بما أنّ القاصة المبدعة غادة الصنهاجي، أو بالأحرى سارداتها الألمعيّات معتادات على مواجهة الشخوص بجسارة فكريّة استثنائيّة، وإرادة حديديّة حرون، معبّرات – وجها لوجه – عن مواقفهن التقويضيّة الناسفة لأيّ عقليّة ذكوريّة متسلّطة، تبذرُ في تربة التخلّف فسائل الظلم، والخيانة، والغربة، والقهر، والضعف ، والتحرّش، والكبت ، والعنف، والتمييز، والتقاليد الجائرة الجارحة، فإنّني قلتُ مع نفسي – على سبيل تحوير «سياسة التأويل»، وتبديل « أخلاقيات القراءة « كما يُفضّل أن ينعتهما الناقد هيليس ميلر – : لِمَ لا أتموقعُ من وراء هؤلاء الساردات الماجدات الشرسات، على مسافة معقولة طبعا ، كما لو كنت حركة كاميرا سينمائيّة، في لقطة تَتَبُّعٍ من خلف لإحدى الشخصيّات المهمّة الموشكة على الدخول إلى مشهد مفصليّ في حبكة فيلم .
إذ أنّ ساردات الواجهة يروين الجانب الأوّل من القصة، بما معناه و مَقْصَدُهُ أنّهن يروين « الكلام «، «الكلام القذر» مثلما أسماه الفيلسوف جيل دولوز في حواراته الإذاعيّة الشهيرة مع الصحفيّة كلير بارنت، بينما أنا أتوقُ لأن أحكيّ الجانب الثاني من القصة ، لأن أحكيّ « الكتابة «، « الكتابة النظيفة « كما وصفها صاحب « الاختلاف والتكرار «، أي ذاك الجانب المستور المظلم ، الذي يُخفي مركز جذب غير منظور ويطمره عميقا، تحت ركام نفسيّ فسيفسائيّ هائل، وطبقات مترسّبة متكدّسة من سوء الفهم الجندريّ، وخليط تاريخيّ معقّد وغير متجانس من الصراخ، والرذاذ ، والسخط ، والخذلان، والشعارات، والبوح ، والتنفيس، والأقنعة، والخطابات النسويّة المعيشة، أو المتوارثة، أو المُرَحَّلَةِ من بيئات ومرجعيّات أخرى .
وهكذا ، بالاستناد إلى مقولة أنّ « الكتابة نظيفة ، والكلام قذر « ، وانطلاقا من الأضاميم القصصيّة المتعاقبة، التي أطلقتها غادة الصنهاجي في سماء النشر ، تلك الموسومة ب : « الهاربة « (2014) ، و «هي وهو « (2016) ، و « نساء غير مشهورات « (2019) ، و « البلابل لا تحلّقُ في الأعالي» (2020) ، طفقت أستقصي المظانّ الترجيحيّة لأيّة واقعة لا مرئيّة وسط الحكي، بمستطاعها أن تجعل سيرورة الأحداث عميقة ، أو استعاريّة ، أو إيحائيّة ، أو ملغزة ، أو مفاجئة، أو حتّى مغايرة عن السائد و الرائج في متون القصص النسويّة المغربيّة ..واقعة قابلة للقراءة وفق زاوية جديدة ومغايرة تماما .. زاوية مختلفة بالمرّة عن غائيّة التلقّي الأولى، وحتّى عن قصديّة المؤلّفة نفسها .
الواقعة اللامرئيّة عينها، التي يمكن اعتبارها بمثابة بقع للتحيّز السرديّ العمياء . ومن هذه البقع الدامسة تحديدا، تلك التي يطلقون عليها في علم البصريّات وصف « النقاط العمياء « ، أطمح لأن تتولّد أمامي، فجأة، تلك الكوّة الدفينة ، أو الثغرة الشريدة ، التي ستسمح لي برؤية أشعة الضوء غير المتوقّعة، ولواقط النور داخل المنطقة المظلمة لقصص غادة الصنهاجي .
ثمّ بدأتُ الضرب في مناكب القصص، وجماليّاتها النوعيّة معمارا، و تشخيصا ، و أسلوبا، وتقنيّة، وموضوعة، وتحبيكا ، حتى أعياني البحث ، وأنهكني التذبذب ، و مسّني اليأس. فقد استعصت عليّ هاته النقطة العمياء المنشودة ، و توارت عن بصيرتي ، وذلك لخلل مني في الرجوع إلى مراد المحكي ، وعطب بداخلي في تفكيك هيكل النصوص ومعانيها المقصودة .
فتركتُ قصص غادة الصنهاجي إلى حين، كي أنشغل بقراءة نوفيلا قصيرة للكاتبة البرازيليّة كلاريس ليسبكتور، ظهرت ترجمتها العربية مؤخّرا بعنوان «ماءٌ حيّ « (دار الآداب، 2023). وعلى ضوء هذا العمل الروائيّ الاستثنائيّ بكلّ المقاييس، الذي تكمن جدارته في لغته الشبيهة بلواسع قناديل البحر، ولوامسها ذات القدرة على تجديد خلاياها، وضمان سرّ خلودها الأبديّ ، عقب موتها وتحلّلها في مرحلة «البوليب «، عدت مظفّرا ، مجبور الخاطر ، إلى مدوّنة غادة الصنهاجي القصصيّة، التي استحالت ، بغتة، في ذائقتي ، من شقائق نعمان موصدة البتلات، أو منطاد معتم تتدلّى منه مجسّات حسيّة طويلة، إلى قرص شفّاف يشع بالوَضَحِ واللّمعان . وهذا القرص / النقطة العمياء كان هو الجملة ، التي تكتب بها غادة الصنهاجي « تعبها « ، و تصوغ بها « رغبتها في الرجوع إلى نقطة البدايّة « ، و تدوّن بها « الحبّ الذي لا تسمح له الحياة بأن يعاد « .
أضعُ سمّاعتي على جهة أولى من جسد هاته الجملة المغناطيسيّة ،الحاملة للجينات الوراثيّة ، و منابع المياه الجوفيّة، وعروق المعدن المتبلور داخل المنجم الأدبيّ الثريّ لصاحبتها ذات الفراسة ، فيتناهى إليّ تباعا خبب خيول حرب آيبة لتوّها عند الغروب من هزيمة شريفة .. صيحات أرواح نازفة طالعة بلا أقنعة و لا تورية من ألم الحياة .. ألحان مبتورة من أوتار انقطعت على حين غرّة في ذروة الفرح الطاغي .. ظلُّ سكين مازال يتذكّر جرحه النرجسيّ المتأبّي على التقطيب .. و أصداء ممالك معزولة و محترقة في فيافي أعماق شيمتها الكبرياء و الأنفة.
أمضي بسمّاعتي صوب جهة ثانيّة من جسد تلك الجملة القصصيّة الفاخرة الفادحة ، التي ازدادت تدفقا، وشحنا ، وفتنة ، ووخزا ، من عمل إلى آخر ، ومن محطّة زمنيّة الى صنوها ، ومن قصة إلى شقيقتها ، شأن قناديل البحر وهي تنتقّل من درجة اليرقة إلى طور أنضج يدعى « الميدوزا» ، فأصغي دفعة واحدة إلى كيان بريّ عات كأنّه تيّار ماء هادر أو زمجرات لبؤة وسط عتمة الأشجار المتكاثفة.. إلى ايقاعات ذوات متداخلة كنباتات معترشة.. إلى مشاعر عليا تكتب بجميع حوّاس المرأة و قرون استشعارها الباطنيّة .. و إلى التقاطات ولقيات قبض عليها مسبار عموديّ ينفذ سحيقا إلى مغارات النفوس .
أجل، فغادة الصنهاجي مالكة زمام مسبار عموديّ بامتياز، يجوس في غور الشخصيّات القصصيّة، ويسبر حقيقتها، وأسرارها المجهريّة ، ولا وعيها المهمل، بجماليّات يابانيّة تلتقط شعرية الصَّائِت والهامس، وتفكّك أنساق البادي و المحتجب، سعيا وراء « سحر الجملة الذي لايضاهى «، مثلما تغزّل به، وذكر محاسنه السيّد رولان بارث في محاضرات الكوليج دو فرانس.
تلك هي جملة غادة الصنهاجي القصصيّة . جملة النهر الغجري ، الذي لا ينظر إلى الوراء حينما ينفر ويرحل . جملة قنديل البحر . جملة مترقّبة في حالة إنذار و حذر من مثبِّطات الوجود و العزيمة . جملة الجسر الفارغ والفراغ من دون جسر . جملة الهشاشة والأعقاب، لما تغدو خزفا يدخل بين صفوف آجر الكلام في طيّ بئر المغزى لكي يشتدّ . جملة الانكسار والغلبة. جملة الخسارة السعيدة والانتصار المؤسي .جملة الحريق والرحيق. جملة الداء والدواء . جملة الدمعة والابتسامة . جملة الوهن والبأس. جملة الدّبور والنحلة . جملة السّيّاف والضّحيّة . جملة البتر والوصل . جملة قادرة دون انقطاع على مداوة أطرافها المقطوعة ، أو استعادة الأجزاء المفقودة منها ، أو على إعادة تموضعها لتغدو المسافة بينها متساويّة مدوزنة متى تمّ فصمُ إحدى عراها أو مكوّناتها العضويّة .
رجاء ، لا تنسوا بأنّ قناديل البحر الجميلة التي تعيش في عزلة البحار الصامتة ، وتنتسبُ إلى جرح الأعماق السحيقة ، حيوانات مفترسة جدا ، تحبّ حبّا جمّا أن تتغذى على يرقات الأسماك، وتكره العوالق كراهية بالغة .
رجاء ، لا تنسوا بأنّ بين ظهرانينا ؛ اليوم ؛ كاتبة حاذقة كل الحذق في توجيز السرد، وتقطير المعنى، واستخلاص الجوهر، و اجتراح إبداع مشرق الجبين وضّاح المحيّا ، اسمها : غادة الصنهاجي .
(*) ألقيت هاته الشهادة ضمن فعاليات اللقاء المفتوح مع الأديبة والإعلامية غادة الصنهاجي ، الذي نظمته جامعة المبدعين المغاربة ، يوم السبت 27 ماي 2023، بالمكتبة الوسائطية لمؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدا رالبيضاء .