عبد القادر وساط: حلمي لم يتحقق برؤية عمر بنجلون

أجرى الدكتور الشاعر والأديب المتعدد عبد القادر وساط «أبو سلمى» صاحب أشهر كلمات متقاطعة في المغرب، حوارا عبارة عن دردشة مع الزميل حسن الأشرف، نشر في الموقع الإلكتروني «هيسبريس»، ونظرا للعلاقة العاطفية الحميمية التي تجمعه بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» و»ليبراسيون»، وحلم طفولته في أن يشتغل بالصحافة الاتحادية، فتأتى له ذلك منذ المحرر وإلى الآن، ورغبته وحلمه في لقاء عمر بنجلون، لكن للآسف تم اغتياله، ننشر نص هذه الدردشة:

n ارتبط اسمك أكثر بإبداع الكلمات المسهمة منذ عقود، هل ما زلت تمارس غواية الكلمات المُسهمة؟

n نعم، مازلتُ أمارس هذه التجربة يومياً في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، حيث أنشر كل يوم شبكتين اثنتين، واحدة عربية والأخرى مزدوجة اللغة (تعاريف بالفرنسية وأجوبة بالعربية)، كما أنني أنشر شبكة يومية بالفرنسية في جريدة «ليبيراسيون»، الأخت الشقيقة لجريدة «الاتحاد الاشتراكي». ومازال عدد كبير من القراء يتواصلون معي بانتظام، ويُبدون ملاحظاتهم المختلفة، فمنهم من يحتجّ على الصعوبة، ومنهم من يحتج على السهولة، والناس أذواق ومَشارب.

n ماذا يفعل عبد القادر وساط حاليا؟

n أنا حالياً متفرغ والحمد لله للقراءة والكتابة والشأن الفني والثقافي، بعد خمسة وثلاثين عاماً قضيتُها في خدمة المرضى، بوصفي طبيباً متخصصاً في الأمراض النفسية. صحيح أنه انزاح عني عبء ثقيل مع انتهاء الخدمة، لكنني كنت حزيناً مع ذلك، لأنني كنت مولعاً للغاية بعملي في المستشفى، وقد غادرتُه وفي العين دمعة وفي القلب شجن، لكنّ تلك المغادرة كانت أيضاً بمثابة انعتاق من وطأة المسؤولية، وهي وطأة شديدة لا يعرفها إلا مجربوها. والمهم هو أنني عدتُ في آخر المطاف إلى مجالي الأثير، عدت إلى عالَم الأدب وعدت إلى عالَم الكلمات التي عشقتُها منذ طفولتي الأولى.

n نعم. لكن أخبرنا لو تفضلت عن وتيرة حياتك العادية والروتينية (خارج رمضان)؟

n أصحو يومياً في الثامنة صباحاً أو الثامنة والنصف. أتمشى ساعةً بعد الإفطار، ثم أعود إلى جنتي، أي إلى مكتبي ومكتبتي، أقرأ كثيراً وأكتب قليلاً، وأجد متعةً كبرى في كلتا الحالتين. أغلب قراءاتي في القصة القصيرة والرواية، باللغتين العربية والفرنسية. وثمة روايات لا أتعب من قراءتها وإعادة قراءتها، مثل «ضوّ البيت» للطيب صالح و»بيدرو بارامو» لخوان رولفو و»ضربة شمس» لرشيد بوجدرة، و»التيوس» لإدريس الشرايبي.
بعد الغداء، أنعم بقيلولة قصيرة، وقد تطول هذه القيلولة أحياناً في غفلة مني، ثم أعود إلى مكتبي للعمل. أحب الخط العربي وأمارسه بانتظام، وأحب أيضاً رسم البورتريهات بالحبر الصيني وكذلك بقلم الرصاص وبالصباغة. وقد أنجزتُ عدداً كبيراً من هذه البورتريهات، سواء لأفراد الأسرة أو للأصدقاء أو لبعض مشاهير رجال الأدب والفن.

n وليلا؟

n خلال الليل، يترك عبد القادر وساط مكانَه لصاحبه أبي سلمى. وهكذا ينسحب الأولُ في صمت، ويشرع الثاني في صراعه الجميل مع الكلمات.
أما المساء، بعد الغروب، فهو مخصص للأبناء والأحفاد، وتلك سعادة لا توصَف. وبين حين وآخر، أمضي للقاء الأصدقاء في المقهى.
ولا تسل عن القلق الذي يستبد بي، حين أضطر لتغيير عاداتي اليومية هذه، من أجل زيارة الطبيب أو لقضاء غرض إداري أو غير ذلك. فأنا أفقد البوصلة عندئذ، وأفتقد عالمي الآمن الذي غادرتُه قبل قليل، وأحنّ إليه حنيناً شديداً، متمثلاً بقول الشاعر القديم: أَشَوقاً ولمّا يَمضِ لي غيرُ ليلةٍ ** فكيف إذا سار المَطِيُّ بنا عَشْرا؟

n ارتبط اسمك بالكلمات المسهمة في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» تحديدا، هل وجدت في هذا إضافة لك أو تقييدا لإبداعك في هذا المجال؟

n علاقتي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وقبلها بجريدة “المحرر”، تحتاج كتاباً كاملاً للحديث عنها. لقد زرتُ مقر «المحرر» أولَ مرة وأنا شاب صغير في الثامنة عشرة. كان ذلك مباشرةً بعد قدومي من اليوسفية إلى الدار البيضاء لدراسة الطب. كنت مصمماً على الذهاب إلى الجريدة، تحذوني رغبة شديدة في رؤية عمر بنجلون ولو من بعيد. لكن حلمي برؤيته لم يتحقق للأسف. وبعد شهرين أو ثلاثة، كنا نركب الأوتوبيس رقم 40، القادم من حي الفرح، وإذا به يتوقف مضطرّاً بسبب الاكتظاظ غير المعتاد، ولمّا سألنا عن السبب، أخبرونا أن «الدنيا مقلوبة» وأنّ عمر بنجلون قد اغتيل!
بقيتُ بعد ذلك أرسل أشعاري إلى جريدة «المحرر» وأنا طالب بكلية الطب، وكنت أفرح غاية الفرح حين أجد تلك الأشعار منشورةً في صفحة «على الطريق» المخصصة للشباب، التي كان يشرف عليها أيامئذٍ الشاعر العياشي أبو الشتاء. وبعد سنوات، التحقتُ مسروراً بهيئة تحرير الجريدة، التي صارت تحمل اسم «الاتحاد الاشتراكي».
كنتُ حينها في الخامسة والعشرين من العمر، وصرتُ مشرفاً على الصفحة الطبية الأسبوعية، إضافة إلى نشر المقالات والترجمات الأدبية، لكنْ كانت لديّ، في الوقت نفسه، رغبة عميقة في إنجاز شيء مختلف. وبما أنني كنت مولعاً بشبكات الكلمات المسهمة بالفرنسية، فقد فكرتُ في نقل هذه التجربة إلى اللغة العربية، وشرعتُ أوقعها بكُنْية «أبي سلمى»، وها قد مرت الآن أربعة عقود على ذلك، وأنا لا أدري كيف مرت هذه العقود الأربعة في غفلة منا جميعاً.

n هل كانت تلك التجربة قيداً لك؟

n لا أحسب ذلك. صحيح أنها تتطلب جهداً وطاقةً ووقتاً، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب أشياء أخرى، ولكن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالكلمات، وأنا عاشق كبير للكلمات. منذ نعومة أظفاري وأنا أعشق الكلمات. وأذكر أنّ الشاعر الفقيد عبد الله راجع كان يعاتبني على «هدر طاقتي الحيوية» في إعداد الكلمات المسهمة، لكن نظرتي للأمور كانت تختلف عن نظرته، رحمه الله.
وكان مَثَلي الأعلى في ذلك هو الأديب والروائي الفرنسي جورج بيريك، الذي كان مبدعاً كبيراً في مجال الرواية، وكان في الوقت نفسه رائداً من رواد الكلمات المتقاطعة، عبر تعريفاته العبقرية، التي تستفز ذكاء القارئ استفزازاً ممتعاً.

n هل يمكن القول إن امتلاك ناصية اللغة العربية كان مفتاحا لنجاحك الباهر في انتشار الكلمات المسهمة؟

n طبعاً، لا بد لمن يُنتج في هذا المجال-مجال الكلمات المسهمة-أن يكون ملمّاً باللغة العربية، وإلّا تحول الأمر إلى نوع من العبث.
فيما يتعلق بي، كانت علاقتي بالتراث، وخاصة بالشعر العربي القديم الذي أحفظ منه الكثير، حافزاً لي وتكريساً لارتباطي بهذه اللغة الجميلة. لكن عشق اللغة لا يكفي، والإلمام بها وبأدبها لا يكفي. إذ يتعين العثور على تعاريف تتوجه إلى ذكاء القارئ، وليس إلى رصيده اللغوي فحسب.
هذا ما تعلمتُه من تجربة جورج بيريك وتريستان بيرنار وغيرهما، وقد يكون في هذا تفسير لإقبال القراء على تجربتي المتواضعة في هذا المجال منذ انطلاقتها الأولى.

n هناك من يقول إن نجاحك الهائل في إبداع الكلمات المسهمة قد “غطى” على مسارك وتجربتك في الشعر والتشكيل وحتى على تخصصك الطبي، هل صحيح هذا القول؟

هذا يعود بنا إلى العلاقة بين “عبد القادر وساط” و”أبي سلمى”. أستطيع القول إنهما شخصان مختلفان، يتعايشان داخل جسد واحد، وينطبق عليهما إلى حد ما قول الشاعر “نحن روحان سكَنّا بدَنَا”، فهل أبو سلمى يزعج عبد القادر وساط؟ ذاك ممّا لا شك فيه. لكن عبد القادر وساط لا يتردد هو أيضا في إزعاج أبي سلمى. ولحسن الحظ، فإن مجال اهتمامهما يبقى واحداً مهْما كان: وهو اللغة وكلماتها.
في إحدى القصص القصيرة، يحكي تشيخوف عن شخص يَرى فراشات ملونة تطير في الليل، فيقول في نفسه: ليست هذه الفراشات سوى كلمات هاربة من المعاجم!..
الكلمات في كل مكان، في حياتنا اليومية، فيما نقرأ ونسمع، فيما نكتب، في أحاديثنا وحياتنا اليومية… وحتى في مجال عملي، في الطب النفسي، فإن للكلمات دوراً أساسياً. والمرض الذهاني الأكثر شيوعاً، الذي هو داء الفُصام، يعلن عن نفسه غالباً من خلال اضطراب في اللغة وفي معاني الكلمات. والطبيب المعالج يؤسس جانباً كبيراً من العلاج على اللغة. أَلَمْ تَقُل «دُورا» لطبيبها سيغموند فرويد: «سيدي، إنك تعالجني بالكلمات؟»

n وماذا عن الشعور بالشهرة أو البحث عنها؟

n فيما يتصل بالشهرة والبحث عن الشهرة في مجال الإبداع الأدبي، أصارحك أن هذا الجانب لا يندرج ضمن أولوياتي. أنا أقرأ الأدب لأنني أجد متعةً كبرى في القراءة، وأكتب نصوصاً أدبية لأنني أجد متعةً كبرى في الكتابة. هذا كل ما في الأمر.
أما الركض وراء الأضواء، كما يقال، فأجده باعثاً على الضحك. ثمة أشخاص كثيرون يكتبون من أجل الشهرة، وينسجون العلاقات في المغرب والمشرق، ويتحملون في سبيل ذلك ضروباً من المشقة، وأنا أشفق عليهم في حقيقة الأمر. أية شهرة، وأي مجد أدبي، خصوصاً في زمننا هذا؟

n هل يمكن أن يظهر «أبو سلمى» جديد في مثل براعته أم إن عهد الكلمات المسهمة قد انتهى في المغرب؟

n سيظهر بكل تأكيد من يتجاوز تجربة «أبي سلمى» بآفاق أوسع ودراية أعمق وذكاء أنفذ. وسوف يكون لسان حاله هو قول أبي تمام: «يقول من تَقرعُ أسماعَه**كم ترك الأولُ للآخِرِ».

n لنأت في الأخير إذا سمحت إلى أكثر «الألغاز» أو التعريفات في الكلمات المسهمة التي نالت استحسان القراء في رأيك؟

n هناك تعريفات كثيرة جداً لاقت إعجاب القراء في حينها، أذكر منها:
-قمة البهجة: الكتبية.
-عودة المغاربة: فَرَس.
-كَمْ حملَت من السلاطين: العَمّارية.
-كائن شهري: موظَّف.
-جنسٌ من الطير في قلبه عجب: بَجَع.
-دار النشر: الآخرة.
-أداةُ عطف: القلب.
-تَختفي رقبتُها في الضوء وتَظهر في الظلام: الضاد.
-تَدُور مع الزمن: عقارب الساعة.
-شاعر اغتنى بفضل نوال المتوكل: البحتري.
-أسالَ دماءَ المسلمين واليهود عبر التاريخ: الخِتان.
-أسرعُ أعضاء الحكومة: نوال المتوكل.
-امرأة تخرج إلى الشارع بملابس الداخلية: شُرطية.
-تَعرف من أين تُؤكل الكتف: شُميشة.
-لا مفر منه لكل حي: المقدم.
-تُسَهّلُ كلَّ شيء إذا كانت صعبة: العُملة.
-في ظلامها تلمع النجوم: السينما.
-مَصدر غبار في جميع الفصول: الطباشير.
-غنيٌّ عن التعريف: قارون.
-عينه بصيرة ويده قصيرة: القزم.
-يحصل على لقمته من أفواه الآخرين: طبيب الأسنان.
-سنرى جيداً إذا كان يحسن عملَه: طبيب العيون.
-قد تحتفظ به المرأة سرّاً في صدرها: السيليكون.
-يَفصل بين الرجل والمرأة: الواو.
-أداةُ شَرط: الراية.
-تُرَبّى بالعاطفة: الكبد.


الكاتب : عن هسبريس

  

بتاريخ : 21/03/2024