و العكس صحيح . ينشط هذا النوع من الاقتصاد ضمن حركة دائرية . فمن سيقدمون هدايا الأساور يتجهون من الغرب باتجاه الشرق ، و من سيقدمون هدايا القلائد يتجهون من الشرق باتجاه الغرب . و لذلك يكون لقاؤهم رسما لدائرة ، هي أساسا دائرة دوران الأشياء النفيسة التي يتم تداولها بين قبائل الجزيرة . يقول ماوس بأنه من الناحية المبدئية ، هذا التداول الدائري للرموز و الثروات لا يتوقف و لا ينقطع ، فحركة العطاء الدائري تستمر ، و كل من يحصل على عطية تكون بالنسبة له ملكية و حيازة ، وديعة و كراء ، شيء مباع و مشترى ، و في الوقت ذاته مودع و مفوض و مستأمن . هذا هو المركب الاقتصادي و القانوني و الأخلاقي المميز جدا . الكولا إذن نظام دوران الثروة و ليس احتكارها أو مراكمتها ، و هي نموذج ، إلى جانب البوتلاش ، يقدمه ماوس على لسان المجتمعات العتيقة ، للرأسمال المتوحش كي يعلم خبراؤه و ساسته أنهم يدمرون أسس العيش الإنساني . نظام الدائرة و هو نقطة تقاطع « دارت « مع « الكولا « ، ومقاومة توحش و جشع الرأسمال هو غايتهما المكتومة . دوران « الثروة « الصغيرة جدا للنساء موطن صغير لمطلب اجتماعي كبير : إذا تحركت الثروة بشكل عمودي فإنها تصعد و لن يمسح لها بالنزول أبدا ، و إذا لم تتحرك بشكل دائري فلن تنعم المجتمعات باقتصاد الرفاه .