عام من العزلة 16 – مراد القادري: عَامْ التّوَحْدَنِيتْ

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

وُلدْتُ في زاوية، ونَشأتُ في مقهى. فكيف يُمكنُ لي أنْ أتعايشَ مع العُزلة أو أنْ أتحدّث عنها. كيف يُمكنُ لي أنْ أرتضيَها أو أقبلَ بها أسلوبًا للحياة والعيْش… وأنا منذُ أن عَقِلتُ وأنا مشدودٌ إلى الجماعة، مربوطٌ إلى أفقها، حتى أنّي اخترتُ أنْ أصوغ رُؤيتي الشّعرية بلسانها الدّارج. لذلك، فعندما حلّت الجائحة، واقتضى الوباءُ أنْ ندخلَ في عُزلة الحَجر، بدا الأمرُ بالنّسبة لي جَحيما حقيقيا. كيف سيكونُ «روتيني اليومي» بلا مقهى الصباح والمساء، وبدون مُتعِ السّفر وترانزيت المطارات وتنّورات مُضيفات الطيران…؟ كيف ستكونُ الحياة وقد تكمّشَ اليومُ فيها إلى النّصف، وصار لِزاما علينا أن ندخلَ جحُورَنا وننام باكرًا كالدّجاج؟
لستُ من بُرج الدّجاج. أنا من بُرج الثّور، الذي يقولُ عنه الفلكيّون أنّ أصحابَه حريصُون على الحياة الاجتماعية ومُتشبثون بأجوائها. فكيف يُمكنُ لمن وُلد «ثوْريّا» بزاويةٍ تعُجّ بالزوار وبالمريدين، وتضجّ بتراتيل الذّكر والقرآن الصّاعدة إلى عنان السماء، وبأصوات الباعة في مدخلها يبيعون قراطيس الشّمع، وبنحيبِ القادمين للترحّم على موتاهم في المقبرة، أنْ يعيش العُزلة؟ وكيف يمكنُ لمن نشأ في مقهىً شعبي بمدينة سلا، حيثُ أنفاسُ روّادِه من حِرفيين وصنّاع تقليديين تتعالى مضفورةً برائحة «الكيفْ» وهي تردّدُ سراباتِ الملحون ونوباتٍ أندلسية، مُتحلّقين حول كؤوس الشاي والكارطا، كيف يمكنُه أنْ يقبل بالعزلة؟
ها أنت اليوم في عُزلتك الجديدة، تخلقُ زاويةً ومحرابا صغيرا داخل نفسك، تلوذُ إليه لتصنع ذاتك، وتُنصت لعظامك. ها أنت يا سليلَ المقهى ترضى بالعزلة بماهيَ ركن ٌفي مقهىً صغير، كما كان مقهى الوالد، الذي اختبرتَ فيه الوحدة وتدرّبت فيه على صداقة الكتاب.
ها روحُك من هذه «الزاوية» و»المقهى» وقد تمّت إعادةُ صياغتهما من جديد، ليس كمكانين واقعيّين، بل كملاذٍ استعاري، تستطيعُ أن تتخيّل سماءً ملهمة، وأن تسير تحت ضوئها لاكتشاف ذاتِك التي كثيرا ما فقدْت أثرها في خضمّ ضجيج الحياة…
تستطيع أنْ تسمّيَ هذه السنة ب»عام التّوَحْدنيتْ» كما فعل أجدادُك وآباؤك الذين أرّخوا سيرهم بأعوامَ حملت صفات وسمات، كعامْ الفيلْ، وعامْ الوِيلْ وعامْ البُونْ. فأنت لست أقلّ نبوغا منهم، ومن حقّك أنْ تنحتَ لوقتك اسمًا وتسجّله كماركة شخصية شاهدة على لحظةٍ استغْوَرت فيها قعرَ الرّوح وواجَهت خلالها ضرُوب القلق والخوف من هذا الفيروس الذي دفعنا جميعا إلى مضايق الوحدْة و العزلة.
«عام التوحدنيت» تسميةٌ لائقة بهذه السنة، التي ستلتصقُ في ذاكرتك بالتّجربة التي عِشتها لمدة ثلاثة أسابيع موزّعة بين غرفة الإنعاش وغُرف العزل في المستشفى بعد إصابتك بالوباء. صحيحٌ، أنك لم تكن وحيدًا، فقد كانت تصلُك دعواتُ الأصدقاء والأحبّة وتضرعاتهم بالشفاء وعودتك سالما إليهم. حتى وأنت وحيد، كنت موقنا بأنك لست وحيدا. لم تتشابك يوما مع أنيس الرافعي، بنفس الدرجة من المرح والصدق، كما حصل وأنت في المستشفى. كان يحرصُ كلّ مساء أن يخفف عليك الشّعور بالوحدة والعزلة، فيبرقُ لك برسائل نصيّة قصيرة، تبادلُه مثلها مُستعيدين لحظات مشتركة هنا وهناك، فتضحك، حتى تدمعُ عيناك، نفس العينين اللتين ذرفتا الكثير من الدموع و هي ترى حجْم المحبّة التي غمرك بها الأصدقاءُ خوفا عليك من وباء هذا العام القاتل. كيف تشعرُ بالعزلة، وصوت امحمد كرين يصلُك من بيروت، ومن الشارقة، يُهاتفُك حسن النفالي، وخالد واحي من أمريكا، والكثير الكثير ممن تواصلوا مع الأهل من أجل الاطمئنان عليك؟ كيف تغلبُك العزلة، وأنت في غرفة العزل بالمستشفى، ترى أحبّةً لك التفّوا حول الصديق السي محمد النجار في بادرة روحية بالزاوية القادرية، وهم يقرأون لك «السّلكة» عسى الله يجعلك من السالكين من هذه المحنة.
هو عامٌ صعب. اختبرتَ فيه العُزلة كما لم تعْرفها من قبل. حتى أنّ رفيقَك في غُرفة العزل، السي محمد بلفقيه، الرجل الآتي من جنوب المغرب، ذلك ما أوحتْ به نبرتُه وهو يدخلُ عليك الغرفة ليقتسمَها معك، هو الآخر سيغادرُ إلى مكان آخر في السماء. لتظلّ وحدك في الغرفة. كان السّي محمد بلفقيه رجلا بأكثر من مرض، ورغم ذلك، فإنّ الكوفيد لم يشفقْ عليه. شارك معك أسبوعَه الأخير في ليالي العزل، في ليلته الأخيرة، كان يتألمُ بشدة. لم تقدرْ على النوم، وفي الصباح، سادت سكينةٌ غير معهودة في الغُرفة، التفت، في لحظةٍ، نحو سريره لتطمئنّ عليه، كما جرت العادة طيلة مدة رفقتكما، لتجده وقد غادر عالم الأحياء.
عامُ العزلة، لم يكن ليكتملَ دون حدثٍ بهيج، يتعلّق الأمر بصدور ديوانك الخامس» ومخبّي تحت لساني ريحة الموت». ديوان يحتفلُ بالغياب، ويومئ بتلويحات مناديل الفقد نحو الشعري فينا، نحو هشاشتنا وضعفنا وعزلتنا. في كل قصيدة من الديوان، ثمة شيء غائب أو منذور للغياب. على أن هذا الغياب، لا يقدر أن يمحيَ كلّ الأثر الذي يظلُ شاهقا بحضُوره. لذلك، ففي كلّ قصيدة أثرٌ بارز، لا تخطئه العين، يتخلّفُ من رماد الموت ويتبقّى من هسيس الغياب. ولربمّا كان غياب السي محمد بلفقيه، رفيقي في غُرفة العزل، هو الآخر حالة شعرية، تشرّبتها بروح الشعر، فكان الديوانُ هو الأثر، وكانت قصيدة « الرّجُل اللّي كانْ» (ص22/25) تعبيرًا عن حالة الفقْد الفُجائية التي تداهِمُ بطلَ القصيدة، راكبَ القطار المسافر إلى وجهة ما، وكان معه رفيقُ عربة. رجلٌ طيّب كلما التقت عيناهما ابتسمَ له في لطفٍ ومودّة. وفي لحظةٍ معينة، يغفُو بطلُ القصيدة، وعندمَا يَستفيق، يجدُ رفيق العربة قد غادر القطار… لكنه، على الرغم من ذلك، مازال يستشعرُ حضورَه أمامه، فقد ترك في داخله أثرا من وجُوده.
ربما، تصدُقُ القصيدةُ على حالتنا أنا والسّي محمد بلفقيه. لقد كنّا معًا مُستقلّين «قطار الحياة»، غير أنه في محطة ما، فضّل النزول والمغادرة دونَ أن يثيرَ انتباهي. غادر وقد تركَ فيّ شيئًا منه.
فْ التْرانْ،
الرَّجْلْ اللّي قُـدّامِي سَاكْتْ،
بايْنْ نــَـابْتْ فْ جْـذرْ شِي شَجْرة،ْ
مَعْزُولْ، بْـــحَالْ شِي حَجْرَة
و زْوينْ كِ شِي صْباحْ
شْفْتْ
فْ مُومُّو دْ عِينِيهْ دَمْعَة قَاصْحَة
حَالفَة مَا تَـنْزلْ،
شَفْتْ شَلّالْ نْاشْفْ
و فَاكْـيَة دَازْ وَقْـتْـها،
شْفـْتْ نَـــــارْ فْ حْـلْـقُـو شَاعْـلَة،
الرَّجلْ
اللّي قُـدّامِي جَالَسْ
الطّالعْ مْـن عَـتـْبَة الحَيَاة
بْ جْـنـاحْ مكْسُورْ،
كَانْ
تـَـــــيْـضْحَـكْ ليّا
كُـلْما عِينِينَا تْلاقَاوْ.
و كلمَا الطْـريقْ طْـوَالَتْ
كانْ الرّجلْ تَـيَحْــلَى …فْ سْكاتُو.
فْ الطـّريقْ…
قُـلْتْ نْغَمَّضْ عِينِيّا،
و كِ فَـقْتْ،
كانْ الكُرسِي اللّي قُـدّامِي خَاوِي
كانْ سْكَاتُـو بَاقِي فيّا ضَاوِي
الـرّجل اللّي كانْ
يَضْحَـكْ ليّا،
خَلاّ شِي حَاجَة مْـنّـُو فيّا
وْنْـزَلْ…


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 01/05/2021