عرف قطاع العدالة ورشا إصلاحيا لم يعرفه المغرب في تاريخه الحديث والقديم

 

شكل قطاع العدالة احد القطاعات الرئيسية في مطالب الاصلاح ، ما هي في تقديركم اهم الاصلاحات الجوهرية التي تحققت في العهد الجديد؟

خلال العهد الجديد عرف قطاع العدالة ورشا إصلاحيا لم يعرفه المغرب في تاريخه الحديث والقديم، ورشا يمكن أن نؤرخ لانطلاقته بتعيين أخينا الأستاذ محمد بوزبع وزيرا للعدل سنة 2002 في حكومة ادريس جطو ، (فيما نعتناه وقتها بالخروج عن المنهجية الديمقراطية). قد يبدو ذلك التعيين منظورا إليه من الواقع السياسي اليوم أمرا عاديا، لكنه في وقته شكل انتقالا على درجة كبيرة من الأهمية والدلالة، كون وزارة العدل وقتها تعد من أهم وزارات السيادة، ومن المجالات المحفوظة للملك. وكان هذا التوجه يستند إلى خلفية تاريخية وفقهية تعتبر أن القضاء فرع من الإمامة العظمى، ويختص ولي الأمر وحده بتعيين القضاة وعزلهم، ولم يكن من حق المرأة تولي القضاء. وبحكم هذه الخلفية التاريخية والفقهية تم النص في الدساتير على أن الأحكام تصدر باسم جلالة الملك، وتكرس بذلك إبقاء حراسة أختام المملكة في المجال المحفوظ للملك. واستحضارا لهذه المعطيات؛ اعتبر أن ورش إصلاح العدالة في العهد الجديد انطلق فعليا بهذه الإشارة القوية من جلالة الملك بتعيين فقيدنا العزيز سي محمد بوزبع وزيرا للعدل وهو المعروف بانتمائه للاتحاد، وتبعا لذلك بخروج وزارة العدل منّ دائرة ما كان يعرف بوزارات السيادة. وقبل ذلك كان جلالة الملك قد أكد في خطابه السامي في افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء في مارس 2002 على «التعبئة الكاملة والقوية للقضاة ولكل الفاعلين في مجال العدالة للمضي قدما بإصلاح القضاء نحو وجهته الصحيحة وانتهاء زمن العرقلة والتخاذل والتردد والانتظارية»، وتوالت بعدها خطب ملكية متواترة تؤكد كلها على أهمية وملحاحية إصلاح العدالة ببلادنا.

على ذكر تعيين أخينا محمد بوزبع وزيرا للعدل، كيف تقيم مرحلة توليه هذه الوزارة وتفاعله مع الثقة الملكية في ورش الإصلاح.

الأستاذ محمد بوزبع خبر قطاع العدالة بحكم امتهانه المحاماة لسنوات طويلة، وكان واحدا من أعمدة المهنة وقطاع المحامين الاتحاديين. وعندما تقلد هذه المسؤولية كان على إلمام واسع بأوضاع العدالة في بلادنا. وبمجرد توليه المهمة صاغ مشروعا متكاملا لإصلاح العدالة بكل مكوناتها، أسسه على أربعة ركائز فيما أذكر: التحديث، التقنين، التكوين والتخليق. بخصوص التحديث انصب هذا الورش على تحديث بنايات المحاكم باعتبارها معيارا لأهمية المحكمة في نظر الرأي العام، وكان يقارن بين بنايات العمالات وبعض الإدارات الحديثة والمجهزة وبين حال بنايات المحاكم ووسائل العمل التي لا تسعف، وقد أثمر هذا الورش ما أصبحت عليه أوضاع المحاكم اليوم من بنايات وتجهيزات غيرت وجه المحكمة في بلادنا. وفي ورش التقنين عرفت هذه المرحلة تحديث جوانب مهمة من الترسانة القانونية للمملكة، أذكر أنه عند مناقشة مشروع قانون الإرهاب (لمعالجة مخلفات الأحداث الإرهابية ل 16 ماي) أكد أن علينا أن نواجه الإرهاب بالقانون لا بالسلطة، تكريسا لإيمانه بدولة الحق والقانون. وانشغل بموضوع التكوين والتكوين المستمر لمكونات العدالة باعتباره السبيل الأنجع لتطوير العدالة ومواكبة المستجدات القانونية والفقهية. واعتبر أن العدالة لا يمكن أن تتحقق في أجواء يشوبها الفساد، واتخذ إجراءات وتدابير لمواجهة هذه المعضلة، ومن المبادرات المشهودة له صدور القانون المنظم لمهنة المحاماة الجاري به العمل اليوم والذي ساهم في تحصين واستقلالية مهنة المحاماة، بل وفي تخليقها من خلال إحداث صندوق الودائع الذي شكل مساهمة نوعية في تخليق وتحصين هذه المهنة.
لا شك أن هذا الورش الإصلاحي الكبير واجه مقاومات كحال كل إصلاح، وطبعا ما كان له أن ينجح لولا الثقة الملكية، وتراكم مكتسبات حكومة التناوب التوافقي، وأيضا مع وجود أخينا عبد الواحد الراضي رئيسا لمجلس النواب، وفريق برلماني اتحادي قوي برئاسة أخينا الكاتب الأول الأستاذ ادريس لشكر واجتمعت فيه كفاءات حقيقية من أبناء الاتحاد. إن هذا النفس الإصلاحي الذي طبع مرحلة ولاية فقيدنا العزيز الأستاذ محمد بوزبع شكل بكل تأكيد لبنة إضافية في ورش إصلاح العدالة ببلادنا. وهو النفس الذي سيتواصل مع تولي أخينا عبد الواحد الراضي وزارة العدل في حكومة 2007.

وما هي الإضافات النوعية التي قدمها أخونا عبد الواحد الراضي لورش إصلاح العدالة خلال فترة توليه مهام وزارة العدل في حكومة الأستاذ عباس الفاسي؟

مع تعيين أخينا الأستاذ عبد الواحد الراضي تأكد توجه جلالة الملك بخروج وزارة العدل من دائرة وزارات السيادة، وبحكم التجربة السياسية العميقة لوزير العدل الجديد، وبحكم كونه رجل دولة من العيار الكبير، وتأسيسا على التراكم الذي تحقق في مجال إصلاح العدالة؛ رفع سي عبد الواحد شعار إصلاح المحكمة أولا، المحكمة باعتبارها وجه ومصنع العدالة. وجه العدالة من حيث يجب أن تتوفر لها البنايات والتجهيزات الحديثة، ومصنع العدالة من حيث تجب العناية بمكوناتها ماديا وأدبيا بما يسهم في إنتاج عدالة ذات مصداقية لدى الرأي العام. وبالنظر لما عرف عن هذا الرجل الفذ من رصيد ثقافي تقدمي، ومن حصافة الرأي، استطاع أن يتغلب على كثير من العوائق التي كان ورش الإصلاح يستهدفها، سواء في تعامله مع القضاء بحرصه الشديد على استقلالية القضاة في ممارسة مهامهم، أو في تعاطيه مع احتجاجات النقابة الديمقراطية للعدل دفاعا عن المطالب المشروعة لأطر وموظفي كتابة الضبط، أو في تكريس العلاقة التشاركية مع باقي مكونات العدالة وخاصة هيئة الدفاع جمعية ونقباء ومجالس. لا يسمح المجال بتفصيل كل الجوانب المتعلقة بورش «إصلاح المحكمة» كشعار مركزي في تدبير فقيدنا العزيز سي عبد الواحد الراضي لوزارة العدل، لكني استطيع الجزم بكون كل مكونات العدالة تحتفظ له بكثير من التقدير والعرفان لما تميزت به هذه المرحلة من إنجازات ومن تراكمات على درب الإصلاح الجدري والشامل لقطاع العدالة.

في التقييم العام لهذا الورش الإصلاحي لقطاع العدالة الذي يقوده جلالة الملك منذ 25 سنة، هل يمكن القول إن الورش أدرك جميع مراميه، وأن العدالة في بلادنا توجد في وضع مرض؟

لم يتوقف ورش إصلاح العدالة عند ولاية أخينا الأستاذ عبد الواحد الراضي، بل سيتطور الإصلاح لدرجة يمكن اعتبارها قفزة نوعية في هذا الورش، بصدور دستور 2011 الذي أقر لأول مرة القضاء كسلطة مستقلة وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حيث تجاوب جلالة الملك مع هذا المطلب الذي شكل لسنوات طويلة مطلبا لحزبنا ومعه القوى الحقوقية ببلادنا وخاصة جمعية هيئات المحامين بالمغرب. ولترجمة هذه الاستقلالية، وكدأب جلالة الملك في كل الأوراش التي فتحها، تم اعتماد مقاربة تشاركية من خلال الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، حيث بادر جلالته إلى تعيين اللجنة العليا للحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة المتنوعة والمتعددة المشارب، وأكد في خطابه التوجيهي للجنة على منطلق نجاعة المقاربة التشاركية التي اعتمدها جلالته في مختلف القضايا والإصلاحات الكبرى. وتم فتح حوار واسع حول الموضوع، انتهى بصياغة «ميثاق إصلاح منظومة العدالة»، حدد الأهداف الاستراتيجية والفرعية للإصلاح وآليات تنفيذه.
وهكذا أخلص إلى أن ورش إصلاح العدالة امتد على مدى 25 سنة من العهد الجديد، تراكمت خلاله إصلاحات أساسية وجذرية. ولأن المجتمع يتطور، مثلما تتطور الحضارة الإنسانية، وفي مسار التطور هذا تظهر الحاجة إلى إصلاحات مستجدة، وورش إصلاح العدالة يظل ورشا مفتوحا باستمرار. هناك اليوم حاجة لتقييم مآلات هذا الإصلاح في بعض جوانبه من خلال ما أفرزته التجربة، وهناك أيضا حاجة ماسة للبناء على التراكمات التي تحققت خلال 25 سنة الماضية ومقاومة كل المحاولات النكوصية مثلما نشهده اليوم في مشروع قانون المسطرة المدنية، حيث تصر حكومة التغول على إضعاف مهنة المحاماة مع ما يترتب عن ذلك من إضعاف للعدالة. ففي الوقت الذي اعتمد فيه جلالة الملك في ورش إصلاح العدالة، كما في مختلف الأوراش التي فتحها، على المقاربة التشاركية، نعاين كيف أن ورشا مهما في مسار العدالة مثل المسطرة المدنية يتم فيه اللجوء للأغلبية العددية ورفض سماع مقترحات المعنيين الأساسيين بهذا القانون وبالأحرى إشراكهم، ضاربة عرض الحائط بكل التوصيات التي أفرزها الحوار الوطني من أجل إصلاح العدالة والنموذج التنموي الجديد. وإن مواصلة تحديث ترسانتنا القانونية بما يتلاءم مع مقتضيات دستور 2011، وما تفرضه التحولات المجتمعية، والمشروع الملكي في التحديث والعصرنة، قد يكون بعيد المنال على الأقل في ظل حكومة التغول هاته.

 

عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

عضو الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء

نشر في خاص 29/07/2024


الكاتب : مصطفى عجاب

  

بتاريخ : 19/08/2024