عام من العزلة 23- محمد بودويك: مَدينٌ للعزلة وللأدب

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

تصبح العزلة ملاذا نبويا، وموئلا عُلْويا، وفيئا قدريا، واختيارا ملكيا متى ما تمظهرتْ حاجةً نفسيةً ملحة، وإملاءً روحيا مُنْثالاً. هي ذي العزلة التي نذهب إليها بمحض إرادتنا، وبَحْثِ مسعانا إلى الغوص عميقا في دواخلنا وجوانيتنا. في لحظتنا الوجودية الواعية واللاواعية. في موجوديتنا، وسر وجودنا، ومغزى علاقتنا بالأنا والهو والغير. بالعالم والكون والأشياء، وإلى ركوب التأمل سبيلا إلى معرفة من نكون، أو محاولة ذلك؟ ولِمَ نحن في الكون؟ ولِمَ يحدث ما يحدث أمامنا من عسف وانهيار وحطام، ودوس يومي علني على القيم والمثل العليا التي جهدت الإنسانية في تثبيتها وترسيخها عبر الأحقاب والأزمنة، ببحثها واجتهادها، ونضالها، وعلمها، ودمها. فالعزلة الاختيارية التي اصطفيتها واسْتَبَتْني بشرر وُجوبِها وشرطها وضرورتها، هي غير العزلة القسرية الاضطرارية التي اقتضتها جائحة رَعْناءُ، وفرضها وباء كاسح ساوى بين الشمال والجنوب، وأزْرَى بالفتوحات الطبية، والبحوث المخبرية الدقيقة إلى حدود الساعة.
عزلتي التي اصطفيت حبيبةً أنيسةً، وصاحبةً وفيَّةً، وشهرزاداً ساردة وشاعرة، في ما بعد كهولتي تعييناً، هي ما وجهني وأثْراني وقادني إلى سويّة الكتابة، وإلى نهج التصافي مع الذات، والإنصات مليا إلى ما أقرأ، والإصاخة بسمعي الباطن إلى نبضات الفكر، ونسائم الفن، وريحان الشعر، وروح الحكي والسرد، وبلسم الغناء والموسيقا العذب والشافي. والنظر بعين القلب في مظان ومتون كتب أسلافي وآبائي، وأصدقائي الموتى والأحياء، واستيحاء جذوة وجوهر ما كتبوا وحبَّروا، ونثروا، ليكون لي بوصلة هادية، وضوءا ساطعا في ليل أيامي ومعاشي؛ وما يتلامح في الأفق من مرئيات ولا مرئيات، رصيدي، ومتاعي، ومصدري لإغناء ثقافتي وإبداعي، ورأيي في النوازل والمستجدات.
وإذاً، هي عزلة شخصية فردية مطلوبة في ما يخصني ككاتب، وصاحب رأي يعمل على طرحه فَضْفَضَةً، أو بناءً متماسكا له أثر ونفاذ، أو إشاحة وإبعاد.
ولم أكن في ما مضى من أيامي: في ميعة صباي، وشرخ شبابي وفورته، ونضوج اكتهالي، معتزلا ولا متوحدا، بل كنت أحيا للآخرين، ومع الآخرين. كنت اجتماعيا بامتياز. يشهد لي على ذلك ـ من دون ادعاء، ولا تباهٍ معلول ـ نضالي السياسي والنقابي، والثقافي. وهي النضالات التي ترتبط أيما ارتباط بالفئات الشعبية المغبونة. كما يشهد على ذلك عملي الجماعاتي داخل الجماعات الترابية. فقد خضت الانتخابات البلدية والجهوية، وتحملت مسؤولية التسيير والتدبير بلديا وجهويا لفترات طويلة، ما تطلب احتكاكي اليومي بالساكنة، والتواصل شبه الدائم مع الناس الذين صوتوا عليَّ لأكون لسانهم في بلدة رباط الخير، وفي جهة فاس / بولمان، قبل أن تصبح جهة فاس / مكناس.
فهل أكون تعبت وشقيت لأتخلص، وقد تقدم بي العمر، من عبء العمل الجماعي والاجتماعي والسياسي؟ نعم، ولا. نعم، لأن الكتابة الإبداعية تستوجب الإخلاص لها، والتوحد معها، والاعتزال من أجل عيونها. ولا، لأن سنوات النضال تلك علمتني أن أحب الناس، وأحترم الناس، وأسعد إذا حققت لهم بصيصا من آمالهم، وقليلا من مطالبهم. إنها سنوات أعتز بها أيما اعتزاز. فلَطالَما عدت وأعود إليها لأستلهمها، وأبني بها جسدا أصبح يتهدم. ونَفْساً لا تَنِي تقاوم وتعاند لتبقى حييّةً متوثبةً.
وقد أمكن، خلال العام الموبوء الذي حكم على الكون ولايزال، بالتباعد والحيطة والحذر حتى صار الكل ينظر إلى الكل نظرة توجس، وارتياب، وهلع بما هما معا مصدرا وباء، وحاملا موت لا يُرَى ولكنه يفتك، في هدوء غريب، بكل من يلامسه، أو يعطس في وجهه. أمكن خلاله أن أعود إلى كتب خِلْتُ ان الوقت لن يسمح بقراءتها أبداً بالنظر إلى إكراهات الوظيفة، وظروف العمل، والاقتهاء مع الأصدقاء، والسفر المتاح قبل 2020، أي قبل عام الجائحة.
أكداسٌ من الكتب، والسلاسل، والموسوعات بلغتنا، وبلغة موليير، وشكسبير، تنظر إليَّ والحسرة تأكلها. وأنظر إليها نظرة العاجز الذي يرى الأيام تجري، والعمر يتقدم، والعنفوان يخبو، وهو، بالكاد، يسهر مع مجموعة شعرية أو رواية. فالحاسوب ينتظر، وكتابة مقالات الرأي تضغط. وهكذا، بدأت يدي تتسلل إلى رفوف مكتبتي. يدي الواثقة الجذلى التي تلامس بشغف ولهفة كطفل، كتبا في الفلسفة، والشعر، والفكر، والرواية.
وكان أن قرأت ما أرجأتُ مراراً. قرأت: (رسالة في اللاهوت والسياسة) لسبينوزا، و(ابن مشيش شيخ الشادلي) لزكية زواناتْ. و(الأمير والداهية) لمحمد شوقي الزين، و(الكينونة والزمان) لهيدجر/ ت. فتحي المسكيني. و(أنبياء سومريون) لخزعل الماجدي، و(دوامات التدين) ليوسف زيدان، و(روح الدين) لطه عبد الرحمان، فضلا عن سلسلة (مفاهيم) لعبد لله العروي. وأعداد معتبرة من (عالم المعرفة)، و(عالم الفكر)، ومجلات بيت الشعر في المغرب من دون أن أنسى عشرات المجاميع الشعرية، والأنطولوجيات الخاصة بالشعر الفرنسي، والشعر الأنجلو ـ أمريكي.
وقد تأَتَّى لي أن أكتب، في عزلتي التي ضاعف من حدتها وتكريسها العزلة القسرية الإرغامية، كتباً صدر منها قبل أيام، كتاب بعنوان: (في أعطاب النخب)، وكتاب نقدي ينتظر النشر القريب عنوانه: (حُداة الظلال.. رُعاة المرايا). ومجموعة شعرية جاهزة، أفكر في الدار التي ستنشرها.
كما أعكف على إنهاء كتاب حول الفن الغنائي، وعباقرة النغم في القرن العشرين: مصريين ولبنانيين ومغاربة. بعد أن رفعت يدي استسلاما، وأقلعت عن مواصلة مقاربة بدتْ لي أكثر من شاقة وأكبر مني، وهي وضع اليد على جماليات الشعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث. غير أنني ربحت جولاتٍ لا أمتع ولا أفيدَ وأنا أقرأ عشرات المُسَمَّطات، والقصائد الشعرية العصماء.
وهكذا، فالمعتزل يعتزل، عادةً، لخوفه من المطابقة، وتوجسه من الموقف المشترك المسطح، والضحالة التي يسقطنا فيها انفعال جماعي، واندفاع نهريٌّ منفلت، ويعتزل اتقاءً للنميمة والاغتياب الذي يسود، أحيانا، وسط الجموع والأصحاب والزحام.
(إننا إذا فقدنا قدرتنا على العزلة، على أن نكون وحدنا مع أنفسنا، تقول الفيلسوفة والشاعرة الألمانية/الأمريكية حَنّا أَرَنْتْ، فإننا نفقد قدرتنا المباشرة على التفكير، ونخاطر بأن نُحاصَرَ من الحشود).


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 11/05/2021