عندما يموت «لاتينوس» في البحر الليبي

«ما زلتُ رقماً عصياً على الموت
رغم أنني وفرتُ له كل الأسباب..»
لاتينوس

1
الشعراء كثيرون، لكن النادرين والمختلفين، وشعراء الأعالي أقلية نوعية، وحدهم من يقبضون على جمرة الحلم والقصيدة الصافية، يحترقون ويكتوون، يحفرون في اللغة والمجاز،يناوشون المعنى ويجتهدون، ويمتلكون حس العرافة ، لذا، فعادة ما يصابون مبكرا بسرطان المرحلة، أو يغادروننا سريعا دون سابق حتى إخبار، و الشاعر السوداني «عبدالوهاب لاتينوس» الذي غادرنا مؤخرا، غرقا في البحر الليبي، واحد من هذه الأقلية الهائلة والنوعية .
رحل «لا تينوس» كي ينتهي حلم العبور حتى منتهاه بـ «كولومبيا»، كولومبيا التي تستحق الانتباه في القلب والقصيدة:
«ليتلاشى كل شيء دفعةً واحدة
ولتبقى كولومبيا فقط،
هي وحدها كل شيء»
فـ «كولومبيا» وحدها من تمثلني، ثوارها وحدهم من كانوا على حق، وأنا نصير من لا حق هم، نصير الذين تخلى عنهم العالم أجمع، يكتب لاتينوس ذات تغريدة حالمة على صفحته الفايسبوكية .

2

«لا تيونس» شاعر حالم، ومهووس بالكتابة ، شعرا وقصة قصيرة جدا ، وبذلك اقترف البوح و الحب والقصيدة، وربح رهان الظفر بتجربة جديدة تنضاف إلى الأسماء الراسخة:
«لم أقتل يوماً قصيدةً في الحنجرةِ.
كل الذي فعلته هو أنني اقترفت الحب،
حب الناس، المرأة والكتابة».
بيد أنه يريدها قصيدة حادة المجاز، لا .. قصيدة حافية وبدون أسنان:
« القصيدةُ فأساً مسنوناً
أو شجرة».
و حربا ضروسا مع اللغة، ومع هذه الحياة التي لا تطاق حتى:
«فلتكن القصيدة حرباً ضارياً
مع اللغة،
ومع الحياة أيضاً».
وعليه، يكون « لا تينوس «، ضد القصيدة الخرساء، المسالمة والمتفرجة، ويريدها قصيدة صاخبة، مزعجة للصمت، ومرهقة للبياض:
«لا تكن صمتاً
كن ضجيجاً
فالصمت يُرهق الاوراق
لأن لغته
لا تُكتب
بل تُبكى».
وبذلك، يدرك الراحل أن اللغة الشعرية الباكية في الشعر خلل يصيب الشعراء غير المتمرين على كتابة قصائد خلابة وصافية.
انطلاقا من هذه الحيثيات، تكون الكتابة لدى «لا تينوس»، فاكهة وحواء في حديقة لله:
«قد تكون الكتابة ، فاكهة لله، قبلة حواء
التي أعطت آدم معنى الإنسان
وعبق الشجر ولون الطين اللزج»

3
«لاتينوس «عاش الحياة، وفي المقابل ينفيها ويميتها في قصيدته ، محاورا ، ناقدا أو ساخرا.
وعليه، يحضر الموت بكل تجلياته، ليحتفي بالموت، وكأن هذا الموت هم موضوعه الشعري، يحضر بمعانيه وفضاءاته ومعجمه: «حتفك، الخراب ،اللحظات الأخيرة، تلاشى، النهاية، تقتل، تقتلني، يتجمد ،تنطفئ….».
وعليه، يمكن النظر إلى تيمة الموت في شعر «لا تينوس»، بأكثر من وجه، فأحيانا يستهين به:
«ليس سيئا أن تموت
في مقتبل العمر
دون أن تبلغ الثلاثين بعد».
وأحيانا يعتبر نمشة خفيفة:
«ربما الموت ليس أكثر من وخزة خفيفة
على رف طفل
ليس أكثر من قفزة مرتجلة
نحو الأسفل».
وقد يوجه الشاعر خراطيشه القاتلة صوب رأس العالم سخرية منه ، ومن حماقاته:
«صدقا تنقصني حماقة أخيرة
لأفجر بنشوة رأس العالم».
هذا العالم الذي لا يملك الشاعر سوى التبول على حماقاته ومفارقاته:
«ينقصني قضيب لأتبول على جثة العالم وأرتاح».
هذه العلاقة المهووسة بالموت، لم تنف في المقابل هذه الحياة التي لن تكون سوى كتابة استباقية:
« سأكتب نصوصا
أو قصيدة
لا تعترف بطهر اللغة،
ولا تعرف أدبا صلاة الروح».
ودعوة لممارسة الحب والخصوبة وبالمعنى الذي يريده الشاعر، حيث يبدو الشاعر عاشقا مجنونا للجسد وماسكا بمسامه في غياب الحب:
«يكفيني جسدك
فالحب لم يولد أبدا

لاأريد الحب
أريد اللذة فقط»
ونقرأ في نفس السياق:
«صدقا في الليل لا ينقصني شيء
غير حلمة تطل بعنقها من خلف السوتيان
كحلمة مارلين مونرو».
إنه الحلم بسمو المرأة سموا لا يضاهى، وإعادة الاعتبار لجسد المرأة وللحب، وتعيد الاعتبار لهذه العلاقة للحب والجسد كما ينبغي أن يكون في حدائق فاكهة الحب، وحتى يكون لدينا تماس مع أجسادنا كي نبوح بآلامنا، أحزاننا، فرحنا، وشبقنا، وبلغة الحلول والاندغام .
هكذا يعدو الموت شرطا الحياة، وهو في المقابل نفيا لها، وبمعنى من المعاني ، كل فعل لا يعني الحياة فهو صناعة لمحو الإنسان واعتداء على حياته:
«حين نتوقف عن فعل كل ما يمت
بصلة إلى الحياة
انه، بكل تأكيد، نحن نصنع الحروب
ونمارس القتل»
وهذه العلاقة الحميمية بالموت التي بلغت الحلول، جعلت الراحل يتنبأ بموته وطريقة وشكل هذا الرحيل الذي كان جراحا وصادما لعشاق قصيدته التي اختارت الغرق في الماء، لأن «الماء اسم قديم للشعراء» حسب الشاعر المغربي إبراهيم قازو:
«أن تموت في عرضِ البحرِ
حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ
والماء يأرجح جسدكَ
كقارب مثقوب».
من هنا، يكون الموت حيويا لا تيئيسا، إنه: «الموت الحيوي الذي يعطي البهاء للحياة الميتة»، وحسب جانكيليفيتش.
وعموما، رحم لله عبدالوهاب لاتينوس، شاعرا حالما بكولومبيا، والمرأة والناس والقصيدة التي تجمع بين البساطة والعمق كما أفلام شارلي شابلن، وهذه إحدى خصائص قصيدة الأعالي التي تنتصر للجوهر.
وماذا لو ننتصر لثقافة الاعتراف، ويفكر أصدقاؤه في موقع لتوثيق وأرشفة كل قصائده وقصصه القصيرة جدا؟ ونعني بالخصوص اتحاد الكتاب السودانيين في طبع ديوان لهذا الشاعر الذي غادرنا بغتة، وترك غصة في قلب القصيدة وعشاق سقوف مجازات وإنسانية هذا الشاعر اليسمى «عبدالوهاب لاتينوس».


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 26/08/2020