عام من العزلة -18- رشيد باخوز: الاقتراب من النفس العميقة

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

لقد جعلت جائحة كوفيد 19 الكل يغلق أبوابه ويختفي محتاطا من الإصابة والعدوى، ظاهرة عالمية لم يسبق لها مثيل حيث يتحد العالم أجمع على الانغلاق والعودة إلى الداخل، داخل الدور أولا، وإلى الذات، داخل الإنسان الذي فينا.
وضعتنا هذه الجائحة أمام أسئلة شائكة وعصية، كل واحد منا حاول أن يجيب عنها أو يبحث عن الإجابة بطريقته الخاصة، وهو يقترب من نفسه العميقة ومن أقربائه.. لم نعد قادرين على التحرك خارج البيوت، فحوّل كل منا مقر عمله إلى غرفته. وحوّل الفنانون منازلهم إلى ورشات ومراسِمَ، بعدما استعصى عليهم الذهاب إلى مقر إبداعهم وإلهامهم، وقد كنت واحدا من هؤلاء الذين بقدر ما عادوا إلى ذواتهم وأقفلوا أبواب منازلهم على أنفسهم وذويهم، جعلت من البيت ورشة ثانية بعدما استحال مغادرته للذهاب إلى المرسم.
لم يقتصر «ضرر» الجائحة على عدم القدرة على التوجه إلى الورشة لإتمام ما قد تمّ البدء فيه أو البدء في مشاريع أخرى، بل تعلق الأمر بإلغاء معارض شخصية كانت مبرمجة في السنة الفارطة، بالإضافة إلى معارض دولية خارج المغرب التي تستدعي الحضور في المكان، والتي تخص فن النحت، كما هو الحال مع سامبوزيوم النحت beauce art de la sculpture بكندا. ولم يعد بالإمكان إنجاز الأعمال الكبرى ذات الأحجام الضخمة، فالظرفية جعلتني أتكيّف مع الحال، داخل البيت.. غير أني سأستثمر الأمر لصالح الاشتغال على الأعمال الصغرى، ذات الأحجام المتوسطة والصغيرة. وهذا ما حدث وقد فرضت الجائحة نفسها على مواضيع تلك الأعمال التي تمّ عرض مجموعة منها خارج المغرب.
لقد جعلتني الظرفية الوبائية أرجع إلى داخل الداخل، وبتعبير أدق أعود إلى أعماق الذات لأبحث عن تجديد الرؤية والرؤيا، فاسحا المجال لتجريب طرق جديدة ولأوضب بعض الأمور المتروكة إلى حين، وأخوض في معاركة الأفكار للخروج بتجربة مغايرة، وأيضا إعادة الاهتمام بما أجلته من كتب ذات صلة بالأدب والفن.. إذ لا يمكن فصل العمل الفني عن فعل القراءة لما تفتحه هذه الأخيرة من إمكانية الخيال والتخييل، ما يعزز ملكة الإبداع الفني لدى الفنان.
لقد تنامى لدي بـ»فضل» الجائحة رابط الأسرة، بعد مدة طويلة من إقفال الباب رفقة أفراد عائلتي الصغيرة، لأقترب أكثر من عالم ابنتي.. لهذا فلا يمكن إنكار «فضائل» هذه الظرفية القهرية، رغم ما أحدثته من «أضرار» معينة، إلا أنها جعلتنا أقرب إلى ذوينا وأنفسنا.
لقد عشنا فترة صعبة اعتراها الترقب والتوجس من المجهول الذي يطرق أبوابنا كل لحظة، وصرنا أكثر ارتباطا بالأرقام والأعداد، نعد الأيام والساعات ونعد الضحايا والمصابين، ونترقب لحظة الانفراج والانعتاق والخروج إلى الشارع، وهذا ما حاولت التعبير عنه في مجموعة من الأعمال التي جاءت إلهاما من ظرفية الجائحة.
في ما يخص التفكير في ما بعد الجائحة، التي نرجو أن تزول غيمتها السوداء قريبا، فيتعلق الأمر في هذه الحالة، بإعادة الشروع في المؤجل بسبب ما فرضته هذه الظرفية من تأجيل قسري… وأيضا العمل على إعادة التفكير في حيثيات جديدة للمعارض القادمة تمس الإنسان المعاصر في هشاشته وضعفه وأيضا قدرته الرهيبة على التكيف والتأقلم، والانتصار على كل طارئ يهدد بقاءه على هذه الأرض.. نحن مدفعون بغريزة البقاء التي بقدر ما تجعلنا نتكاثر فيه، تدفعنا إلى الإبداع والفن، كحل نهائي من هذا الشقاء.. فالفن وحده هو الحل.
وفي محاولة لإعادة بلورة تجربتي الفنية الخاصة، تماشيا مع الوضع الحالي الذي يفرض علينا إعادة التفكير في الجسد وجودا وسندا وموضوعا.. فنحن نوجد في العالم بصفتنا أجسادا تنبض بالحياة، يتفاعل معنا الناس ظاهراتيا، بتعبير فلاسفة الفينومينولوجيا، ونحن نبادرهم بالتصرف ذاته، قبل أي تفاعل جواني عماده ملامسة الروح البشرية.. فإن كان الخط والحروفية عندي تتجه صوب هذا العمق الدخلاني، فإني توجهت إلى دمجها مع الجسد، في تشخيصية تتخذ من الحروفية فضاءً وتعلي من الحضور الجسدي. كأن الشخوص تنبثق من سديم الأحرف، وتبرز إلى عالم الظاهر نابعة من عالم الباطن، بتعبير أهل التصوف. أحاول جاهدا في هذه الأعمال أخيرة أن أوائم بين ثنائية الروحاني والجسدي، التجريدي والتشخيصي، اللامرئي والمرئي.. وهذا كان عنواناً لأحد معارضي الأخيرة، الذي أقمته في فيلا الفنون بالدار البيضاء. فعملية التوليف هذه بقدر ما تبدو متناغمة ومتجانسة، فهي صعبة في ذات الوقت، إذ يصعب الجمع بين النقيضيْن، والمتنافريْن، للخروج بعمل فني يصير نسيجا منسجما مع نسيج العالم. فليس الغرض من العمل الفني إعادة قول العالم ومحاكاته، بل إبراز جوانبه الخفية والإنسانية الهشة والمهملة والمنفلتة، التي تضع المتلقي أمام أسئلة جوهرية تمس كنه الوجود، للخروج بحلول للأزمات أو على الأقل ملامسة مكامن الخلل.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 04/05/2021