عبد الرحمان اليوسفي عن عبد الكريم الخطابي: «الريفوبليك» تجربة تأسيسية لدولة الحداثة

رغم صدور العديد من الكتابات التأريخية والتوثيقة عن تجربة «الجمهورية الريفية» وعن شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، أيقونة المقاومة الريفية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي، والحركات التحررية في العالم ، إلا أن القراءات التي تناولت التجربة لاتزال تطرح العديد من السجالات على مستويين: مستوى الشرعية التاريخية ومستوى الخروج على الشرعية السياسية.
وإذا كانت الكتابات الأخيرة التي تناولت التجربة ، تنحو جميعها إلى تبرئة عبد الكريم الخطابي من تهمة الخروج عن الشرعية السياسية التي كان يمثلها أنذاك السلطان مولاي يوسف، فإن احتكار الإدارات الكولونيالية للأرشيف المتعلق بتلك الفترة، يجعل صوت «الخطاب الجمهوري» الأعلى من بين كل التفسيرات والقراءات لسيرة البطل الخطابي وتجربته.
ومن داخل هذه القراءات التي لم تخرج عن ثلاث زوايا للنظر:
زاوية الطرح الكولونيالي والقراءة السلفية وزاوية الطرح التقدمي، جاءت ندوة باريس سنة 1973 التي كان الراحل المجاهد عبد الرحمان اليوسفي أول معارض مغربي بادر إلى تنظيمها عن المجاهد عبد الكريم الخطابي، وقد صدرت أشغالها سنة 1976 في كتاب تحت عنوان «عبد الكريم وجمهورية الريف» La Républiqe « du Rif «
تبنى المجاهد الراحل عبد الرحمان اليوسفي قراءة تقدمية لتجربة «الجمهورية الريفية»، بخلاف العديد من القراءات، إذ اعتبرها حلا ملائما لتجاوز أزمة المخزن التقليدي السلطاني الذي كان يعيش على وقع صراع مزمن بين بلاد المخزن» وبلاد «السيبة»، حيث كانت، فترئذ، سلطة المخزن موضع تساؤل بسبب ضعفه في مواجهة الأطماع الأوربية، وهكذا تقوت سلطة القبيلة خاصة في الريف (المنطقة الخليفية) البعيد جغرافيا عن سلطة المخزن التقليدية، مما أفرز وضعا جديدا بالريف اتجه إلى تغيير النظام السياسي القائم، وفق تمثيلية هرمية تبتدئ من تمثيلة «الدشر» إلى أكراو ن إمغارن ثم إمقران أو ما اصطلح عليه لحظتها بحقبة «الريفوبليك».
لقد اتجهت قراءة سي عبد الرحمان اليوسفي لهذه التجربة إلى اعتبارها تجربة تأسيسية للحداثة السياسية على مستوى تسيير بنيات الدولة الحديثة في مقابل هياكل المخزن العتيق الذي أنهكته الحروب بين بلاد «السيبة» وبلاد «المخزن» لسنوات ، ولهذا اعتبر اليوسفي الذي خصص جزءا من مساره العلمي في دراسة تاريخ الريف ليُتَوِّجَهُ بأطروحته حول «مؤسسات جمهورية الريف» أن الخطابي «أسس بما اكتسبه من موارد وشهرة جمهورية الريف التي كان بنفسه رئيسا لها. وقد اتبع تقاليد التراث جاعلا من قبيلته قاعدة لحكمه، ولكن من نواح ثانية كانت جمهوريته الصغيرة مدعومة بتنظيم حديث. وكان المارشال ليوطي على درجة كبيرة من القلق فقد كتب: «لا يمكن أن يكون هناك أخطر على نظامنا من إنشاء دولة إسلامية مستقلة وحديثة على مقربة من فاس».. لسنا نبالغ إذا جزمنا أن عبد الكريم كان يريد تجهيز الشعب الريفي ببنية دولة تتطابق مع التعريف الغربي للدولة أي مع الواقع الوطني والأممي المؤلف من عناصر ثلاثة: الشعب، الأرض والسيادة».
لقد قدم اليوسفي تفسيرا مغايرا للتجربة بتركيزه على كون الخطابي أسس لنظرة جديدة لمسألة لمفهوم الدولة كما نظر لها الفكر السياسي الغربي، وعلى كون الإيديولوجيا الخطابية» انبنت على قطيعة تامة مع بنيات المخزن العتيق، مشددا على أن الأمير الخطابي كان يؤكد دائما على وجود «أمة» مغربة وشعب مغربي ولم يكن انفصاليا. في هذا الصدد يقول الراحل اليوسفي في كتابه «مؤسسات جمهورية الريف».
«كانت ولادة جمهورية الريف نتيجة لمقتضيات حرب التحرير، ولإرادة الجماهير المغربية في صنع مصيرها بيدها. وعرفت القبائل والمقاطعات الريفية ظاهرة الإتحاد الكونفدرالي،.. إن جدارة الخطابي هي في إبتكاره وإستخدامه عملية تأسيس السلطة التي أتاحت دمج القبائل المتفرقة والمتنافرة في دولة ذات سيادة».
أما عن مميزات نظام الحكم عند عبد الكريم الخطابي، فيؤكد اليوسفي في نفس الكتاب:
«اعتمد أسلوب الحكم، كان يرأس في العاصمة(أجدير) اجتماعات شهرية للقواد وللقضاة ولمسؤلي السجون بغية تسهيل الاتصال والتنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية. وكان اللجوء إلى السلطات العليا يتم بنظام معين.. وكان يحدث أحيانا أن تنزل هذه السلطات عقوبات بالقواد حتى ولو كانوا من بين ورياغل».
تطرق الكتاب أيضا إلى التحولات المجتمعية في شقها الاجتماعي التي صاحبت التحولات السياسية في تجربة «الجمهورية الريفية»، حيث اندثرت بعض المظاهرالاجتماعية المخلة والحاطة بالكرامة الإنسانية بالريف، إذ يشير الكتاب إلى إلغاء:
«الموروثات الرجعية كالرق الذي كانت تمارسه قبيلة صنهاجة فهذه القبيلة كانت تخطف الفتيات من المدن المغربية الكبرى لتستعبدهن في تجارة الجنس بمردود عال. وقد جرى تحرير هؤلاء النسوة اللواتي أصبحن زوجات شرعيات لجنود عازبين. إن الأضرار التي كان أفراد قبيلة صنهاجة نفسها يلحقونها بأموال وممتلكات الأفراد المغلوبين عن طريق النهب والسرقة حرمت قانونا. والكلام المهين الموجه لليهود الذي كان يطلق عادة في الشوارع في معرض التشهير بهم حرمه القانون أيضا. واعترفت الطائفة اليهودية التي كانت مندمجة تماما بالمجتمع الريفي بأن عهد عبد الكريم كان عهدا مختلفا تماماً.»
تجدر الإشارة الى أن الراحل عبد الرحمان اليوسفي ، عندما أصبح وزيرا أول رحب بفكرة تخليد المناسبة كذكرى وطنية يتم الاحتفال بها سنويا، ثم تدعمت الفكرة بقرار الحكومة بتكليف المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بإحياء ذكرى انتصار أنوال في إقليم الناضور، لأول مرة؛ ابتداء من صيف 1999، أي بعد انقضاء 78 سنة على معركة أنوال، ثم بعدها سيمنح «مؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي» صفة «المنفعة العمومية» .


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 20/07/2021