الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .
« صنع بالصين « جملة اشهارية –اقتصادية تعرفها ساكنة المعمور ، بحكم قوة و اتساع انتشار المنتوجات الصينية . منتوجات الصين تتفاوت قيمتها و جودتها من مجتمع لآخر . في المجتمعات العربية و الإفريقية عموما ، صنع بالصين» تعني مباشرة انخفاض في الثمن مع ميزة شبهه الكبير بالمنتوج الأصلي مرتفع الثمن. موضوع يستحق لوحدة أكثر من قراءة و تأمل . لكن حينما ننتقل إلى المنتوج العلمي الصيني (علم الاجتماع بالتحديد ) كيف نقرأ « صنع بالصين « ؟ و ما الدروس العلمية التي تقدمها جملة « صنع بالصين « للسوسيولوجيا عامة و المغربية على وجه الخصوص ؟
لننصت :
يقول السوسيولوجي «سان ليبينغ « و هو أحد مؤسسي السوسيولوجيا الصينية : « عقد الثمانينات ، من القرن الماضي ، كان عقد توطين السوسيولوجيا . حينها لم نكن نعرف ما هو موضوع البحث المشترك لهذا التخصص. لقد كانت مشكلات المجتمع الصيني هو ما يقلقنا . ففي حالة ما لم يتمكن السوسيولوجيين الصينيين من الإجابة عنها ، فلن نتمكن من ولوج القرن الواحد العشرين . في هته الفترة كانت البحوث على قلتها رسمية بشكل كبير . مع عقد التسعينات ، بدأت السوسيولوجيا الصينية تتطور ، نتيجة ارتفاع درجات تفاعلها مع العالم الأكاديمي . لقد حصل تغير في الهوية . سابقا كان المثقف الصيني يقول :» على أن أهتم بهذا المجتمع « ، أما الآن ، فإني أمتلك معرفة ، و أعترف بوجود جماعة علمية ، انا عضو فيها . مند 1990م ، ستدخل السوسيولوجيا الصينية ، مسار التخصص ، و سيبرز جيل جديد من الباحثين تكون بعضهم بالصين ، و البعض الآخر بالولايات المتحدة الأمريكية . و لم تعد مهمة السوسيولوجي هي حل مشكلات المجتمع الصيني ، بل تأسيس تخصصات علمية ، بمعاييرها العلمية الخاصة . مع الانغماس في سيرورات التخصص هته ، بدأنا نلاحظ منحى آخر ، يثمثل في ضعف الوعي بالمشاكل الفعلية للمجتمع الصيني ، أو بصيغة أخرى ، حدوث قطيعة . فالباحثون يجرون بحوثهم في المجتمع الصيني و يحملونها خارج الصين بدعوى البحث عن الحوار العلمي الدولي ، بعد أن يكونوا قد أثثوها بكل المفاهيم السوسيولوجية الغربية الموجودة في ساحة الموضة « و يضيف « غيو يوهويا « لقد أصبحت في هاته الفترة المفاهيم السوسيولوجية الغربية «موضة توضع في كل الصلصات « .
بناء على ذلك يضيف سان ليبينغ « كان ضروريا إثارة خطر الإنحراف الشكلي « للسوسيولوجيا ، و الذي يضفي الشرعية ، بفضل استعماله لمفاهيم سوسيويولوجية مجردة ، على آراء الحس المشترك ، و ثانيا لأنه يشغل مفاهيم تم إنتاجها و تجريبها في سياقات غربية ، لتحديد السياقات الصينية . . يقول سان ليبينغ :» لدينا الآن مشكلات مع ميشيل فوكو و بيير بورديو . لقد ابتكروا مفاهيم تتلاءم مع بعض المشكلات ضمن سياقاتها ، و في حالة ما أخذنا المفاهيم فقط ، فإنها لن تكون مفيدة لنا في شيئ «
إذن كيف يمكن الربط بين الطموحين ، طموح مواجهة المشكلات الفعلية للمجتمع الصيني ، و في الآن نفسه الحفاظ على الحوار العلمي مع النظريات السوسيولوجية المعاصرة ؟
يجمع السوسيولوجيين الصينيين ، الحاضرين الآن في الساحة الدولية ، و الذين يشتغلون كجماعة في شعبة السوسيولوجيا بجامعة « كينغوا « بمدينة بكين ، على القاعدة المعرفية التالية : « وحدها معرفة ما يتفرد به المجتمع تفرض أدوات التحليل الملائمة و ذات الصلاحية العلمية « . و بناء عليه ، كان اشتغالهم أولا على ما يتفرد به مجتمعهم . المجتمع الصيني ، حسب « سان ليبنغ و يووان شين « يتفرد عن باقي المجتمعات ، سواء كانت غربية أو شرقية ، بخاصيات ثلاث : مجتمع « المعجزة الاقتصادية « ، و المقصود بها النجاح الخارق في اقتصاد السوق العالمي ، و « المعجزة السياسية « ، و مقصودها كون هذا النجاح يتم ضمن نسق سياسي مغلق ، لم يسمح لقيم اقتصاد السوق ، من حرية و ديموقراطية و تنافس مفتوح ، أن يعيشها الصينيون ، و الثالثة كون المجتمع الصيني ولج اقتصاد السوق و هو يضمن الاستمرارية بين ماضيه و حاضره .
إدراك التفرد المجتمعي ، جعل سوسيوليجيي هته الشعبة ، و الذين لا يتعدى عددهم العشرة ، يصيغون إشكاليتهم السوسيولوجية الكبرى ، يتعلق الأمر بإشكالية « الإنتقال « من السوق الإشتراكي ، إلى اقتصاد السوق المعولم المميزة للمجتمع الصيني ، و ضمنها « إشكالية « الحضارة الشيوعية « ، المتمايزة عن الإشكالية الفيبرية الخاصة بروح الرأسمالية .
حسب السوسيولوجي ، شين يووان ، يتعلق الأمر بمنح المجتمع الصيني « إشكالية عامة و شاملة « تسمح للباحثين الصيننين الجدد بدراسة « الأشجار لكن ضمن غابة يعرفون طبيعتها « . يقول :» يبحث السوسيولوجيين في الأسرة و المصنع ، لكنهم لا يعرفون أن الأسرة و المصنع هي أنساق من إنتاج الحضارة الصينية . إنهم يقومون بأبحاث عبر الإستمارات و المقابلات ، لكنهم لا يملكون الوعي بهذا . مشكلتهم أنهم يرون الشجرة فقط و ليس الغابة . إن أكبر خطإ ارتكبته السوسيولوجيا الصينية هي أنها لم تحدد موضوع بحوثها . كبار أعلام السوسيولوجيا ، من ماركس و فيبر و دوركهايم ، على الرغم من اختلاف مقارباتهم ، كانوا يواجهون نفس السؤال و الموضوع : إنه الرأسمالية . إن تحديد موضوع البحث الأكبر يمكننا من الإنطلاق من مواقع مختلفة ، كالثقافة و التاريخ و شبكات التواصل الاجتماعي ، و العلاقات بين الدولة و المجتمع ، و الهجرة ، و سيكون كل واحد منا مختلفا عن الآخر ، لكن الشيء الواضح هو أن كل هاته الأبحاث عليها أن تدمج في حقل معرفة الإشكالية الكبرى و التي هي ما يتفرد به المجتمع الصيني ، بكل رهاناته و تحولاته.
ذاك هو درس السوسيولوجيا الصينية : على علماء الاجتماع أن يركزوا اهتماماتهم العلمية على ما يتفرد به مجتمعهم بكل رهاناتها و تحولاتها . درس بسيط لكنه أعمق من عمق البحر .