عبد الله حرش يرفع الستار عن «بعض مني ..حالات وإحالات» حيوات متعددة في حياة واحدة

 

صدر للكاتب والمربي والمؤطر والمناضل الاتحادي الأستاذ عبد الله حرش كتاب اختار له عنوان « بعض مني.. حالات وإحالات».
الكتاب الذي يقع في 194صفحة وكتب مقدمته الأستاذ عبد القادر طلحة، عبارة عن مذكرات شخصية كتبها نزولا عند طلب نجله بدر حرش، الذي ألهم والده فكرة كتابتها محفزا إياه ليرفع الستار عن وقائع وأحداث عاشها، بحلوها ومرها، منذ رؤيته النور بشمال المغرب، مفضلا أن يفتح نافذة مشرعة على تضاريس حياته لتطل منها شخوص سيرته الذاتية التي منحتها تلقائيته في الحكي ودقته في السرد وحرصه على الوصف الدقيق للأماكن والأحداث، حياة ثانية بعيدة عن الجمود والتكلف.
وبما إن للذكريات في حياتنا بالغ الأثر في ربط الحاضر بالماضي، فالذاكرة، بالنسبة لعبدالله حرش، دورها عظيم في تنقيط الحالات الحاضرة واستشراف الآفاق المفتوحة على مختلف الاحتمالات الواردة، فأن تتذكر، يقول الكاتب، هو أن تمشي بمعنى من المعاني لتستحضر أحداثا ووقائع ومواقف ورؤى للواقع والحياة معا. إذن فالمحكي هو «البؤرة التي تتفاعل فيها مختلف الذكريات التي لم تصعد إلى الشعور بها حتى وقت مناسب آخر «ص21.
مذكرات عبد الله حرش تحرضنا على التهامها وتغوينا بتتبع أحداثها بل وربط علاقات مع شخوصها، فالكاتب لم تخنه جرأته وهو يتحدث عن الماضي وحالاته ومشاكله التي لا تختلف عن مشاكل أي أسرة مغربية، سواء أكانت بجنوب المغرب أو بشماله، مع تفاصيل صغيرة تختلف هنا وهناك، يتحدث عن أسرته ويفرد لوالده حيزا مهما من ذكرياته، يتكلم عن الأب المعيل ميمون أحمد وعن ذكائه وشجاعته وإتقانه للغة الإسبانية، ذاكرا صفاته بكل تجرد وفخر يقرأ بين السطور» كان معروفا عن ميمون احمد…العناد الحرن والحزم الصارم غير المتردد والشجاعة المجازفة حد المغامرة (…)»ص25 ، كما لم ينس الأم الحاضنة الحنون الحريصة، والإخوة الذين تقاذفتهم سبل الحياة ورسمت لكل واحد منهم مسارا مختلفا تماما عن الآخر، وولايته للأسرة بعد وفاة الوالد ورعايته للأم والأخت والأخوين، وما قابله من مشاكل تصفية التركة والإرث والتنقل للدراسة، ذاكرا كل ذلك وما مر به دون رتوش أو عمليات تجميل مبتذلة .
لقد نقلت دروب الحياة عبد الله حرش من حالة إلى أخرى ومن تضحية إلى تضحية في سبيل الوصول إلى الأهداف المتوخاة التي وضعها نصب أعينه منذ نعومه أظافره رغم أن الطريق قد تكون شائكة وليست دائما مفروشة بالورود، ولكنه في مذكراته لم يحرق المراحل مفصحا عن تفاصيل بعيدة في الزمن، لكنها لا تزال حاضرة في فؤاده مستحوذة على الحيزالذي يليق بها في كيانه، غيرغافل عن ذكر آماله وتطلعاته آنذاك، مبديا بين الفينة والأخرى رأيه في بعض الأحداث والوقائع التاريخية التي عايشها وكيفية تبلور اهتماماته الثقافية السياسية والاجتماعية، موردا بعضا من قراءاته الأدبية والتزامه بتثقيف نفسه وتحفيزها على الاطلاع :»التزمت مع نفسي على قراءة جملة من الكتب بدت لي ضرورة الاطلاع عليها في زمانها منها على الخصوص دون كيشوت لميخيل دي سيرفانتيس، العدم والوجود لسارتر ، المغنية الصلعاء، وقاتل بدون مقابل لأوجين يونسكو، وفي انتظار كودو لبيكيت…» ص 66.
تتوالى فصول الذكريات وتتوالى معها مساحة البوح ويشدنا أسلوب الكاتب الماتع لنواصل الإطلال على مسرح مليء ركحه بالشخوص والفصول، لترفع الستارة مرة تلو الأخرى عن فصل جديد من كتاب حياة عبد الله حرش بتشويق مثير يشد انتباه القارئ، راويا ظمأه للاستزادة من صنوف وقائعه وأحداثه لنصل معه إلى الفصل الذي يتحدث فيه عن نضالاته الحزبية، فالكاتب مناضل فذ بحزب الاتحاد الاشتراكي، قطع أشواطا في النضال بكل الواجهات، خاصة منها اللقاءات والندوات والمحاضرات لإيصال رأي الحزب وقناعاته إلى المواطنين بكل البلدات التي تتواجد فيها فروع الحزب، وفي مذكراته حرص حرش على ذكر أسماء مناضلين اشتراكيين شهد لهم بالتضحية ونكران الذات والاحتكاك بالجمهور من بينهم على سبيل المثال لا الحصر «الحسين الفهيمي . مصطفى الحمداوي . محمد اليازغي .الطيب منشد.أحمد البروزي .محمد جسوس.عبد القادر طلحة.عبد القادر باينة. مصطفى ترجوانت.عبد المالك درغال.احمد توفيق.احمد القاسمي.عبد الهادي خيرات.محمد البطيوي.مصطفى بوحجار.المختار بنتلي.عبد الحميد جماهري…» ص 153 وكذا لقائه بعبد الرحمان اليوسفي خلال اجتماع لأحزاب الكتلة بفاس.
يتواصل المتن السير ذاتي مع الأستاذ حرش في تسلسل محكم لا يخلو من متعة غامرة يستشعرها القارئ وهو يواصل الاطلاع على رحلة الكاتب في الحياة إلى أن قاده قطارها الى محطة القصر الملكي بالرباط مدعوا لحضور، بعد أن حاز الرتبة الأولى في امتحان التخرج من المركز الوطني لتكوين المفتشين، احتفال القصر بمناسبة حصول ولي العهد آنذاك الملك محمد السادس على شهادة الإجازة بفرنسا، موردا بعض الأحداث التي صادفته قبل حضوره الحفل.
الكاتب أفرد في أحد فصول مذكراته، في الصفحة 163، حيزا مهما للحديث عن ممارسته المهنية كمفتش منسق لمادة التربية الإسلامية بالجهة الشرقية بوجدة متحدثا عن لقاءاته الدورية مع المفتشين العامين للقاءات التكوينية مع الأساتذة، وزياراته للأقسام التعليمية ومناقشاته مع الأساتذة موردا تفاصيل عديدة عن هذه المرحلة من حياته التي لم تخل من بعض المشاكل التي تطبع سير أي مهنة من المهن إلى حين تقاعده، ليخلص في نهاية مذكراته الى التساؤل عن أهمية ما كتبه للآخرين: في أي شيء يمكن لهذا المنتوج أن يعني غير صاحبه؟» مؤكدا في ذات الآن «أن الأشياء التي تم سردها لا قيمة لها إلا في حد ذاتها» ص189 .
مذكرات الأستاذ عبد الله حرش كتبها بلغة سلسة مسترسلة دون مطبات أو إبراز لعضلات لغوية صعبة ومستعصية، بل دونها بمنسوب عال من الشجاعة و الجرأة في تناول بعض من حيوات عاشها في حياة واحدة، ولكنه أفرغها في قالب واحد صهرته التجارب وصقلته الخبرة والرغبة في أن يستثير عمله لدى القارئ الإحساس المترع باللذة الفنية ولعله وفق في ذلك…خاتما مذكراته بأبيات شعرية للشاعر الإسباني ميكيل فرنانديث من ديوان «الحكاية غير المنتهية»:
«ليس لي بعد من خدمة سوى أن أبقى وحدي
أتأمل سقف سحبي
أحيانا في السماء أرى عصافير
وحينا شعاعا من نور ينيرني
يمكن أن تمر ريح
والقاسي هو أن رؤيتك أبدا
لن تحميك من ذاك الذي يسوطك»
وتستمر الحكاية ويستمر عبدالله حرش في الحلم وفي الإبداع وفي التطلع إلى الغد المشرق المنير رغم كل الصعاب.


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 14/04/2022