أَنا لَمْ أَكُنْ مُشارِكاً في الغَزْوَةِ
لَمْ تَكُنْ لي عَداوَةٌ شَخْصِيَّةٌ مع قَيْصَرِ الرّومِ
الجَواري التي كانَ أَجْدادي يَسْبونَها لَمْ أَتَحَرَّشْ بِها
رَفَضْتُ أَنْ أَشْتَغِلَ سائِساً للخُيولِ،
أَوْ ميكانيكِيّاً لإِصْلاحِ العَرَباتِ الحَرْبِيَّةِ،
أَوْ إِسْكافِيّاً لِتَرْميمِ أَحْذِيَةِ الجَيْشِ،
أَوْ مُراقِباً عامّاً لِوَصيفاتِ الأَميرَةِ
كُنْتُ السّارِدَ الذي يَمْشي في الخَلْفِ
جَدّي زَعيمُ القَنّاصينَ يَمْشي في الأَمامِ
الفِخاخُ مَنْصوبَةٌ في القَلْبِ وفي الأَسْفَلِ فِخاخٌ أُخْرى،
يَغْرِسُها فِتْيانُ القَبائِلِ الحَليفَةِ،
وفي الأَعْلى تَغْرِسُ النُّسورُ وُجودَها الرّيشِيَّ،
غَيْرَ عابِئَةٍ،
بِما تُحْدِثُهُ مَناقيرُها مِنْ أَوْجاعٍ في جَسَدِ الرّيحِ
الجَرّافَةُ، وهِيَ تَغْرِسُ لِسانَها الحَديدِيَّ في الأَرْضِ،
مُطالَبَةٌ بِوَضْعِ نَظّارَتَيْنِ طِبِّيَّتَيْنِ كَيْ لا تَقْتُلَ الدّيدانَ
لا بُدَّ من عَيْنٍ ثالِثَةٍ لِرُؤْيَةِ الأَجْسامِ المِجْهَرِيَّةِ
ثَمَّةَ زُرْقَةٌ أُخْرى لا توجَدُ في بَحْرٍ ولا بُحَيْرَةٍ ولا سَماءٍ،
وإنَّما في عُيونِ الفَتَياتِ اللاّتي لَمْ تولَدْ بَعْدُ
وَحْدَها العَيْنُ الثّالِثَةُ تَسْتَطيعُ أَنْ تُحَدِّقَ في المَمْنوع:
في الشَّمْسِ، وفي حَرائِقِ الرّوحِ، وفي الغَدِ
وماذا يوجَدُ في الغَدِ؟
لا شَيْءَ باسْتِثْناءِ زُرْقَةٍ،
في عَيْنِ فَتاةٍ طَوْرَ الولادَةِ،
مِنْ رَحِمِ امْرَأَةٍ تُمارِسُ الحُبَّ، جِهاراً، مع الأَبَدِيَّةِ!
عَيْنٌ ثالِثَةٌ،
ولِسانٌ فولاذِيٌّ في مُقَدِّمَةِ الجَرّافَةِ،
وأَنا أَجْلِسُ عارِياً،
وفوقي تَمُرُّ النُّسورُ باحِثاتٍ عَنْ حَبَّةِ قَمْحٍ في قَلْبي…
تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ عابِرَ سَبيلٍ،
يَحْمِلُ جِراباً على ظَهْرِهِ ويَمْشي
وُجِدْتُ في مُفْتَرَقِ طُرُقٍ،
بَيْنَ نَهارٍ يَرْحَلُ ولَيْلٍ يَحُطُّ رِحالَهُ
لَمْ أَكُنْ مَعْنِياً بِما يَحْدُثُ،
أَنا لَمْ أَدُسَّ السُّمَّ لِسُقْراطَ،
ولَمْ أَتَوَرَّطْ في الجَريمَةِ المُنَظَّمَةِ لِمِلِشْياتٍ إِرْهابِيَّةٍ،
ولَسْتُ قاتِلاً مُتَسَلْسِلاً،
كُلُّ ما قُمْتُ بِهِ أَنَّني رَأَيْتُ اللَّهَ،
فاقْتَرَبْتُ مِنْ نورِهِ وأَلْقَيْتُ التَّحِيَّةِ على مَلائِكَتِهِ،
وتَركْتُ الشَّيْطانَ في غُرْفَةِ الاسْتِجْوابِ،
الطَّبيبُ المُكَلَّفُ بالتَّنْويمِ الميغْناطيسِيِّ أَخْبَرَ الجَميعَ،
بِأَنَّ الشَّيْطانَ أَقَرَّ بِجَميعِ جَرائِمِهِ،
وأَنَّني لَسْتُ إلاّ عابِرَ سَبيلٍ،
يَحْمِلُ جِراباً على ظَهْرِهِ ويَمْشي.
لَسْتُ نَسْراً ولا طَريدَةً ولا قَنّاصاً،
ولا الرّجُلَ الذي يَيبعُ البَنادِقَ،
ولا حارِسَ الغابَةِ،
ولا الحَطّابَ الذي يَبيعُ الأَعْوادَ للأَمْواتِ.
كُنْتُ دائِماً أَدْعو اللهَ لأَكونَ عابِرَ سَبيلٍ،
يَمْشي في البيدِ والفَيافي بلا غايَةٍ،
ولا يُفَكِّرُ في قَنْصِ ريمٍ أَوْ ظَبْيٍ،
ولا يُفَكِّرُ في الاسْتيلاءِ على أَرْضٍ ما ومُحارَبَةِ أَهْلِها،
وسَبْيِ نِسائِها،
وبِناءِ أَكْواخٍ مِنَ الجَماجِمِ،
وإِنْجابِ أَطْفالٍ حينَ يَكْبُرونَ يُشَكِّلونَ مافْيا
لِسَرِقَةِ خَيالِ الغابَاتِ والظِّباءِ
أَتَمَنّى فَقَطْ أَنْ أَظَلَّ عابِرَ سَبيل..
الجَسَدُ وِعاءٌ والرّوحُ وَعْيٌ،
والفَصْلُ بَيْنَهُما تَعَسُّفٌ على الطَّبيعَةِ
هُما طَرَفا الكَلامِ في العِبارَةِ،
ولا تَسْتَطيعُ كريسْتيفا ولا ابْنُ جِنِّيٍّ قَبْلَها،
أَنْ يَفْصِلا الدّالَّ عَنِ المَدْلولِ،
ولا أَسْتَطيعُ، أَنا، بَعْدَهُما
إِلاَّ أَنْ أُنَقِّيَ الجَسَدَ مِنَ الغُبارِ العالِقِ بِهِ،
دونَ المَساسِ بِالرّوحِ المُقيمَةِ فيهِ..