عند السبعطاش

في ستينيات القرن المزدحم بالأحلام والخيبات، كانت السبعطاش أعلى بناية ناطحة للسحاب، جاءت التوين والأبراج الزجاجية، لكن واجهتها الفريدة ظلت حسناء شاهدة على تحولات الدارالبيضاء وانكساراتها.
كان أحمد طفلا يصادف صورتها في كل أكشاك البطائق البريدية السياحية، يستعيد انبهاره الطفولي بجمالية شكلها وعلوها، موسميا.. يحين موعد السفر، يراها الطفل الجاهز للفرح، تلتقي دهشة العناق مع حتمية الفراق، من داخل الحافلة الدائخة، يحاول عد طوابقها السبعطاش، يتأكد من صحة الرقم، وبالتعجب البريء يسمعهم يقولون: «شفتي الناس اللي عندهم الزهر فين عايشين! «
كانت إحدى عجائب كويزا الحبيبة، قبل التمدرس وبعده، تحل العطلة، يأتي موعد السفر إلى دكالة السخية، تنطلق الرحلة من دروب السعادة المعلومة، في اتجاه درب مولاي الشريف ومحطة الحافلة رقم 12، ونفس جغرافيا الإقصاء والتهميش تحضن ملامح كاريان سنطرال وعناد الأحرار الأشقياء.
تلفظهم الحافلة عند نهاية الخط، ينتقلون من جغرافية سوق الكلب الفوقاني وتمظهرات دروبه العشوائية إلى الشوارع النظيفة وضرورة الانتباه لأضواء العبور النزقة.
لم تكن دهشة الأطفال سبيلا للاستسلام لسطوة الانبهار، كان أبناء الحي المحمدي محمولين فوق بساط الاعتزاز بالانتماء لحي ليس كالأحياء، وهنا.. في قلب «المدينة»، دروب معلومة، واجهات لامعة، طوابق سفلية دون أسرار، وثقوب ذاكرة تفرج عن بخار افتراس لا يرحم.
كل كويزا المعشوقة كانت تسافر من هنا وإلى هنا، تودع السبعطاش في الخروج، وتحضنها في الدخول، في مساحة خلفية ضيقة تزدحم بالحافلات وسماسرة مواسم العطل والأعياد، مثلما يحدث في سوق أسبوعي قروي، زحمة ولغط وصراخ وصداع منبهات حافلات مهترئة تجوب جهات المغرب الأربع، وتعود لبن جدية المكتظة بالأماني والانتكاسات.
على بعد أمتار قليلة، بشارع الزرقطوني الأنيق تقف السبعطاش في أنفة وكبرياء، تحرس سكان المنطقة، تستقبل الباحثين عن الاستقرار بدروب وشرايين المدينة المختنقة وتودع الباحثين عن راحة البال.
لم يكن مسموحا لأحمد ذي العشر سنوات الانتقال لقلب «المدينة» سوى في ثلاث مناسبات، عطلة رأس السنة الميلادية وعطلة فصل الربيع وعطلة فصل الصيف، بنية السفر لشتوكة ودكالة، ينحرف على يمين نهاية خط الحافلة رقم 12، يأخذه منحدر خفيف، يعبر ركضا تقاطع الزرقطوني والمقاومة، لم يكن يعرف التجاوب مع أضواء مرور لم تنبت في الحي المحمدي، والخليط البشري المكون من المسلمين والنصارى واليهود، إناثا وذكورا، أطفالا وكهولا وشيوخا، يمنح اللوحة تشكيلا مثيرا لا علاقة له بروتين الهامش المحتقَر.
لا حفر في الإسفلت اللامع، لا ممرات متربة، ولا كراريس خشبية رعناء، تتلاحق الخطوات المضطربة، وكما يحدث في حلم ظهيرة ساخنة، بالكثير من الدهشة والانبهار، يمر فوق منافذ أرضية حديدية، تداهمه روائح فرن عصري، يكبر لديه جوع طفل داهمته رغبة عارمة في التهام «باريزيانة» منحوتة، تنتقل الدهشة لواجهة «لاساطاس» وصورة السلوقي المثيرة للإعجاب، ويتأمل زبائن قادمين من عوالم أخرى وحافلات شبيهة بالمركبات الفضائية.
وبعد الصف الطويل للمحلات بواجهاتها الجميلة، يميل يمينا نحو زنقة صغيرة تؤدي لزحمة حافلات متسخة تليق بالضواحي القريبة والبوادي البعيدة.
كان أحمد المسالم يعيش حالة نفسية غير تلك المرتبطة بتراب الحي المحمدي وفوضاه المحببة، كالمخدر بروائح «المدينة» في شارع الزرقطوني وعلو السبعطاش الشاهق ونظافة واجهات لامعة تعرض محتويات مجهولة الاستعمال، يعيش انبهارا متوقعا ودهشة مكتوبة على من اعتادت أزقة كاريان سنطرال استقباله بالضجيج والزحمة ولامبالاة عيون المخبرين الحقيرين، وسفر مدهش في تفاصيل عصرية بتخطيط فرنسي مدروس.
تتقاطع زنقة ضيقة بشارع ذي اتجاه واحد، يثيره حِرفي شيخ يقرأ كتابا بحروف غريبة، فيما بعد عرف أنه كتاب مقدس باللغة العبرية، ظلت صورة الشيخ اليهودي الملتحي وهو يقرأ كتابه جالسا فوق سلعته المتمثلة في «خناشي الشمرتل» راسخة بذهنه، في كل سفر موسمي، يعبر نفس الطريق، يتأمل الشيخ تاجر «الخناشي»، إلى أن لاحظ اختفاءه في يوم سبعيني كئيب، رحل وترك وراءه دكانا مغلقا يتبول السكارى على بابه الحديدي الصدئ.
ونساء «المدينة» يتباهين بتنورات قصيرة وأفخاذ عارية، هنا تجلس النصرانيات في واجهات المقاهي، يدخن سجائرهن بتلذذ، وبالمناسبة.. كل الأجانب زرق العيون كانوا يسمون بالنصارى، يلغطون بفرنسية أعارها إياهم أحفاد المقصلة وعربات الدروب المتسخة، يبتاعون حاجياتهم من محلات استعارت واجهاتها من باريز الظلمة وطرقات الأحجار الصلدة، ويعرضون أجسادهم المنخورة ببرودة القارة العجوز لشمس كويزا المعشوقة.
بمحاذاة حانوت أكياس «الشمرتل»، ينتصب باب مسروق من أفلام رعاة البقر وإبادة الهنود الحمر، عتمة ولغط وموسيقى وواجهات زجاجية مطلية بصباغة سوداء فوقها لوحة «حانة سيردان»، دون تردد، تتسارع خطوات الطفل المخدر بأعاجيب الفضاء العصري، شيوخ دربه المترب قالوا له أن السكارى جميعهم شمكارة يخفون السكاكين وشفرات الحلاقة المرعبة، لذلك يركض مع دقات قلبه المضطربة ولا مجال لديه لتأمل فضاء الحرام المستورد.
اختصارا للمسافة، يقفز فوق سياج حديدي مضغوط جارح، يجد نفسه في حلبة مزدحمة بفوضى الحافلات المهترئة وكراريس الحمالين ولصوص الغفلة، يستقبله زحام التذاكر المصطنع، يأخذ تذكرة إن لم تحضر في وقت السفر لا تقبل منك شكاية، يركب حافلة الجديدة، يرتمي فوق كرسي ممزق الجوانب ويتنفس الصعداء.
تتلاحق حالات الاستجداء وعاهات التسول، وجوه بئيسة وأعطاب وأساليب مختلفة في طلب دريهمات قليلة، وبين الشفقة والحيرة، يتنقل أحمد بين أحاسيس متباينة، فيما السائق الغضبان يصرخ في وجوه المتسولين والنصابين ويتظاهر بالضغط على المتحكم في السرعة بلعاني.
يمر وقت طويل، والسائق العابس يضغط على السرعة والحافلة تهرنن دون أن تتحرك من مكانها، يصاب الركاب بداء الملل والضجر، يظل موكب المتسولين يمنحهم وجوها اعتادت النصب عليهم بعرض مواد رخيصة تصلح لمقاومة العقد النفسية والأمراض المستعصية على العلاج، تمتلئ الكراسي بالمسافرين، وتتحرك الحافلة اتجاه الجديدة الحبيبة.
تغادر المعطوبة زحمة المحطة بصعوبة، تختنق الصدور بالأدخنة، وفي الانحراف الأول، تظهر السبعطاش منتصبة بكبرياء، عروس مثيرة ببياضها الصافي، حسناء جميلة واثقة من فتنتها وجاذبيتها المؤكدة، يتناسى ركاب الأقاصي المنسية استعراض المحلات التجارية، وينشغلون بتأمل بهائها المهيب.
وذاك القوام البهي ، الباب الصخري الأصفر بحجم باب سوق خميس الزمامرة القديم، تقاطعات طرق المتاهة والأرصفة المطلية بالأبيض والأحمر، انحرافات واجهات الطوابق المثيرة للدهشة، وسؤال أحمد يفضح انبهارا طفوليا، كيف استطاعوا بناء هذه الطوابق بانحرافات لا اعوجاج فيها وفي الحي لا وجود سوى لحيطان عشوائية بنيت طوابقها العلوية ليلا بعيدا عن عيون المقدمين والمخبرين الأغبياء.
بعد التوقف في محطة بنزين تطل على ملاعب تنس خاصة بأثرياء المرحلة، تخرج الحافلة المعطرة بروائح العرق والأحذية المغشوشة من بين ڤيلات الوازيس، تنحرف يمينا، تتجاوز حاجزا أمنيا،تزيد في السرعة، وينشغل أحمد بالعبث بوقت السفر ومطاردة أشجار كاليبتوس شاخت واقترب أوان سقوطها الأخير.


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 16/06/2023