عتبات تلقي النص الأدبي

شكلت الشكلانيّة الروسيّة معية أعضاء حلقة براغ، منطلقا هاما في البحث عن العناصر ، التي تنتظم عندها الخصائص الداخليَّة للأدب، غير أن الخطابَ الأدبيَّ، في جوهره، تجربة يتقاسمها كل من المبدع والقارئ على حد سواء . بمقتضى ذلك ، كان لزاما على السيميائيات ذات الأصل البنيوي أن تخرج ، في حدود الممكن والمتاح ، عن مبدأ انغلاق النص الأدبي. لذا ، فما عسى البنويية إلا أن تتنازل عن بعض مبادئها ؛ لتلامس التفاعل الحقيقي، الذي يحدثه الأثر الأدبي في المتلقي . ففي هذا المسعى ، ثمة سؤال كبير أرَّق الدارسين والمهتمين ، مفادُه : كيف يُطور الخطابُ الأدبيُّ الحمَّالُ للصُّور المجازية إدراك القارئ لعالمه؟
أمام الخروج القسْري للبنيوية عن مسارها المعرفي ، الذي سطره الرواد ، كانت فلسفة الجمال حضنا دافئا ، الذي احتضن هذا النسق الجديد ، ووجها أساسيا من وجوه الاهتمام المتزايد بالمتلقي، بل المحركَ الأساس للإدراك والتفاعل الحقيقين بين المبدع و القارئ. إلا أن المسار التاريخي الواصف، الذي قطعته المعرفة الانسانية، جعلت من جمال التجربة الأدبية رمزا حقيقيا ومطمحا كبيرا ، غير أنه كان مُضمرا وثاويا في مفاهيمها وتصوراتها للذات وللعالم. وفي خضم ذلك، كانت الملحمة والملهاة والمأساة ، وهي ظواهرٌ شعرية، عند اليونان على عهد أرسطو ، تحتفي بطريقة غير معلنة وظاهرة بالمتلقي، بل تكتفي فقط بالتلميح بمدى أهميته في السلسلة الابداعية عن طريق المشاركة في التواصل التفاعلي عن طريق الإشارة والتلميح والإيماء …
فالملحمة أو المسرحيّة الشعرية لا تقوم لها قائمة من دون الحضور الفعلي للآخر؛ المتفاعل الأساس ، والنبراس الذي يضيء هذا السَّمت الأدبي، ويمنحه قيمته الحقيقية . علاوة على ذلك، تأتي نظرية المحاكاة عند أرسطو كتثمين للدور، الذي يقوم به أشخاص يفعلون و يمارسون المحاكاة، بعيدين كل البعد عن الحكاية، وإن كانت، هذه الأخيرة ، مجرد سرد في التاريخ المعرفي . فالخطابة الأرسطية هي بلاغة التأثير المباشر في المتلقي بامتياز، بل هي الكيفية التي تجسدن التفاعل والانفعال والإقامة الدائمة على ضفاف الجمال ، حيث إن للشعر بؤرا مجازية وتصويرية، يستلذ طعمَها المتلقي دون أن يدرك أبعادها و تأويلاتها النقدية.
وفي ذات المسعى، لا حديث عن الإمتاع البلاغي العربي القديم دون أن نتفيَّأ بظلال عريش عبد القاهر الجرجَاني الممتد في الزمن والتاريخ، إنه شفيع نظرية النظم وباعث الدلالة في الثقافة العربية القديمة والحديثة، والمحفز الأول على تفسير الإعجاز القرآني، بعدما نعى كل النظريات السَّابقة عليه، التي سعت حثيثا إلى شرح القرآن الكريم. وبمقتضى ذلك، خصَّ الجرجاني النظم بتعريف جامع مانع في « دلائل الإعجاز و أسرار البلاغة» حيث يقول: «وأعلم أن لا نظم في الكلم، ولا ترتيب ، حتى يعلق بعضها بعضا … وتجعل هذه بسبب من تلك…». إن هذا الإخراج التعالقي المتين للكلِمِ في النظم، الذي أشار إليه الجرجاني، لهو أكبر دليل على الحُظوة المتميزة، التي يتمتع بها المتلقي في المسار الثقافي والإبداعي. وهذا هو مبعث التواشج والتعاضد الكائن بين المبدع من جهة، وقارئ النص الأدبي من جهة أخرى . وسياقيا، ركز الجرجاني، في نظريته، وبشكل كبير، على الجانب التركيبي والنحوي، لما لهذا الأخير من ارتباط جامد بالأذن الموسيقية والسَّليقة العربية، التي دمغها الشعر العربي منذ العصر الجاهلي.
إن للمحسنات البيانية، من مجاز واستعارة في البلاغة القديمة، دورا متميزا في بناء المعنى، فمهما كانت إصابة التشبيه بليغة ؛ ربطت بين المعنيين بهدف الإظهار و رفع الغموض والإبهام ، لا بد أن يراعي فيها ـ أي التشبيهُ ـ مشاعر المتلقي وإحساساته وذوقه أيضا . ففي هذا المسعى تأتي البلاغة كي تكون رافعة لكلِّ الحجب، التي تلف علوم الأدب ، بل تتعالقُ و مختلفَ المشارب المعرفية والثقافية، مطلة بموجب ذلك على مختلف أسرارها. ومنه ، كان النسق البلاغي يخيط كل التواصلات الإنسانية؛ بهدف الفهم والتأثير والاستمالة بخصوص الخطاب الإقناعي الحجاجي؛ وهذا من صلب وترائب الاهتمام بالمخاطب. إن الميدانَ ، الذي يؤلف بين مختلف أجزاء العلوم المكونة للبلاغة، يذهبُ نحو ربط أواصر وجسور تواصلية بين العناصر المكونة للعملية الابداعيّة . فالخطاب البلاغي ، حسب محمد العمري، يبغي أثرا وتفاعلا محدَثا بين متخاطبين فعليين أو مفترضين ؛ وهذا إما أن يكون طلبا للتصديق أو للتخييل . فالاعتناء بالقارئ، إذن، هو تفاعل قائم من أجل ترسيخ عتبات تلقي الإبداع عموما.
بالموازاة، لقد أصبح حضور القارئ في ذهنيَّة الكاتب أمرا لا محيد عنه، بل ارتبطا ـ أي الكاتب والقارئ ـ ارتباطا عضويا بإنتاج المعرفة والدلالة . فمع بزوغ فجر المدارس الحديثة في أوربا، منتصف القرن العشرين، كان لزاما على أحوال المتلقي أن تتربَّع على عرش خطاب العلوم الإنسانيّة عامة ، فضلا عن وجودها المحدد للكينونة المعرفيَّة . وفي ذات المسعى نجد عالمَ البنيوية الفرنسي ذا الأصول البلغاريّة تزيفتان تودروف ، وعالم اللسانيات البريطاني تيري إيجلتون عكفا على الصياغة الجماليَّة للنظرية المعرفية، التي تخدم تلقي الأدب ، بل جعلا من الخطاب الجمالي ـ الإيستيتيكي قاطرة نحو إحداث ثورة في ميدان العلوم الانسانيّة . علاوة على بحثهما المستفيض في أدبية النصوص، كشرط محدد لتلقي المعرفة الأدبية، دون اللجوء إلى البحث عن سراب نظري للتجويفات الخطابيّة. وبذلك مهَّدا الأرضية المناسبة ، في ميدان النقد والبلاغة ، استجابة للتطور والإبدال، الذي شهده الدَّرسُ الأدبيُّ واللسانيُّ . وبمقتضى ذلك ، كان تودروف وإيجلتون امتدادا شرعيا لكل من إدغار ألان بو وموريس بلانشو حيث كانوا من المفكرين القلائل، الذين يتشبثون بثقافة القارئ، ويبوصلون معارفهم واهتماماتهم النقدية والبلاغية، خدمة للتلقي الجيد والمثمر.
أما في تاريخ الثقافة العربية سنجد قضية الطبع والصنعة المنعطف الخطير ، الذي شرعن المرور الآمن نحو الصورة المثالية، التي يحتلها القارئ في ذهنية الشاعر. وما كانت الدُّربة، حسب القاضي الجرجاني ، إلا الوسيلة المتميزة لإخراج القصيدة إخراجا جديدا، يراعي فيها الشاعرُ ذوقَ السامع و خصوصيته الفكرية والثقافية. إن تضمين ابن سلام الجُمحي في كتابه العتيد «طبقات فحول الشعراء» قول عمر بن الخطاب ؛ «كان الشعر على قوم لم يكن لهم علم أصحُّ منه»، لأكبر دليل على الاعتناء المتنامي بالسَّامع وذوقه. وبفضل ذلك، أصبحت الدُّربة السَّمت الصحيح لإنتاج القصيد ، مادام الشعر علما له أسسه ونواميسه . علاوة على مفهوم كلمة الشاعر في العربية، التي تقترب من معناها في اليونانية. فالشاعر هو العالم، بينما الشعر هو العلم، حيث يدخل في باب الصنائع والإنتاج.
بداهة أن تحتل المعاناة والمكابدة، في القول الشعري عند العرب، العصب الذي يجمع ويؤلف بين جميع أغراضه . سيما وأن المجتمع العربي الاسلامي، بفعل الفتوحات ، انتقل إلى مصاف الأمم المنافسة آنذاك ؛ الفرس والروم. فالشعر، حسب الجاحظ ، صناعة من خير الصناعات ، كالحلل و المعاطف والديباج والوشي وأشباه ذلك، فهو في رأيهم يشبه صناعة الثياب، فيه الملون وغير الملون. بفضل هذه الطفرة نجد شعراء الأدب العباسي يولون أهمية قصوى لقرائهم من العامة، خصوصا عندما شاعت ظاهرة إجالة النظر قبل إخراج القصيدة، فهناك من الشعراء من تمكث عنده القصيدة حولا كاملا، فسميت بالحوليات نسبة إلى الحول أي: العام . وفي مقدمة هؤلاء، من الشعراء ، نجد أبا تمام ؛ باعث الغموض والإبهام ، وملهم شعراء الحداثة في الشعر العربي الحديث والمعاصر.
لقد بات تاريخيا، ومن البداهة أيضا ، أن تنتصر فكرة الغموض والإبهام للمضمون على حساب الشكل ، وإن كانت تسكن ، هذا الأخير، الدلالة ُ؛ كي تطال كل الإبداعات الثقافية والفكرية . سيما وأنها تتغيا أن تخلق من المتلقي خلقا جديدا، باحثا ومنقبا وساعيا سعيا حثيثا إلى عريش المعارف وتداولاتها . وأن تراهن ـ أي الإبداعات ـ على القارئ الفاعل والنزق يستطيع أن يخترق القلع الحصينة للنصوص، مادامت هذه الأخيرة، مجرد استنساخ ومحاكاة وتصوير للواقع. وأن يطل المتلقي بعزم وبصيرة ، بها وعبرها، على بؤر النصوص الحمئة عن طريق تأويل ما سكت عنه النص، واستبدال الدلالات، واختراق الانزياحات النصيَّة ؛ التي جاءت بها ثورة الحداثة وما بعدها . سياقيا ، لم يعد النصُ الحداثيُّ بحاجة إلى قارئ ينصت ويرهف السَّمع إلى المعاني الدقيقة ، وإلى مداخلها الرقيقة، وإلى مخارجها السّهلة فحسب، بل بحاجة إلى قارئ يكون كشَّافا الدلالات الخبئة والمعاني المستترة ، بهدف أن يبلغ النص الأدبي مداه، وأن يجاريَ انفساحه الثقافي والمعرفي.


الكاتب : رشيد سكري

  

بتاريخ : 24/10/2018