لم يكن عبد العزيز سعود البابطين، رحمه الله، شاعرا عاديا لكونه دأب على مشاكسة القول الرفيع بأسلوبه الخاص: من منطلق نشأة الصورة في صلب تربتها وعلى امتداد انزياحها الرفيف نحو تخومها، من موقع ما تحبل به من أثر تداعي ذكريات الماضي/ الآتي بشتى إيحاءاتها ومقاماتها. فأضفى بالتالي في أشعاره على الصحراء بهاء ساحرا، وعلى ديار الحب وأميراته إشعاع بدر مكتمل، وعلى سنن غزل الجمال جمالا زاد من رونق حضورها في القصيد جلالا.لذا ما كان من بد إلا أن يمتد فيض القول الشعري عنده إلى عوالم اللحن والموسيقى.كما لو أن الكتابة الشعرية عنده تروم تحقيق كنهها في ارتقائها إلى مدارج التسامي: أقصد التحام المبنى بالمعنى، والرمز بالرؤيا، والنظم بالإيقاع والنبرة، والإلقاء ببديع الغناء والإنشاد. وبالمناسبة أوجه تحية تقدير وعرفان لمن لحن شعره ومن أحسن في طربه بأعذب الأصوات.
من هنا يمكن الجزم بأن الشعر بالنسبة لعبد العزيز سعود البابطين هو من جهة غوص في جوهر الأشياء وإنصات عميق لأسرارها، ومن جهة أخرى استحضار لرجع صداها ووقعه في ثنايا النفس والروح والوجدان. فكيف لنا ألا نحب هذا الشعر بينما تنم فرادته من صدق العلاقة التي ينسجها معنا وفي تناغم وشيج مع الوجود والكون؟ وكيف للغد الطويل ألا يحن إليه (إلى عبد العزيز)، من دون أدنى نسيان، وهو من بصم شعره بمعالم مدونة الذاكرة المشتركة خارج قوالب الوصفات والتعريفات؟ وكيف لنا ألا ندير الرأس إلى الخلف (مثلما فعل أورفيوس)، أجيالا بعد أجيال، لنسعد على الدوام باستحضاره بيننا، وهو الذي عودنا على نظرته إلينا من بوابة المستقبل في غفلة من الزمن وتحديا له؟ شعره إهداء لنا، كتب من أجلنا ولخلفنا كي نجعل من الإبداع العنيد منوالا نيرا حتى نعيش في تصالح مع ضربات القدر، مع الفقد وعذاب الغياب.وكي نجعل منه كذلك مطية نحو الخلود، في تجاور حميمي مع كل ما هو عنوان للشموخ والسمو والحرية والوفاء.
وما عنايته بالشعر (كما تشهد به الجوائز المخصصة له من قبل مؤسسته، والدورات الأكاديمية، والبحوث المنشورة) إلا خير دليل على هذا الاختيار الذي قد نقول عنه إنه استراتيجي بامتياز. إذ لا يخفى أنه كلما اشتدت الأزمات كانت العودة إلى الشعر خير سبيل لمواجهتها، نظرا لارتباط الشعر بالأسئلة الأنطولوجية التي هي من صميم صلة الإنسان بالوجود، والفناء باللانهائي. وفي خصوصية هذه الصلة ما يؤكد البعد الفارق بين المنجز الشعري السامي، وبين ما تنتجه المجتمعات من خطابات أيديولوجية وسياسية وفكرية مبتذلة. إن الأهمية التي يوليها عبد العزيز سعود البابطين إلى الشعر هي على هذا الأساس نابعة من اهتمامه بمصير الإنسانية، التي كلما انغمست في الماديات كلما ابتعدت عن معنى وجودها وسقطت في الضياع.
ولم يكن عبد العزيز سعود البابطين مثقفا من صنف أصحاب البيانات والخطابات الفجة، لأنه جعل من الالتزام بالقضايا الكبرى- لا شعارا فارغا – بل واقعا ملموسا نذر نفسه لمراسه، وتحقيق ما استحال من بعض جوانبه المعقدة على الآخرين. فكان له السبق في بناء جسور الحوار بين الشرق والغرب، حاملا رسالة المحبة إلى الإنسان حيثما وجد، من غير تمييز ولا إقصاء ولا تبخيس.وذلك لاعتقاده الراسخ بأن ليس هناك من معنى للحضارة إذا لم تجتمع تحت ظلالها مختلف الشعوب والأمم، وبما تؤمن به من تقاليد وديانات وثقافات مهما بدت متباعدة (أو متناقضة) لأن في ذلك مصدر غناها وثراها.
من موطن هذه القناعة استثمر الفقيد عبد العزيز جهدا لا يضاهى، قد تعجز عنه الدول كبيرة أو صغيرة، تمهيدا لسبل اللقاء والتواصل بين المثقفين والسياسيين على اختلاف آراءهم ومواقفهم. فانعقدت بفضله محطات لافتة عبر العالم قوامها الحوار الحر والتأمل الصريح في أوضاع ما يعرفه تاريخ الإنسانية اليوم من تصدع وترد على مستوى القيم والمبادئ والمشاعر المغذية للحياة. أوضاع تطغى عليها للأسف الشديد دوامة محرقة الحروب، ومظاهر العنصرية وتفشي الأمراض والأوبئة والمجاعة. كل ذلك يحدث في إهمال شبه تام من قبل من يدعون تمثيل الضمير العالمي والحرص على احترام مستنداته. فما كان له أن يقبل بهذه اللامبالاة التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها صادمة، ماكرة، حاقدة.
وهكذا لمع صوته ليس فقط في بلده الكويت، وإنما أيضا في دبي وباريس وأكسفورد وسراييفو ولافيتا ونيويورك وبروكسيل والرباط والقاهرة…فاتحا آفاقا رحبة لبروز وعي جديد بما ينبغي للشعوب والدول أن تنشغل به: آلا وهو ما تفرد بتسميته»السلام العادل». السلام الذي لا ينبني على انتصارات القوي على الضعيف، ولا على تكريس التبعية إلى الأقطاب الكبرى ذات الهيمنة الاقتصادية أو العسكرية.وإنما السلام الذي تحلم به الإنسانية منذ أن انبثقت بوادره مع نجوم فلسفة الأنوار ومصابيح الأندلسيات في قرطبة وإشبيليا ومرسيا.
ولم يكن عبد العزيز سعود البابطين عاشقا للغة العربية فحسب، بل جعل منها عنوانا للوجود الحضاري ومسايرة التاريخ. قد يعتقد البعض أن مثل هذا الاهتمام غير ضروري في عالم تهيمن عليه وسائل التواصل الشبكي، الذي يرجح استعمال العلامات والرموز واللغات الأجنبية، لكن الخطأ الكبير هو إهمال لغة الهوية والذات، إذ بابتعادنا عنها نبتعد في الحقيقة عن الأصل. لذا اجتهد من غير حساب في شق مسالك جديدة أمامها: بمدن مختلف القارات وقراها وأقاصيها لم يكن يخطر على بال أحد أن العربية ستشع في أوساطها وهوامشها.
لكن رغم كل ما تقدم قد نتساءل: من هو الإنسان عبد العزيز سعود البابطين؟ ما هو الانطباع الذي تركه عندنا من خلال اللقاءات التي كانت تجمعه مع مختلف النخب من عرب وأجانب؟
في الحقيقة ليس سهلا الجواب عن هذا السؤال، والوقوف عند مختلف مناحي وخاصيات شخصيته المتعددة الأبعاد، وذلك بالنظر لعمق تجربته الاجتماعية والتاريخية، وتنوع الروابط التي نسجها مع شخصيات العالم، بالإضافة لصلاته الوثيقة على أكثر من صعيد بالهيئات الدولية النافدة. لكن قد أستطيع القول إن ما ميز شخصية الفقيد ثلاثة خصال دالة: الغيرة الوطنية، مكارم الأخلاق، التريث وبعد الرؤية.
تتجلى الغيرة الوطنية عند عبد العزيز سعود البابطين في شغفه بوطنه الكويت، وبمؤسساته وثقافته وحضارته. فلقد كان حريصا أتم الحرص على تمثيل وطنه بما يقتضي ذلك من تشريف وإجلال حيثما حل وارتحل. فما ثبت يوما ما، في جلسة من الجلسات العمومية أو الرسمية، أنه أبدى أدنى ملاحظة أو تعليق أو إشارة أو تحفظ قد تؤول على أنه أراد خدش جهة من جهات وطنه أو المس بأحد رموزه ومرتكزاته السيادية، وبالتالي يمكن اعتباره أسمى قدوة في حب الوطن والالتزام بقيم المواطنة.
ففي حقه يجوز إذن القول ما ورد على لسان الشاعر الفرنسي لويس أراغون معبرا عن حبه لبلاده ضد المستعمر الألماني: «افتحوا قلبي تجدون فيه باريس». فمن غير مبالغة تسكن الكويت قلب عبد العزيز سعود البابطين، وتسري كالدم الدافق في شرايينه.ومما من شك أن هذا الحب النابض هو الذي جعل من عبد العزيز سعود البابطين إنسانا متفائلا لا أنانيا ولا متعجرفا، ولا مقصرا في السير حتى النهاية بأية مبادرة تفطن لأهميتها بالنسبة لوطنه وللأمة العربية والإسلامية جمعاء. فليس غريبا أنه ظل حتى آخر رمق، وبالرغم من لعنة المرض، وفيا سخيا معطاء لدرجة أنه كان يعتبر أن ما بملكيته هو ملك لهذه الأمة، مُسيَّر لخدمتها كي تتبوأ مكانا يليق بها بين مصاف الأمم.
ولعل من بين ما تتميز به أيضا شخصية عبد العزيز سعود البابطين، نظرته الثاقبة للعالم، ودرايته بإشكالاته وتعقيداته، والتعامل معها بحكمة وعدم التسرع في اتخاذ المواقف. لهذا تميزت علاقاته بشخصيات العالم بدفء متبادل لا تعكره الأحكام والتصورات المسبقة، ما كان يسهل تنقلاته عبر بلدان العالم وكأنه يزور جهة من جهات بلده. واللافت أنه كان يكن نفس الدفء المحموم بالعطف والاحترام إزاء أبسط الناس داخل الكويت أو خارجه. فلم يكن يرد أبدا أي طلب أو استعطاف أو وساطة خير. لقد كان حريصا على مجالسة الجميع، من غير استعلاء أو مفاضلة، مهما كبر شأن أي أحد أو صغر. فلا غرابة أنه كان يحظى بتقدير كل من عاشره أو التقى به أو جالسه. ومن بين الأشياء الدالة في مثل هذا السياق على كرم روحه وأريحيته أنه لم يكن يتردد في إشراك الحضور في ما كان يسرده، بمزيج من الهزل والنكتة والسخرية، حول ما عاشه من أحداث غريبة أو مغامرات لم تكن في الحسبان ببلدان عدة وانتهت لحسن الحظ في أحسن حال.
من المؤكد أن رغبته هذه في اقتسام تجاربه بشكل صريح لم تكن تنم فقط عن تواضعه الكبير، بل أيضا عن سعيه الشغوف للكشف عن المجهول في عالم الإنسان، محاولا اختراق حدود المرئي واللامرئي التي تحجب معرفتنا بالواقع المعقد. وبذلك يكون قد قدم لنا درسا بليغا مفاده أن التمركز حول الذات يجر إلى العماء، بينما تقتضي تحديات العصر، والتي من بينها ما يعرفه الذكاء الاصطناعي من تأثير سلبي على الروابط الإنسانية، بناء علاقات من نوع آخر موسومة بالحب التلقائي الذي ينبغي أن يسود وسط المجتمعات وبين الدول والشعوب ضد كل أشكال الاستلاب والطغيان أو التسلط والاستقواء.
أخي عبد العزيز، أيها الراقي، وصلت رسالتك وما أعتقد أن الزمن قادر على طيها، لأنك نقشتها في الأذهان والقلوب، على جبين أطفال فلسطين وصدور المحرومين من حريتهم وكرامتهم، وحفرت حروفها على صخور الجبال والتلال، ورسمت رموزها على جدران المدن التي زرتها والتي لم تزرها فأصبحت معلمة من بين معالمها، بل سفرا حيا سترتوي منه الأجيال.
لروحك السلام.
* (عضو مجلس الأمناء)