عام من العزلة : عائشة البصري … عام لكتابة الموت

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

سنة كاملة مرت من دوننا، توالت الفصول في غيابنا ربيع وصيف وخريف وشتاء..كأننا كنا خارج الحياة. وحده فيروس لعين كان يجوب الشوارع، ويدق الأبواب المغلقة بإصرار..
بدأ الحديث عن جائحة بعيدة قادمة من أقصى الشرق، تبادل الاتهامات بين الدول، خفاش صغير في قفص الاتهام، واندلعت حرب الكِمامات.. ثم جاء الحجر المنزلي في بداية الربيع. الذي لم يغير الكثير في إيقاعي اليومي. فأنا لا أغادر البيت كثيرا في الأيام العادية. واظبت على إيقاعي اليومي .. أستيقظ باكرا، أتفقد لون نهر أبي رقراق من الشرفة، أشتغل الأربع ساعات الأولى من اليوم في الكتابة. باقي اليوم في القراءة والترتيبات المنزلية. السادسة مساء أجلس بانضباط لمتابعة النشرة الإحصائية لانتشار الوباء في المغرب وفي العالم. في آخر المساء أشاهد فيلما سينمائيا على تطبيق النيتفليكس، وقد ركزت في تلك الفترة على الأفلام القيامية.
رغم رعب اللحظة، فقد كان الحجر المنزلي فرصة لإتمام مشاريع مفتوحة، قراءات مؤجلة، ترتيب مكتبة مهملة. قراءة أو إعادة قراءة كتاب عالميين كتبوا عن الوباء.. أعدت قراءة رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو تتخيل وباء أصاب مدينة وهران الجزائرية ورواية «القلعة البيضاء» لأورهان باموك التي تتحدث في فصول منها عن وباء اجتاح إسطنبول، رواية «العمى» لجوزيه سراماغو..
وليكن، فكرتُ، لنأخذ المسألة من جانبها الإيجابي ولنعتبر هذه الجائحة وما نتج عنها من حجر منزلي لحظة تأمل في ما مضى من الحياة وفي الآتي..
غدا، سنستيقظ من هذا الكابوس وقد نجد أن عالمنا بترتيبه الحالي قد اختفى إلى الأبد. وعلينا أن نبني عالما آخر أكثر إيجابية، عالما يتعايش فيه الإنسان والحيوان في كنف الطبيعة، بأمن وسلام. وسيكون علينا نحن الكتاب أن نساهم في هذا البناء. الأكيد أن الكلمة التي سيطلقها كاتب لن تدمر ذلك الكائن المجهري الصغير، لكنها ستسجل اللحظة وأثر الكارثة، عسى أن لا ينسى العالم أن كوفيد-19 مر من هنا.
رغم أنه ليس من عادتي أن أكتب عن موضوع آني، لأنني أجد أنه من التسرع الكتابة عن ظاهرة لم تتضح بعد أو حالة في طور التكوين، لكن تحت تأثير أجواء الموت والعزلة والأخبار التي تصلنا كل يوم عبر القنوات الفضائية، وحتى الشك في الغد، لم أستطع تجاهل ما يحدث في العالم ومقاومة الكتابة على التداعيات النفسية للجائحة عليّ وعلى الآخرين، كالخوف من العدوى ومن الموت. إذ «لا يبقى كلُّ شيء على حاله، فيما كلُّ ما يحيط بك هو الموت». أوقفت كتابة رواية كنت أشتغل عليها لأدخل رواية جديدة تدور أحداثها في زمن كورونا.. وجدتني أقود شخصية روائية إلى عوالم الموت والصراع مع وباء كورونا، مع اعتماد حكي كرونولوجي يتطلب متابعة الأخبار اليومية عن انتشار الوباء.
استغراقي في رواية اشتغل عليها منذ سنتين، لم يردعني عن ترك شخصية دونجوان في شرفة مقهى باريسي يشرب الكابوتشينو ويستمتع بأشعة شمس ربيعية ومرافقة شخصية (امرأة ) إلى موتها. فتحت باب الموت على مصراعيه ودخلت، دون سابق نية، عوالم رواية جديدة.
كلما جلست أكتب ألح على سؤال مخيف: هل ستعيش الرَّاوية لإنهاء الحكاية؟ وهل ستُعطى الساردة فرصة حياة أخرى؟ اختفى الخط الرفيع بين الكاتبة والراوية ..واقترن مصير الرَّاوية ومصير الشخصية الرئيسية، في سباق مع الزمن وصراع ضد الموت، لأكتشف في الفصل الرابع أنني أكتب الجزء الثاني من روايتي الأولى «ليالي الحرير» التي نشرت سنة 2012. فبعد عشر سنوات تعود الساردة إلى النفق، الذي دخلته بموتها الإكلينيكي في الرواية السابقة، هذه المرة تدخله من باب الموت الوبائي في زمن كورونا..
أثناء الكتابة وصلني نعي صديقة روسية من رئيس جمعية النقد الدولي التي أنشط فيها، ثم نعي ثان ..ثم خبر موت صديق إسباني ..لكنني كنت أظن الموت بعيد عنا جدا، في قارة أخرى، وأن ما كتبته مجرد تخييل ولعب إبداعي لغوي ..
أواخر شهر مايو، أضع النقطة الأخيرة في الرواية وأبعثها للناشر ومازلت أعتقد أن الموت، ورغم سلطته، ليس لديه القدرة لحد أن يخرج من بين ضفتي كتاب..
لم أكن أتصور أن الرعب الأسود الذي كتبته في الرواية سيخرج من منطقة التخييل إلى الواقع، وأن الحبر الأسود سيتمدد ويسيح على أطراف العالم ..وأن زمن الرواية سيتمدد من ثلاثة أشهر إلى أكثر من سنة .
حين وضعت الإهداء « إلى موتى كورونا» كنت أقصد «البعيدون»..لكنني تسلمت نسخا من رواية «كجثة في رواية بوليسية» شهر شتنبر وفي قلبي حزن وحداد على أصدقاء مقربين غيبهم الوباء..
كتب لي الشاعر مراد القادري من غرفة الإنعاش: «جثة مرت البارحة أمام غرفتي بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة هنا، فتذكرت روايتك الأخيرة «. كان يصارع من أجل نسمة هواء ونحن ( الأصدقاء) معه. نجا الشاعر بصعوبة من وباء كورونا..
تأملت استهلال الرواية المقتبس من كتاب « العدوى» للكاتب الإيطالي باولو جيوردانو: «عندما ستقرأون هذه الصفحات، سيكون الوضع قد تغير والأرقام اختلفت. سوف ينتشر الوباء، ويصل إلى جميع المناطق المتحضرة ..»
ماذا لو كان الإبداع نبوءة؟ ماذا لو كنتُ كتبتُ رواية عن الحياة، هل كان سيتوقف الموت؟
عداد الموت لم يتوقف منذ حينها. يدي على قلبي وهو يقترب أكثر.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 16/04/2021