ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
يقول إرنست همينغواي: «العزلة هي وطن الأرواح المتعة» والشاعر مثل الفراش له رهافة الحرير تخدشه نظرة بلاستيكية، كلام ملوث، حدث حجر أو نسمة نشاز فكيف والهواء يلوث الهواء؟
صحيح أن عزلة الشاعر جد ضرورية وهي حاجة ملحة لكي يبدع وينجز أعمالا مميزة ، وأكاد أجزم أن من لا يملك أن يصنع لنفسه عزلة تشبع حاجته الروحية، لا يملك أن ينتج أعمالا عظيمة بحجم تطلعاته. لكن الشاعر في الوقت الذي يرنو إلى العزلة والاختلاء، لايمكن أن نغفل أنه مخلوق جبل على الحرية والطيران، يعشق منادمة النجوم ونجوى البراري والأنهار والغابات، وهنا أستحضر نص بودلير « L albatros» الذي يشبه الشاعر به. فالشاعر الحر سيد السماء، والحرية شرط من شروط الإبداع، فلا وقت يحد من تحليق الشاعر ولا مكان، ربما تختلف عنده الكثير من نواميس الطبيعة فينسقها وفقاً لأمزجته المتحولة دائما. لذا ما مر بنا من عزلة جبرية بسبب الوباء اللعين جعلنا نفقد بوصلاتنا كلها، ونحن نواجه مفاجاءاته الصادمة التي لاتنتهي للآن حتى صرنا نمارس طقوس الكتابة كالشعراء الذين في المطامير والزنازين يغنون بحسرة هائلة لمن وراء جدرانهم الغليظة. لقد فقدنا الكثير من الأصدقاء ومع كل فَقْد، نشيخ دفعة واحدة وكما يقول جبران نحن نموت بطريقة الأجزاء كلما رحل صديق مات جزء منا ، وحينما يأتي الموت الأكبر يجد كل الأجزاء ميتة فيأخذها ويرحل. أي أكيد أن الموت شرط من شروط الحياة، ووجهها الآخر، لكن الموت بهذه الطريقة البشعة مخيف جدا ويجعلنا نتساءل ثم بعد؟
لاتزال صورة الإيطاليين وهم يتساقطون كالجراد على أرصفة ميلانو لاتغادر كوابيسي ،ولا أيضا صورتهم حينما عجزوا أمام الوحش ونزلوا بالشموع يودعون الحياة. مشهد جدير بأفلام هيتشكوك.. الموت ليس هو ما يخيفنا، ما يخيف هو أننا تحولنا إلى طرائد وكل يوم ننظر إلى سلة القناص، وننتظر دورنا كما قال الماغوط: إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى ، الخسارة الكبرى هي مايموت فينا ونحن أحياء . نعم أصبحنا موتى أحياء حينما فقدنا الأمل وفقدنا حرية التجوال وحرية التواصل الطبيعي، وأصبحنا لانملكنا بل لسنا إلا مجرد كراكيز في مسرحية كبيرة تسمى الحياة، وصارت قصائدنا تشبه برقيات التعازي أو البكاء على الأطلال. طاقة هائلة من المقت والضجر تشع من صحائفنا في لحظات البوح، لقد تعودنا أن نكتب وقتما نشاء ونقرأ وقتما نشاء، ونستمع إلى الموسيقى أو نتمشى مع الأرصفة التي لا تدري إلى أين تنتهي ومتى تعود متى نشاء، لكننا في أيام الحجر أصبحنا مجبرين على أن ننفق الوقت وفق ما يشاء هذا الزائر المقيت. بدأنا نتلمس حقائق مخيفة وكأننا في لعبة كونية هائلة تحركها إرادات غامضة ونحن أدوات أو بيادق. نقول غامضة حتى وإن دلنا ذكاؤنا على نتائج تسبر هذا الغموض لأن متغيرات الراهن تداهمنا دائما بما لا نتوقع.
أن تعي حجم المؤامرة و أنك لعبة تحركها لوبيات، شعور كئيب تحس معه بالعجز والسخط والغضب. فالوعي لعنة مرات ومنفى على حد تعبير سيوران. الإحساس بأن هناك من يرسم حياتك وأحلامك وحركاتك يودي بك إلى اليأس وفقدان الثقة في حاضرك وغدك،وهنا أستذكر ماقاله جوزيه ساراماغو : أرى أنّ التشاؤم هو فرصتنا الوحيدة للخلاص، وأنّ التفاؤل شكل من أشكال الغباء .. أن يتفاءل المرء في أوقات كهذه ينمّ إمّا عن انعدام أي إحساس، أو عن بلاهة فظيعة .. وإزاء بشاعة الحقيقة وخير ما نفعله هو أن نصمت كما قال دوستويفسكي .
صحيح أن الكثير من الشعراء كتبوا أجمل قصائدِهم من وراء قضبان، وإطلالة على أدب السجون تؤكد قولي. للإشارة أنا هنا لست بصدد التصدي لأسمائهم لكن تبقى لامية أبي فراس الحمداني خير مؤشر لأدب الجدران، ونصوص عبداللطيف اللعبي في الوقت الراهن وغيرها وغيرها كثير. لكن حين أتحدث عن الحالة النفسية للمبدع، فأجد أن من الظلم أن لا يغترف من كل شطآن الحرية والتمرد كي تصلنا قصائده بالرغبة التي يشاء. في أيام الحجر صرنا نلوذ بالجدار الأزرق ومواقع أدبية أخرى وتقنية الزوووم وسكايب، لكن نجدنا دائما في دائرة الغياب والتغييب. قرأنا كثيرا وكتبنا كثيرا ولوحنا بسعفة الحياة بوجه ذلك الشبح القبيح كثيرا أيضا كي نبعده عن لحظاتنا لكننا مازلنا نتوق إلى أيامنا التي ألفناها قبل حلول هذا الزائر المقيت.