عصر اللايقين

مع تفشي جائحة كورونا في العالم أجمع ومانتج عنها من تداعيات على المستوى الفلسفي والعلمي والطبي بالخصوص، تم استئناف النظر في الكثير من المسلمات التي كادت تتوطن في الأذهان كحقائق مطلقة، فعاد الحديث من جديد حول فكرة اللايقين. إلى درجة أن الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي إدغار موران دعا إلى الاستعداد للتعايش مع اللايقين في كل مجالات الحياة اليومية.
يردد موران باستمرار بأن العصر الذي نعيش فيه هو عصر اللايقين في مقابل العصور القديمة التي كانت تركن إلى اليقينيات من خلال فكرة وجود زمن دوري يتعين علينا أن نضمن حسن سيره. إن انهيار اليقينيات جاء نتيجة لانهيار أسطورة التقدم، والتقدم كما يقول موران “شيء ممكن ولكنه غير يقيني. وعلاوة على لا يقينية المستقبل، تنضاف كل أنواع اللايقين الناجمة عن السرعة الفائقة، وعن تسارع السيرورات المعقدة والعشوائية التي شهدها عصرنا الكوكبي، والتي ليس في مقدور الفكر الإنساني، ولا في مقدور حتى أقوى حاسوب ولا أي مارد-كما قال بذلك لابلاس- أن يتحكم فيها” . من هذا المنطلق فإن المعرفة الإنسانية تصبح بدورها مغامرة لا يقينية مادامت معرضة دوما للخطأ والوهم. لكن الوعي بهذه الخاصية اللايقينة للفعل المعرفي هو الذي يسمح لنا ببلوغ معرفة ملائمة بعد رحلة طويلة من الفحص والتحقق وتجميع المؤشرات.
المعرفة إذن إبحار في محيط من اللايقينيات، مرورا بأرخبيلات من اليقينيات. وإذا كانت الأفكار والنظريات لا تعكس الواقع بل تترجمه أحيانا بطرق مغلوطة، فإن الواقع ليس في النهاية سوى فكرتنا عن الواقع من خلال تأويلنا له، وهذا دليل على تعقده ولا يقينيته وهو ما يجعل قراءته مسألة ليست بديهية.علينا إذن أن نتعود على الاعتراف باللايقين والتسلح لمواجهته باستمرار مادام التخلص منه يبقى مسألة مستحيلة بل تدخل في باب الوهم. ومن أجل التشبث بأمل الوصول إلى عالم أفضل ينبغي أن ندرك كذلك أن الانطلاق من فكرة اللاحتمال والمراهنة على ماهو غير محتمل الذي قد يتحقق أكثر من المحتمل.
يرى إدغار موران بأنه ليست هناك معرفة بدون أخطاء وأوهام، بل إن المنظومات المتحكمة في العلم قد تساهم في إنتاج أوهام متعددة، ولاوجود لأية نظرية علمية بعيدة عن الخطأ بشكل مطلق ، لكن وتطور العلوم المعارف الإنسانية هو الكفيل بالكشف عن تلك الأخطاء ومحاربة الأوهام الناتجة عنها، وهذه من المهام التي ينبغي أن تقوم بها التربية. من هنا تأتي أهمية العقلانية في الحماية ضد الأخطاء والأوهام شريطة أن تكون عقلانية منفتحة ولا تتحول إلى مذهب منغلق خاصة عندما تصبح عقلانية تبريرية قائمة على أسس مشوهة، فيتسرب إليها الخطأ والوهم، والتبرير العقلاني يحدث عندما يوظف مذهب ما نموذجا آليا وحتميا في قراءة العالم. مؤكدا في نفس الوقت بأن العقلانية ليست حكرا على الحضارة الأوربية كما كان يعتقد لمدة طويلة، وأن باقي الشعوب والثقافات حاملة للأخطاء والأوهام والتخلف، والسبب في هذا الحكم الجائر هو الانطلاق من معيار الإنجازات التكنولوجية. في حين أننا نجد، في كل مجتمع، بما في ذلك المجتمع البدائي، حضورا قويا للعقلانية في طريقة صياغة الأدوات وتقنيات الصيد ومعرفة النباتات والحيوانات والمحيط، بالموازاة مع حضور الأسطورة والسحر والدين. وفي المقابل فإن المجتمعات الغربية ذاتها حبلى بالأساطير والسحر والدين بما في ذلك أسطورة العقل وأسطورة التقدم. لذلك فإن إدغار موران يرى بأن العقلانية هي الاعتراف بوجود أساطيرنا الخاصة. من هنا الضرورة الملحة للاعتراف بمبدأ اللايقين العقلاني ما دام أن العقلانية تظل مفتوحة دوما على احتمال تحولها إلى وهم التبرير العقلاني إذا لم تمارس على ذاتها نقدا ذاتيا دائما. “إن العقلانية الحقيقية ليست فقط نظرية وليست فقط نقدية ولكنها تقزم أيضا بنقد ذاتي مستمر”.من هنا فإن إدغار موران يعتبر الرؤية التجزيئية في مجال المعرفة العلمية ظلت مسيطرة على العقل الغربي منذ العصر الحديث إلى منتصف القرن العشرين، حيث كانت أغلب العلوم تشتغل وفقا لمبدأ الاختزال الذي يقوم على فكرة الحتمية ويؤدي إلى اختزال ما هو مركب في البسيط، مع إقصاء كل ما لا يقبل التكميم والقياس، وتهميش الأهواء والعواطف والمعاناة والفرح وقمع الصدفة والجديد الشيء الذي يضع سدا منيعا ضد الإبداع والابتكار البشري. إن هذه الرؤية تشتت مركب العالم إلى قطع منفصلة فتتجزأ المشاكل ويتم اختصار الأبعاد المتعددة إلى بعد واحد، الشيء الذي يقتل مهارات الفهم والتأمل ويؤدي إلى بناء الأحكام قصيرة المدى، يقول إدغارموران :” بقدر ما تصبح المشاكل متعددة الأبعاد، بقدر ما يتعذر تمثلها في تعدد أبعادها، وبقدر ما تستفحل الأزمة بقدر ما تكبر صعوبة التفكير في الأزمة، وبقدر ما تكون المشاكل كوكبية بقدر ما يتم غض الطرف عنها نهائيا. إن عجز الرؤية العمياء عن تمثل السياق والمركب الكوكبيين هو الذي يجعل كل واحد غير واع وغير مسؤول تمام”.

هوامش:

– إدغار موران، تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2002، ، ص74
2 نفس المرجع ص79
3 نفس المرجع ص 85
نفس المرجع، صفحة 24
5- نفس المرجع، صفحة 24
6 نفس المرجع، صفحة 25
7 نفس المرجع، صفحة 41
8 نفس المرجع، صفحة 41


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 04/11/2022