عبد الكريم غلاّب.. الغلاّب في كل شيء

الدرويش: في شخصه امتزج الوطني بالقومي والكوني في أبواب العيش الكريم والحرية

جماهري: «الرجل البحيرة»، حيث تترافدُ السياسة والصحافة والأدب في حياض الوطنية

 

نظمت «مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم «، يوم الاربعاء 17 ماي الجاري ، وفي إطار سلسلة لقاءات «أعلام في الذاكرة»، بشراكة مع المعهد العالي للإعلام والاتصال، ندوة علمية حول الكاتب والصحفي الراحل عبد الكريم غلاب عرفانا بما أسداه للوطن وللصحافة والأدب، وعودة للماضي الذي لم ندفنه جميعًا من خلال استحضار أسماء أعلام ظلت في ذاكرتنا الفردية والجمعية من خلال إنتاجها الفكري والاحتفاء علميا بها، وتأكيدًا لأدوارها في علاقاتها بالسياق الثقافي الذي عاشت فيه، ليس فقط في تطوير أسس ومنطق وأخلاق الكتابة بكل أجناسها، وترسيخها في الثقافة والفكر المغربيين، بل أيضا في أساس قيم المواطنة القائمة على مبدأي الحقوق والواجبات وكذا أخلاق ثقافة الاعتراف والاحترام .
وقد افتتح اللقاء بعرض شريط يؤرخ لكل المراحل التي مر منها الكاتب والصحفي والمناضل عبد الكريم منذ توليه كتابة افتتاحية «مع الشعب» بجريدة «العلم» وبعدها دوره في تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية خاصة أنه انتخب أمينا عاما لها سنة 1962 ليستمر رئيسا لها لثلاث ولايات ثم رئيس تحرير جريدة «الآفاق «الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب حيث تولى كذلك رئاسة الاتحاد، ورئاسة تحرير جريدة العلم إلى حدود سنة 2004، بالإضافة إلى المهام الوزارية والدبلوماسية التي تولاها، وكذا مؤلفاته التي تقارب السبعين مؤلفا بين أجناس أدبية وفكرية ومعرفية تترجم زادا فكريًا كبيرا للرجل.
يندرج هذا اللقاء حسب الأستاذ محمد الدرويش رئيس مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم في إطار سلسلة «أعلام في الذاكرة» التي تنظمها المؤسسة ذاتها خلال هاته السنة تكريما لأعلام الفكر والمعرفة والثقافة بشتى تخصصاتهم وقناعاتهم وانتماءاتهم ، وتثبيتا لثقافة الاعتراف ، معتبرا أن تنظيم سلسلة لقاءات من هذا النوع هي استحضار لأعلام الثقافة المغربية المعاصرة والذي يهدف إلى ربط الإضاءات المشرقة في الماضي بالإسهامات التي أثْرَت نسق الثقافة المغربية في الحاضر.
واعتبر ذ. الدرويش في مستهل كلمته، أن شخصية الأستاذ غلاب تركت بصماتها في حياة أجيال متعددة ومجالات مختلفة، منها الأدبي والثقافي والحقوقي والاجتماعي والصحفي والسياسي. تجارب راكمها من خلال تكوينه وأسفاره واحتكاكه بالكبار في المغرب والمشرق بوأته مكانة عالية في المجتمع .فمن فاس حيث رأى النور وتلقى تعليمه بها إلى مصر بين سنوات 1937 و 1948، وبذلك امتزج الوطني بالقومي والكوني في أبواب العيش الكريم والحريات و العدالة الاجتماعية والآداب والثقافة المغربية والعربية. حتى أنه يعد مؤسسا إلى جانب آخرين لعدة أجناس أدبية جديدة من مثل القصة القصيرة والسيرة الذاتية وأدب الرحلة والرواية…إنه صاحب «دفنا الماضي»، و»المعلم علي»، و»سفر التكوين»، و»القاهرة تبوح بأسرارها»، و»سبعة أبواب»، و»الشيخوخة الظالمة»، وغيرها من الكتب والمقالات الأدبية والصحفية…
من جهته اعتبر د. عبد اللطيف بن صفية، مدير المعهد العالي للإعلام والاتصال، أن اللقاء يشكل مناسبة «لتكريم عَلَم من الأعلام الوطنية المغربية»، و»عنوانا للفعل المتعدد السياسي والأدبي والصحافي، ولا يمكن ذكر اسمه إلا وينتابنا الحنين إلى العصر الذهبي للصحافة الوطنية الحزبية التي أسست بحق لممارسة صحافية ملتزمة بقضايا الأمة».
ووقف بن صفية عند «المسار المتميز لجريدة العلم الغراء، والعمود المتين «مع الشعب»، الذي وقّعه اسم بارز لكفاح الصحافة الوطنية غداة استقلال المغرب»، هو الذي عرف بوقوفه «ضد استمرار عناوين صحافية أجنبية لم تتوان، في عهد الحماية، عن مهاجمة رمز الأمة محمد الخامس والإساءة إليه» كما « ساهم في تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، ثم ترأسها، وقاد مقاومة شرسة ضد صحافة «ماس».
الأكاديمية نجاة المريني أكدت في مداخلتها أن غلاب يعتبر «من الأعلام الرواد في الكتابة والتاريخ، وغزر إنتاجه، واتسعت مجالات اهتمامه”، كما «بز الكثير من الصحافيين بكتاباته الصحافية، ومزاولة المهنة التي أحبها وعشقها، وكان رائدا فيها طول حياته، وإلى أن وافاه الأجل»، هو الذي كانت الصحافة لديه:» رسالة وطنية وسياسية وفكرية يؤديها لبلاده ولصالح الحرية والاستقلال والديمقراطية، ولم يكن يكتب تحت الطلب بل يكتب بحرية، ولم يتدخل حزب الاستقلال قط في ما يكتبه، وكان يجد راحة نفسية في عدم الرقابة، ثم لما حصلت الرقابة غادر الجريدة مكرها، لأن فيها اعتداء عليها وعلى كرامتها».
عائلة الراحل عبد الكريم غلاب في كلمة تلاها بالنيابة ابن الراحل مروان غلاب، أن لقاءات» أعلام في الذاكرة» التفاتة طيبة للاحتفال برواد وأعلام تشرفوا بخدمة الفكر والعمل الإشعاعي في بلادنا شاءت الصدف أن وجدوا في زمن من أحلك فترات تاريخ المغرب، ألا وهو الاحتلال الفرنسي بما يعنيه ذلك من قهر واستبداد واستيلاب لأشرف وأنبل مقومات الإنسان الأساسية ألا وهي الحرية والوجدان، حيث أكد ابن الراحل مروان غلاب أن الفقيد قد شغل باله طيلة حياته هاجس الفكر أولا، ثم مسؤولية واجب المواطن تجاه وطنه، فكان الفكر والهوية بكل ما يشكلانه من وجدان خلقي للإنسان المواكب لتطور عصره تماشيا مع مصلحة المجتمع، لكن بدون أن تداس أو تذوب مقومات وثوابت هذه الهوية في وسط محيط من أمواج التحديات آنذاك.
وفي كلمة توقفت عند الخطاب السردي للراحل عبد الكريم غلاب ، اعتبر د. مبارك ربيع، رئيس مؤسسة علال الفاسي، أن زمن عبد الكريم غلاب هو «الزمن المجتمعي الاجتماعي»، إذ «كان يحمل هم صنع هذا الزمن، بغض النظر عن التحقق أو عدم التحقق» . وأضاف مبارك ربيع» غلاب مؤسس السرد المغربي، رغم أن مؤرخي الأدب المغربي يرجعون إلى البدايات الأولية؛ لكن تبقى «دفنا الماضي» الرواية المكتملة المنجزة بوعي لتكون في هذا الجنس الأدبي، أنجزها وهو مكتمل المزاج والأدوات، فكان يؤسس بفعل لهذا الجنس الأدبي».
بدوره وصف الأستاذ حميد جماهري مدير نشر جريدة «الاتحاد الاشتراكي» في كلمته التي تلتها بالنيابة الصحفية إيمان الرازي، وصف غلاب بـ«الرجل البحيرة»، حيث تترافدُ فيه السياسة والصحافة والأدب ، في حياض الوطنية، وهو فصيل لوحده ضمن فصيلة من قادة الشعب المغربي الذين وجدوا في الصحافة شرفة على النضال السياسي وعلى النهضة الأدبية، واحد من قبيل علال الفاسي، وعلي يعته، والمهدي بنبركة، وعبد الرحمان اليوسفي وعبد الله ابراهيم ومحمد حسن الوزاني، وعبد الكريم الخطابي، أولئك الذين همُّوا بالتاريخ وهمَّ بهم فكانوا له وكان لهم!
واعتبر ذات المتدخل أن لغلاب أفضالا كبيرة على أجيال من الكتاب والمثقفين، حيث قال بأن غلاب علمنا أن الرواية جزء من الممكن المغرب، وأن التاريخ لا يلغي بالضرورة الحاضر، وأن النشوة الوطنية لا تعني الاستسلام للإرث الاستعماري في الإدارة..كما علينا أن نذكر أنه واحد من القلة التي غامرت بتقنين المخيال المغربي، وكلما شاهدنا الكتابات الكبرى، وهي تتحول إلى مسلسلات ناجحة، تساءلنا: ألا يمكن أن يفكر واحد منا في تحويل «المعلم علي» إلى مسلسل طويل يصنع سيرتنا الجماعية للبصر والبصيرة معا؟ كما اعتبره أيضا، محاورنا السري، الاسم الآخر للمونولوغ لما يكتب في السياسة ونختلف في الموقف أو لما يكتب في التاريخ ولا نتفق على التأويل..وعندما يبدع يترك لنا حرية تجريب الديناميت الذي زنَّرنا به جيرار جنيت أو تزفيطان تودوروف، ولا يأبه إلا بما يحفل به خياله الوطني.
وأضاف جماهري:» كنا نعتبر أن الخلاف معه دليل ذكاء طبقي حاد، وربما دليل ذكاء فقط طبقات ولامادية جدلية تعيد التاريخ إلى صواب»، متسائلا في الأخير «لماذا يشعر مناضل من حركة الاتحاد بأن موقدا فقد حرارته في جهة ما من القلب عندما نفقد أبا مؤسسا من قادة الاستقلال؟ هل هذا ما يسمى عادة المشترك الوطني والمرجعية الحركية للتحرير الشعبي؟
وفي شهادة للأكاديمي عبد الإله بلقزيز قال إن خصيصية الجمع في شخصية غلاب «بين المثقف والمناضل»، مبناه وعي وإدراك حاد لديه بأنه ما من إنتاج فكري معرفي أو أدبي رصين، لا تكون خامته مسألة الاجتماع الوطني»، وعلى أنه ما من فعل سياسي وطني إلا ذلك الفعل الذي يكون مسنودا برؤية يسترشد بها خاصة أن السياسة بدون رؤية ستكون عمياء ستؤدي لا محالة إلى الهلاك. فالسياسة الحكيمة ليست تلك السياسة الرشيدة أو القويمة، بل تلك التي تستند إلى المعرفة والحكمة والرؤية الواضحة والصريحة معا، وأضاف أن غلاب كان حريصا باستمرار على التأكيد بأن الخيارات الثقافية التي لا تسلك الوضوح لا تنجح، مركبا عالمه الخاص ليقنعنا بأن العالم الذي يأوينا أضحى هجينا ولم يعد يغمرنا سوى باليأس والألم والخوف وعلينا أن نواجه الفشل بتغيير طريقة العمل كي لا يقتلنا اليأس في الأخير.
هذا وقد أجمعت جل المداخلات على تفرد غلاب الغلاب في كل شيء، في السياسة والصحافة والأدب والثقافة حيث اجتمع فيه ما تفرق في غيره، حيث اجتمع المناضل والمثقف والصحفي والمؤرخ والباحث والسياسي الملتزم بالمعنى الشامل أي بالعمل الوطني نهجا وأفقا وخيارا، والالتزام بالعمل الحزبي داخل مؤسسة عريقة كالاستقلال، والجماعي خاصة ما كان يكتبه في زاويته الإعلامية «مع الشعب».


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 20/05/2023