ظاهرة الرثاء في الزجل

من خلال ديوان « قبورة ف خواطر محفورة» لعبد الرحيم لقلع

 

 

إن هذه الورقة تستوقفنا عند غرض «الرثاء»، أحد الأغراض الشعرية الضارب في عمق تاريخ البشرية. قديم هو إذا عدنا إلى عمق الأدب الفرعوني، حيث نجده في قصص الآلهة (كبكاء إيزيس لأخيها أوزيريس بعد قتله من طرف أخيه سيت)، فالأدب اليوناني حين يطالعنا الشاعران سافو وسيمونيدس، ثم في الأدب الإنجليزي مع تشوسر وتوماس ڴراي، دون تجاهل آداب الأمم الأخرى..
ولا يسعنا هنا إلا هذه الالتفاتة إلى الرثاء عند هذه الأمم، حتى استقامت مكانته في تاريخنا الشعري، منذ أن وصلنا مكتملا في العصر الجاهلي، وامتداداته في العصور الأدبية الموالية. بدءا بالخنساء في رثاء أخيها صخر، مرورا بمجموعة من الشعراء الذين طبعوا الشعر بقرائحهم في هذا الغرض كأبي تمام في رثاء أخيه، والمتنبي في جدته، وابن الرومي في ابنه الأوسط، وصولا إلى البارودي في رثاء زوجته، وإبراهيم ناجي في رثاء أحمد شوقي.. وحافظ إبراهيم في رثاء محمد عبده.. ونسيب عريضة في رثاء جبران وغيرهم.. ونكتفي من باب الفضول بهذا المقطع لنزار قباني في رثاء زوجته :
بلقيس
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس.. يا وجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
بلقيس، لا تبتعدي عني
فإن الشمس بعدك
لا تضيء على السواحل….
كما نعلم، فالرثاء لم يقتصر على الأشخاص، بل حط الرحال بالمكان والطبيعة والسياسة، وقضايا متعددة تولّد حالة الانشحان العاطفي الميلودرامي من هذه العوالم المحيطة، كمدخل للحديث بطريقة تجريدية فلسفية عن قاهر هذه العوالم (موت، نكبات، كل ما يبعث عن هذا الانشحان).. وتبقى الموت في الرثاء الظاهرة الأكثر التصاقا به، لذلك يكون البحث عن سبل ملامستها في العالم المرئي فضولا نحاول معايشته من خلال مد الجسر بين الملموس والمجرد، بين الجسد والروح بمعنى ما، حتى ندرك أشكال الرثاء المختلفة …
إن الظاهرة الأدبية (الشعر بالأساس) لا نقيسها فقط من حيث اللغة، وإنما وظيفة هذه الأخيرة التركيبية ضمن عوالم التخييل، والوسائل التي تؤديها (استعارة رمزا وانزياحا )، باعتبارها وعاء يجسد هذا المتخيل حتى يستوي كما أراده الشاعر.. وكما أراده الزجال، فالبون فقط في اللغة، كي لا نستثني أو نستبعد «الزجل»، مادامت اللغة المحكية هي سبيله إلى الإبداع. إن قربها أكثر من المتلقي لا يمنع تجليات المتخيل في أدبيته، ما جعل كريستيفا تبحث عن الأدبية في النص الأدبي، وأيضا في الأنظمة الدلائلية الأخرى..
كل هذا يفضي بنا إلى أن الظاهرة الزجلية في تنوع مواضيعها، ورؤاها حسب اهتمامات الزجالين وأولوياتها سواء الذاتية، أو السياسية، أو الاجتماعية، أو القومية وغيرها.. دون أن نضع تصنيفا ضيقا يحاصر الزجال مرجعا وقناعة.. ويحاصر طريقنا للحديث عن الرثاء داخل التجربة الزجلية من خلال ديوان «قبورة ف خواطر محفورة» للزجال عبد الرحيم لقلع، لكن اتساع أفقه لمجموعة من المكونات، والعناصر الآدمية والطبيعية ينفلت عن هذا القيد.. كما يستجلي ذلك العنوان في تركيبته المتآلفة للمرثي بتعدده، حين تعلو بنا نظرة الزجال إلى المكانة التي يتخذها هذا المرثي. وكأن صدره يتسع لهذا التعدد حتى يجعل من خاطره خواطر لكل منها وشمه الخاص فالشاعر في نظر دوسوسير « يجعل اللغة تشتغل ضد نفسها من أجل إبراز الخصائص السمعية داخل القصيدة نفسها».. أي ردود فعل عاطفة الزجال للكيفية التي تم بها استيعاب الظاهرة وتجلياتها، كي لا تتجاوز المنظور العام في كينونته.. لذلك حاول الزجال عبد الرحيم لقلع في ديوانه، أن يعرب عن العوامل الذاتية، والموضوعية في تمفصلها بالحضور الوازن للمرثي، الذي تستأثر معه مكامن الذات في صيغها، مرغِمة إياه أن ترى حظها الشاعري كقوله في أبيه:
أيا جناح
رحل الغالي
وبقيت
بلا جناح…
دمى الڴلب
واش يفيد
لبكى والنواح
راه لجراح ب حملها الثقيل
ڴد ما طال يصير ريشة
ف لهوى تكتب
وصاية مرصعة ب الماس
هي لبني هي الساس
إن الوقع الشديد على الذات الراثية عندما يتعلق الأمر بالأهل بمناقب أو شيم الفقيد، تتجاوز ما هو مادي إلى ما هو معنوي، تماشيا مع المألوف، والثابت في أذهاننا عن الموت، ولا ينفك أن نخلص منه منذ الوعي به، ومجسماته عند ملامستها في القريب، دون أن نبتعد عن هذا الإحساس، الذي يتقاطع فيه وعي الزجال بلاشعوره في إعادة درجته بشكل ما، عندما تعلق الأمر بوالدته، وفي الإفصاح عن حاله المنكسرة التي يصلنا خامها مبنينا كاللغة عند جاك لاكان..
آش نڴول ليك أيا الموت
حرمتيني بلا عطفة
من عز كلمة ف حياتي
ڴولت كلمة مّي
بها نتشافى من علاتي
كل ما يؤهل إلى غور الذات الزاجلة في صدق تعابيرها، ومكنون مشاعرها، لا بد له من أخذ بناء ملائم يجد طريقه إلى المتلقي، لينفذ به لإدراك معاناة الشاعر، كجزء من الحالات التي يعيشها حزنا وألما. فتمسي اللغة مزيجا بين الإحساس بالفقد والوعي به، وهاجس الموت المرافق للاوعينا في تجلياته التي يمكن حسب جون لوڴايو «أن تكون مفتوحة بامتياز على المعاني كلها : مفتوحة على دال خالص «، لا يقتصر فيه هذا الحزن على الأهل، بل يتعداه إلى أصدقائه، وصديقاته كقوله في بوعزة مقلاشي:
لا سماحة ليك يا الموت
خطفتي وسرقتي
زين الخوت
خليتينا يتامى بلا ڴواد
خليتينا خيمة بلا وتاد
هي مواصفات تقربنا من المرثي، وما يتسم به من مواقف وقناعات، كامتداد لطبيعة العلاقة التي تجمعه به.. إذن أثر فاجعة الموت تولد نوعا من الاندفاع الشعري في تراكماته التي تجعل من المرثي حفرا له وقعه على إحساس الزجال لقلع، وعلى مشاعره. فلم يعد المعنى كما يقول جيل دولوز « هو غائية الخطاب، بل مفعولاته الظاهرة هي الأهم لأن المعنى ، هنا، لا نعيد اكتشافه، بل إننا ننتجه»
خاب فيك ظني يا لبحر
ؤما نويتك تكون غدار
سرقت مني صحبة ورجال
ما تباع بالذهب الغالي
ولو يوزن ثقلو حجار
.. هو قول الشعر أو الزجل لا يحتاج إلى تفكير مضنٍ، بقدر ما يتولد من المساحة التي تنبع منها القصيدة. فالإيمان القوي بالآخر، أو المرثي هو حافز الإبداع.. لهذا انتزع الرثاء حقه من الزجال لقلع، وهو نفسه الذي يكرس حضور المرثي سلوكا وأخلاقا وموقفا.. بل شخصية لها وقعها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا كقوله في المناضل أحمد الراشدي:
كيف الجبل الشامخ
ما يحركه ريح
نخلة ما يهزها
بارود ولا قرطاس
دمو عليه يا ناس
شاهد وناطق
الكسدة
بين لحديد ولمطارق
والروح لعزيزة فرفرت
فوڴ لسوار وطارت
ڴال كلمة زعزعت لركان
ڴال كلمة
ميلت عبار الميزان
ما نستشفه من رثاء الآخر، أن ذات الزجال تصبح جماعية للتعبير عن ألمها وحسرتها، مادام المرثي له حضور وازن داخل الجماعة .. هي خاصية جوهرية تربط حس لاوعي الزجال بوعيه في القصيدة.. أي أنها صورة يطبعها ما يحتم علاقة البناء المغلق، والمحاط بالتقاليد والأعراف .. بمعنى المصير المحتوم كالتفاتة إلى العجز أمام الموت والإيمان بانعكاساته.. يقول في صديقتيه:
جوج حمامات
جوج حمامات فضاليات
ف دواخلي عشعشوا
شي ڴال طوبيات
شي ڴال توميات
و ڴلت أنا حوريات
مراضيين مقاسمين هاذ لقفص
مقاسمين هاذ لقصيدة
إن الرثاء نتاج ما تخلفه الموت من أثر حارق ولوعة شديدة .. والظاهرة في ذاتها، وفي بعدها المجرد وكيف نتمثلها ونفهمها بالرحيل الأبدي (الموت ومدي هيمنته على الديوان). هي أسئلة متعددة لهذا البعد الذي لا يفارقنا في كل الكائنات، ويصاحبنا في حياتنا اليومية من خلال مكونات الكون والطبيعة حتى أضحى عاديا.. لكن يستوقفنا في العنصر البشري، ويحرك ثوابته، واستقراره في لاوعينا أو وعينا سيان. أي قوامها المتتابع بخصوص الإباحة في ظل متطلبات الحياة للكائنات الأخرى لا تستفز مشاعرنا بنفس الشكل عندما تصيب الإنسان.. وفي كل الأحوال يغدو الحنين آهات لامتناهية للمرثي إنسانا أو غيره.. فالحنين عند دوستويوفسكي «هو حين لا يستطيع الجسد أن يذهب حيث تذهب الروح».. كما شوق الزجال إلى سوق فضالة:
وليعة لفراق
ضربانة مغروسة
ف لهاتي
وفيك شربت ورويت
من شلا سواڴي
فين قربال
لمسيح وخياله
فراجة ب ميازن
جدبة وعيطات
ب سواكن حناني
ڴناوه
سيرة لعذاب ولحديد
ترويها قراقب ونغام سنتير شجاني.


الكاتب : أحمد السالمي

  

بتاريخ : 20/01/2024