على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن-07-

الذاكرة الشعبية و التجربة الروحية للرجال السبعة

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n أصدرتم سلسلة من الكتب تعنى بميراث الرجال السبعة بمراكش، وعلى رأسها ما تم إنجازه حول الشيخ عبد العزيز التباع المعروف بالحرار، وهي وقفة متأنية في معارف الأجيال الشفاهية المكونة لفسيفساء السرديات الحكائية لأجيال مراكش على وجه الخصوص، بعيدا عن النظرة المألوفة في الثقافة العالمة التي تـَرسخت في أذهان الناس من داخل المدينة ومن خارجها، كلما تساءلوا عن سبعة رجال من هُم؟ ويبدو مؤلَّفك القيم تحت عنوان: أسماء في ذاكرة مراكش، الشيخ عبد العزيز التباع: المشهد الصوفي، من خلال سيرته وأدبياته، شهادة على ما جمعته ووثقته في عشر لقاءات، من مهرجان: سبعة رجال الثقافي الصوفي؛ جمعت بين دفتي هذا الكتاب، ما تلقيته في حذر، عن الجماعة الشعبية العريضة، والمُنتمية في أنشطتها الروحية والدينية إلى حظيرة الطرقيين بمراكش. ماهي نقاط الجذب التي أخذت منك وقفات متأنية في سيرة هذا الرجل؟ حسب ما أعتقد هي مظاهر نشاطك العلمي في فترة الشباب، وفي الكهولة المبكرة..
p نعم، كانت ذخيرة ما قد تمَّ جمعه والحصول عليه من مُدونات خلال عشر سنوات، لها علاقة وطيدة بزمان الطفولة والشباب والكهولة، وما وعته هذه الفترة إبَّان خريف الطرقية التي انحرفت عن منهاجها التربوي، والصوفي، وما أعقب ذلك من عادات وتقاليد، شاهدتها الحومات والأحياء زمانا غير يسير، وظلت تمارسها بعدة وجوه، تتجاوز في الوجه العام عتبة التوحيد مع الأسف.
نعم، فالذاكرة المراكشية – على تعاقب الأجيال، وتوالي الأيام والسنين – اِعتنت بتدوين أخبار رجال مراكش، وما كان يُروى عنهم من مرويات، سجل بعضها تاريخ مراكش الرسمي، والكثير من ذلك ظل يذاع في المحافل، وعند الطرقيين: الثقافة العالمة، والثقافة الشعبية، وقد حاوَل كل منهما أن يجيب – بدوره – عن الأسئلة التي كان يطرحها كل جيل من أجيال المدينة، على تعاقب الأزمنة والعهود، وإلى اليوم، بل إلى ما شاء الله تعالى!
n هذه الأسئلة من أي نوع؟ هل هي حول سيرتهم وسياقات بناء هذا التقدير الرمزي لمنجزاتهم الروحي؟
p نعم، تساءلوا جميعا عن سبعة رجال من هُم؟ ولماذا نُظمت زيارتهم؟ ومن نظمها؟ وما الحكمة في اتباع التـَّرتيب الموضوع لهذه الزيارة؟ ابتداء من زيارة الرجل الأول يوسف بن علي، صاحب الغار، إلى زيارة الرجل السابع الإمام السهيلي – رضي الله عنه –، كما استفسرت الأجيال المراكشية – أيضا – عن مستواهم العلمي، ودورهم الصوفي الكبير؟ وعما قاموا به من حركات مباركة جهادية، وإصلاحية، على صعيد مجتمعهم وبلدتهم، حتى استحقوا هذه العناية والاعتبار، من بين الزخم الكبير من أولياء مراكش وعلمائها الكبار، الذين تحلَّلت أجسادهم فوق تربتها الطاهرة، بعدما صنعوا مجدها التليد، وبعدما أبدعوا ثقافتها، واستفادوا كثيرا من تراثها، وتاريخها العتيد، على مر العصور، وعلى تعاقب الأجيال!! وقد جاء الاهتمام بالشيخ عبد العزيز التباع، وهو من رجالات القرن العاشر الهجري الذي سجل فترة عصيبة من تاريخ المغرب : إنها فترة الغزو الأجنبي على البلاد، وهجوم التيار المسيحي على المسلمين، وتعدد أنشطته التبشيرية بالمدن والأحواز ؛ ولعل هاته الوقفة المتأنية في هذا العهد الذي ظهر فيه الشيخ التباع – رضي الله عنه – سوف تكشف للمتتبع عن مشاهد شتى من الأدوار الطلائعية التي قام بها المتصوفة المجاهدون داخل الشرائح الاجتماعية، حين أطروا الجماعة الشعبية العريضة في كل الأنحاء، تأطيرا دينيا، وسياسيا، شارك فيه العلماء والفقهاء والأدباء، وأهل الرأي بالبلاد بحظ كبير، وكبير جدا، فظهرت نتائجه بوسط العامة والخاصة على مرّ العصور، ولم نُعْن من هذه المشاهد التي عرفتها هاته الفترة، إلا بمشاهد السلوك الصوفي المستقيم ؛ إذن، فقد كانت التجربة الرُّوحية الخالصة إطارا هاما، جمع بين الدين والسياسة وفق مصالح البلاد، والعباد، أدت إلى الابتعاد عن أفق التهميش، والتغييب، إلى فضاء الوَعي بالمسؤولية الدينية، والوطنية سواء ، بسواء !! على امتداد أجيال مراكش، ومسافة فتراتها الزمانية.
والأغلب في ما دوناه من معارف ومعلومات في هذه الدراسة يتجلى في ما قد فتح الله به علينا عند جمع مَوادها في انتظام فكري، صُوفي، جمعنا فيه بين حقائق التاريخ المكتوب، وبين تصحيح ما كانت ترويه «الذاكرة المراكشية» مما هو مُتداول بين الأجيال في رَغْوه وصَريحه، وغثه وسمينه؛ وهذه المقاربة سوف لا تمنع المؤرخ من توقي الدخيل، ومن الاحتياط – أيضا- مما يُروَى على عواهنه، وجعل المضاهاة والمباهاة مقدمتين في التسليم بما يُسلَّم به من حقائق تاريخية لا صلة لها بواقع من نؤرخ لهم، ونعرف بسيرهم، وبما أدوه من أدوار عظيمة في تاريخ الإنسانية، بل في الدعوة إلى مكارم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، لتحقيق خلافة الله فوق هذه الأرض، وحتى يعيها من كلَّ بَصره عن إدراكها، وغفا عقله عن تصورها !!
فالتراث الشفهي، هو الذي اِنتقل بعد مدة من الزمان الغابر إلى المكتوب المدون، أيْ من نُصوص جامدة، إلى مَشارف العقل ومُوازنة ما رَوَى المؤرخ من أدبيات في عالَم رَحب، يموج بالحياة، وحاجات الإنسان فيها، وفي هذا المسار (أي في مجال الاستفادة من المَرويات الشفاهية) يَكفي أن تستمع إلى أتباع الطريقة التباعية، وإلى مَريدي الشَّيخ الهادي بن عيسى، لتتبين حجم الأخبار، والمَرويات، والنصوص الهامة غير المدوَّنة التي صاحبتْ ما كان يُنسب إلى تاريخ الشيخ التباع – رضي الله عنه – جيلا عن جيل، وفي مختلف العهود، والعصور، تجد الكثير من المعارف في الثقافة الشعبية المغربية الأصيلة مكنت المؤرخ المتابعّ، أكثر من غيرها على الإطلاق .
وإنـِّي – ولو في عجالة سريعة، وجَولة عابرة– سوف أتذكر من هذا التراث ما عايَشته مَراحِلُ الطفولة والشباب والكهولة من مشاهد صُوفية على غير ما رَسَمه الأوائل من أجيال القرن العاشر الهجري وما تلاه؛ إنها مشاهد غيَّرت الكثير من رسائل المتصوفة، ومن عوائدهم، ومناهجهم إلى حين.


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 08/03/2025