عام من العزلة 5 : كمال عبد اللطيف: عام الهشاشة والأمل

ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».

 

مرت سنة كاملة على انتشار وباء كورونا، مخلِّفة العديد من الضحايا من كل الأعمار ومن كل فئات المجتمعات في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، سَنَةٌ جَرَّبَ فيها الإنسان الحجر الصحي والتزم بقواعد جديدة في العيش، منتظراً إمكانية إيجاد الحلول القادرة على إبطال مفعول اﻟﭭﻴﺭوس والحدّ من انتشاره.. تعطل كثير من طاقات وقدرات البشر أمام غموض الوباء وسرعة اختراقه لكل المجتمعات البشرية. وبعد مرور هذه السنة، يجري الحديث اليوم عن موجة جديدة أسرع من السابقة وأكثر فتكاً، يحصل هذا زمن انطلاق حملات التلقيح في العديد من الدول، بكل ما تحمله من آمال مرتبطة بمواجهة وقائية، يفترض أن تساهم في محاصرة الوباء ووقف سهولة انتشاره..
يُواصل ﭬﻴﺭوس كورونا احتلال الصدارة في مختلف المجتمعات، ولا تزال تحوُّلاته وأصنافه تتناسل وتنتشر، مُخَلِّفَة كثيراً من الخوف وكثيراً من الألم. يرتفع عدد الضحايا ثم يتناقص، تَتِمُّ تعرية صوَّر النقص المهول في البنيات الصحية سواء في المجتمعات الغنية أو الفقيرة، تليها لحظات من الصمت عن نقص الأكسجين وعدم كفاية الأجهزة اللازمة للعلاج عند ارتفاع أرقام المصابين.. فيزداد الخوف وتتضاعف إجراءات الحجر.
تواصل الحكومات إصدار القرارات والإجراءات المُعَزِّزَة لمبدأ الْحَدِّ من التجمعات والاختلاطات، تغلق المقاهي والمطاعم والمسارح وقاعات الحفلات، ثم يفتح بعضها لساعات محدودة خلال النهار وبشروط خاصة، الأمر الذي يضع الحكومات أمام مبدأ الْحَدّ من الحريات الفردية والخاصة، رغم ما يثيره ذلك من أسئلة في موضوع أدوار الدولة في المجتمع، وأدوارها بالذات زمن الأوبئة والكوارث الطبيعية.. هذا دون الحديث عن الآثار التي خَلَّفَها الوباء في مختلف أوْجُه الحياة، في نمط العيش وفي الاقتصاد وفي الموقف من الحياة والموت، وكذا في مختلف الآثار النفسية والاجتماعية المُتَرَتِّبة عن كل ما ذكرنا، وهي آثار تخترق اليوم وجود الإنسان لتكسر بكثير من العنف أنماط العيش التي استأنس بها، وصنعت مختلف مساراته في الحياة، فجاءت كورونا لِتُوقِفَها وتضع شروطاً جديدة لعالم جديد، شروط التعايش مع الوباء، حيث لا بديل اليوم والآن، عن مبدأ التعايش مع الوباء وذلك بمراعاة المقتضيات الضرورية لذلك.
مَرَّ عام كامل على بروز ظاهرة انتشار الوباء في الصين ثم في أوروبا والولايات المتحدة ثم باقي مجتمعات العالم، وبروز مختلف النتائج التي تَوَلَّدَت عنه في مختلف المجتمعات، مئات الآلاف من الضحايا، هشاشة البنيات التحتية الطبية في مراكز الاستشفاء الخاصة والعامة، صعوبات المواكبة العلمية للظواهر المرتبطة باﻟﭭﻴﺭوس وتقلُّباته وصوَّر انتشاره، أشكال من الانقباض النفسي حَوَّلَت الكائنات البشرية وخاصة في الأشهر الأولى لبداية انتشار الوباء إلى كائنات خائفة.. ولم تتردَّد الفضاءات الافتراضية بدورها في تركيب عوالم موازية لعالم الواقع، وكانت البداية بإشاعة أساطير النهايات ورسم عوالم ما بعد العالم، نهاية الحياة، نهاية الكون والبشر.. وقد لاحت علاماتها الأولى في أعْيُن من ينتظرونها ويُعَمِّمُون صوَّرها.. تَوَقَّف الإنتاج، واتَّسعت مظاهر البطالة، أغلقت المدارس والجامعات، كما أغلقت المعامل والمقاولات، وملأت أخبار الضحايا الفضاءات السمعية البصرية وهي فضاءات جديدة ولا عهد للناس بها، فتضاعفت عوالمهم وتنوعت وقائع حياتهم، لتزداد توتراً.. كورونا في الواقع وكورونا في سرديات فضاءات التواصل الاجتماعي، ارتفعت درجات الفقر والهشاشة، وشملت كثيراً من فئات وقطاعات المجتمع..
استأنس البشر خلال السنة المنصرمة بخوفهم، وضعوا الكمَّامات على أَوْجُهِهم وتبادلوا الحديث عن بعد، التزموا بقواعد الحجر الصحي والعزْل الاجتماعي والتباعد الجسدي.. لا سلام ولا عناق ولا ربت على الأكتاف ولا لمس ولا ملامسة، التباعد لغة الوقت.. لا خروج ولا تسوُّق ولا ركوب في الطائرات والقطارات والحافلات، ولا فسحة ولا سفر، تَكَيَّفُوا مع متطلبات عالم جديد من صنع ﭭﻴﺭوس كورونا، عالم أصبح بمذاقات أخرى، مرارات أخرى، لا وقت للأفراح ولا لتبادل العزاء، وبحكم الغموض الذي لَفَّ كثير من أوجُه الحياة، اختلطت كثير من الأمور، استأنس الناس بالغموض الذي يَلُفُّ موضوع اﻟﭭﻴﺭوس ويرتبط بمساراته وتحولاته، والغموض المرتبط بحضوره وبآثاره، غموض المعرفة العلمية وغموض ما يتم تداوُله في الوسائط الاجتماعية.. واستساغوا قَسْراً وكراهية قَبُول كل ما سبق، أَمَلاً في أشهر من العيش قادمة بلا مُنَغِّصَات، وأَمَلاً في نمط آخر من العيش الجديد بطرق وأساليب أخرى .
وضع البشر الأقنعة على وجوههم، وحملوا انقباضهم غضبهم، خوفهم، حزنهم في العيون وفي الحركة، وعانقوا آمالهم العريضة في اقتراب الفرج.. حملوا كل ذلك صامتين وكاتمين الغيظ الذي أصبح يملا قلوبهم.. مَرَّ عام كامل على الأحوال نفسها، وبدأت في الأشهر الأخيرة عمليات التلقيح، شملت فئات من البشر ينتمون إلى قطاعات معينة الصحة، الأمن، التعليم.. أو إلى سنوات عمرية محددة، الشيوخ والعجزة أولاً، في انتظار تعميمه بعد توفره على من تبقَّى من الساكنة.. وتكاثر الحديث عن أصناف اللقاحات، ومخاطر بعضها، وتواصل اﻟﭭﻴﺭوس حاضراً بأشكاله الجديدة وموجاته التي لا تنقطع ولا تخفت إلا لتعود من جديد، وأحياناً بكثير من الشِّدَّة والسطوة والفزع.. يُواصل اﻟﭭﻴﺭوس حضوره، يمارس جبروته الصامت ويواصل البشر عزلتهم بأعين شاخصة ووجوه لم تعد ملامح تعبيرها قادرة على نقل ما يدور بدواخلهم..
مَرَّ عام من العزلة.. وها نحن نعاين انخراط الجميع اليوم في عمليات التعايش القسري مع الوباء ومقتضياته، يتواصل الخوف ويستقر بتواصل أخبار الضحايا، أخبار الموت والموتى وتضارب سوق اللقاح وأسواق العلاج، وتغييب مؤسسات التضامن والتآزر الوطنية والدولية.. ويبدو أنه لا يوجد اليوم مخرج قريب من الضائقة بعد أن عَمَّت واستقرت.. لم نعد ندرك أسباب العزل المرتبط بالخوف، وبدأنا نتأكد أن العزل القسري حدث مناقض لآدمية الإنسان.. إن قوة ما يحصل في الذات أيام وأشهر الحجر يستقر في تلافيف الجسم والوجدان، ويُحْدِث رجات نفسية وجسدية يصعب التخلص من آثارها المباشرة وآثارها القادمة.. أما أفعال المقاومة وأنماط التفاعل والتعايش وقيم التفاؤل والتعلق بالحياة، فإنها تظل مجرد مُسكِّنات مؤقتة، مُسكِّنات تمهد لسقوط بعضنا المنتظر أمام تلاحق ضربات الموجات الجديدة والمتحولة من كورونا ومن أخواتها المحتملة الحصول.. عمت الهشاشة وصنعت عوالمها في بيوتنا، وبدأنا نلجأ إلى قاموس في اللغة مكافئ لأحوالنا.. إلا أن كل هذا الذي عرفناه طيلة سنةٍ مرَّت، لا ينبغي أن يدفعنا إلى فقدان الأمل، الأمل في الإنسان وفي المعرفة وفي التاريخ، هذا الأمل يمنحنا الثقة اللازمة للبقاء والتطلع إلى غد أفضل.


الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 19/04/2021