عبد الحميد الغرباوي : نسرُ الكتابة الأيقوني

قبل أيام قلائل ، كنا – الصديق الأثير إلى قلبي الباحث عبد اللطيف حباشي و أنَا – في ضيافة البيت العامر للأستاذ الأديب عبد الحميد الغرباوي ، حيث تحلقنا، بمحبة الرفاق، و صفاوة الأهل، حول قصعة كسكس من النوع المعتبر ، معدة على أصولها باللحم و الخضراوات السبع.
و بينما نحن في غمرة تذوق هاته الوليمة المُستطابة، و شدّة تجاذب أطراف الحديث عن شعرية النهايات التراجيدية ذات الطابع الوجودي الموجع ، على الأخصّ انطلاقا من فيلم « أنشودة نارايما» ( 1983) للمخرج الياباني شوهيه إيمامورا ، و كذا من خلال أمثلة أخرى دالة و بليغة من قبيل ؛ مقبرة الفيلة الشائخة ، و أبراج الصمت في الديانة الزاردشتية..
قلت : وبينما نحن في غمرة هذا الحديث عن ممارسات « الأُوبَاسُوتْ « ، التي تعني في ثقافات الشرق الأقصى أو في مرجعيات عالم الحيوان ؛ التخلي عن كبار السن في وديان الموت القصية و القاسية، ساقَ لنا الأستاذ و الصديق الأديب عبد الحميد الغرباوي ، بذاكرته النشيطة ، و فراسته النبيهة ، مثال؛ النسر الهرم ، ذاك الذي قرأتُ عنه على الشبكة العنكبوتية بأنهُ حينما يصل إلى مشارف الحلقة الخامسة من عمره ، يبدأ في استشعار ثقل ريشه ، و ضعف منقاره ، فيعمد حينها إلى ملازمة عشه مُلازمة المعتل لسرير مرضه ، ثمّ يعكفُ على نتف ريشه ، و ضرب منقاره بأقرب الصخور الصماء إليه ، إلى أن ينتهي به المطاف لتحطيمه.
ثمّ تضيفُ معلومات العالم الأزرق بأنّ هذا السلوك يصيب حتما النسور بألم بالغ ، بيد أنهُ على النقيض من سمته الظاهري المخادع ، هو في الواقع علامة جوهرية على مبلغ تمسكها بنسغ الحياة.
إذ بعد خمسة أشهر تقريبا، يعودُ منقار النسور للنمو مرة أخرى، و يتكونُ الريش فوق الهيكل ، و يستعيدُ الطائر الجارح قدرته الغريزية على التحليق.
إنَّ أغلب النسور ، التي أقدَمتْ على هذا الفعل غير المنطقي و المحيّر ، كُتِبَ لها عمر مضاعف ، امتدَّ بها إلى الحلقة العاشرة من مواقيتها الأرضية.
بلا أدنى شك ، تصلحُ هذه الأمثولة الرمزية ، من أجل التعبير عن واقع فريق كروي عظيم ذي مجد تليد نظير الرجاء البيضاوي ، كلما مسَّهُ خَوَرُ التراجع و الاندحار في أحد المواسم الرياضية البئيسة ، كما ينطبقُ تماما على صورة رفيق الدرب الأستاذ عبد الحميد الغرباوي ، مثلما عرفته و خبرته منذ مطلع شبابي ، بوصفه حاديا للذوات الشغوفة إلى بلاد الحكايات المشوقة.
فهو نسرُ السرد المغربي الذي لا يستسلمُ للفناء أو النسيان . نسرُ القاص المجري أشتفان أوركين الطاعن في الخلود و الجبروت ، الذي حتَّى بعد انطفاء أنفاسه في الأعالي المتجمدة ، تهابهُ الأرانب و الضواري المرتعبة.
نسر الكتابة الأيقوني ، الذي رسّخ هيئته و هيبته من خلال أناقته اللافتة و شعره الطويل المتطاير مع الخيلاء حد الفخر ؛ ذاكَ الذي وطد مقامه من خلال جلساته المجلجلة بمقهى موريتانيا ، و ثبَّتَ مكانته من خلال جولاته المتكررة بمكتبات الأحباس ؛ مَنْ جذَّرَ موقعه من خلال مساهماته الوازنة في العمل الإعلامي الثقافي الوطني ، ومَتَّنَ وجوده من خلال إصداراته المتتالية كنهر سخي المنابع في مختلف الأنواع و الأجناس و السجلات قصة و رواية و معجما و لغة و ترجمة وتشكيلا ، و كذا من خلال مساجلاته و معاركه الثقافية المثيرة للنقع و الجدل و الطرافة.
كثيرون يعرفون الطفل اللطيف المستطرَف ، الذي يُخفيه الأستاذ الغرباوي بين طواياه العميقة ؛ يعرفون الرجل النبيل المكافح ، الذي ضحّى بالغالي و النفيس من أجل أسرته الصغيرة و أبنائه؛ يعرفون قلبه الوهاب المعطاء الذي يسع الكون برمته ، لكنهم في حقيقة الأمر لا يحبذون سوى طِينَتِه كأحد كواسر الليل ، و طَرْزَهُ كصاحب مخلب حاد.
فلعلهُ مخلب القط الأسود الذي تحدث عنه إدغار آلان بو في قصته القصيرة المعروفة ، أو ربما مخلب السيد إدوارد يد المقص( 1990) في فيلم المخرج الأمريكي تيم بورتون ، أو على الأغلب مخلب محارب النور ، الذي قال عنه باولو كويلو إنّهُ « يمتلك طاقة هائلة، يحمل البراءة والمحبة والبذل وروح التضحية، يقرأ ما بين السطور، يسمع أبعد من الأصوات؛ ويلتمس أكثر من الأشياء الملموسة ، حتى يغدو قادراً في نهاية المطاف على اكتشاف معجزة الحياة» ، أو بالأحرى هو مخلب المستكشف الباحث عن عروق المَرو الحاملة لذهب الكتابة الحقيقيّة.
فداخل التجمعات المعدنية لكوارتز مرصصي الكلمات ، ثمة شقوق و صدوع و تشوهات جيولوجية ، لكن ثمة أيضا منجميون ضليعون من طراز الأستاذ عبد الحميد الغرباوي ، يعرفون جيّدا ، بمهاراتهم التنقيبية القديرة ، كيف يستخلصون الحجر الكريم من عمق كوكبة البلورات سداسية الأضلع.
الأستاذ الأديب عبد الحميد الغرباوي شاطئ أدبي رحب ينبسط على مد النظر ، في رماله النظيفة أحجار كريمة شتى و لا حصر لها ؛ ألماس ، و ياقوت ، و زمرد ، و زفير ، و توباز، و كهرمان، و لؤلؤ ، و عقيق ، و زبرجد ، و جمشت ، و فيروز..
فقم أيها المُقبل على أعماله بجولتك على رسلك ، ثمّ التقط من جواهره ما طاب لك..ضعها في جيبك الأيمن أو في بطين قلبك ..كذلك ، ضع في جيبك الأيسر أو في مخلاة فؤادك ما تيّسر من الزمن ؛ هذا الشاطئ الثاني اللامرئي الذي لا تستطيعُ أن تراه بموازاة الشاطئ الحقيقي .. توقف هنالك للحظة مُتسمّرا أمام بحر ابداعه الثري ، ثمّ انتظر الموجة القادمة ، الموجات التالية ، بمدها و جزرها ، بزبدها و لُقيَاتها ، فستحملُ لك يقينا أحجار أخرى لامعة ، صقيلة، رنانة ، و مُرصَّعة بذهول التصوير، و دهشة الإنشاء.

(*) ألقيت هذه الشهادة ، يوم الخميس 03 يوليوز 2025 ، ضمن فعاليات الدورة 13  للمعرض الوطني للكتاب المستعمل بالدار البيضاء ، بمناسبة اللقاء التكريمي المُخصّص للكاتب الأديب عبد الحميد الغرباوي.


الكاتب : أنيس الرّافعي 

  

بتاريخ : 18/07/2025