عودةالعاملات المغربيّات إلى حقول الفراولة الإسبانيّة: معاناة واغتراب

 

يُستفاد أن الهيئات الفلاحية الإسبانية عبّرت عن استعداداتها لاستقبال العاملات المغربيات الموسميات اللاّئي يعملن في قطف أو جني الفراولة أو الفريز أو توت الأرض فى الديار الإسبانية، وأفادت مصادر إعلامية إسبانية ومغربية مؤخراً بأن الدفعة الأولى من العاملات المغربيات في حقول الفواكه الحمراء ستُباشر عملها مع نهاية العام الجاري 2021، على غرار المواسم المنصرمة .
هؤلاء العاملات المغربيّات الموسميات فى الديار الإسبانية معظمهنّ من الأمّهات، والأرامل، والعوانس، والثكالى، ينتمين إلى المناطق الهشّة من القرى، والمداشر المغربية التي تعرف هشاشة في بنياتها الاقتصادية، وخصاصاً في القدرة الشرائية لساكنتها، يتمّ نقلهنّ إلى إسبانيا للعمل في هذا المجال كلّ موسم بعقود عمل مُحدّدة ومؤقتة، تنتهي بانتهاء الموسم الفلاحي.

صولات وجولات ومواجهات

حالتهنّ مُزرية، وظروفهنّ مُبكية، لابدّ أنّهنّ يغادرن الوطن على مضض، يبرحنه مُكرَهاتٍ بمرارة لجلب لقمة العيش اليومي الضروري بالكادّ لسدّ رمقهنّ ورمق أسرهنّ وأطفالهن فى بلدٍ جار كان له حتى الأمس القريب ولا يزال صولات وجولات، ومواجهات، ومناوشات، ومغالطات، ومشاكسات، على امتداد تاريخه الطويل القريب منه والبعيد حيال بلادهنّ نظراً لما عرفته علاقاتهما الثنائية من مدٍّ وجزر، وأخذٍ وردّ، وفتقٍ ورتق، وطبخٍ ونفخ. جروح الماضي المشترك لم تُضمد، وقروحه لم تلتئم بعد، والسّيوف ما زالت مرفوعة إلى أعلى حتى اليوم في ما يخصّ غير قليل من المشاكل والقلاقل، والقضايا الشائكة التي لم تجد الحلول الناجعة لحدّ الآن وللعديد من المعضلات التي لا تغيب عن ذهن أحد، في مُستهلّها قضيّة الصّحراء المغربية في المقام الأوّل، وقضية مدينتي سبتة ومليلية السليبتين، والجزر والجيوب المحاذية لليابسة المغربية (الجعفرية وحجرة النكور وبادس، وليلي) ومحنة استعمال إسبانيا للغازات السامّة القاتلة والقنابل العنقودية في حرب الريف التحررية الماجدة، والتي ما فتئ أهلها يعانون من آثارها الوخيمة ومخلفاتها الضارّة، والاعتذار العلني الذي ما زال الرّيفيّون ينتظرونه من الجارة الإسبانية عن هذا الفعل الإجرامي الآثم الذي تستنكره وتدينه كل القوانين والأعراف الدولية الشرعية والوضعية والسّماوية، ومسألة تسوية أوضاع الجالية المغربية المتواجدة في الأراضي الإسبانية منذ عقود، وقضية طرد وإقصاء وتهجير قهراً وقسراً وعنوةً الموريسكيين وإبعادهم عن ديارهم بإسبانيا، وعدم الاعتذار لهم حتى اليوم ممّا أصابهم من ضرٍّ وشرٍّ، ومآسٍ وتعذيب بمّا اقترفت أيدي ملوكهم في حقهم، وردّ الاعتبار لهم على غرار ما حدث مع الموريسكيين السّفارديم اليهود الذين اعتذرت لهم إسبانيا وعملت بلا هوادة على جبر “الضرر” ممّا لحق بهم بمنحهم الجنسية الإسبانية ببادرة من العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل المتنازل عن العرش لنجله العاهل الإسباني الحالي فيليبّي دي بوربون السادس.

يا أهل أندلسٍ لله درّكمُ

أصحاب الحقول الشاسعة وأرباب الأراضي الواسعة وسكان القرى والضِّيَع والمداشر والأرباض ينظرون إليهنّ كحفيدات لهؤلاء وأولئك الذين عاشوا، وأقاموا وترعرعوا لقرون طويلة في تلك الديار المترامية الأطراف بأرض شبه الجزيرة الإيبيرية، التي جعلوا منها جنة غنّاء فوق الثرىَ وعلى ظهر الأرض.. (يا أهل أندلسٍ لله درّكمُ /ماء وظلّ وأنهار وأشجارُ … ما جنّة الخلد إلاّ فى دياركم / فلو تخيّرت هذا كنت أختاُر.. لا تختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقراً /فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ )! أجل، ما فتئ الشعراء يتغنّون بمفاتنها، وما زال المؤرخون يكتبون عن أمجادها، وما انفكّ العلماء يفخرون بعطاءاتها، ويتباهون باسهاماتها في مختلف فنون القول، والشعر، والأدب، واللغة، والمعمار، والفلاحة، والملاحة، والبستنة، والسقي، والريّ والفلك والرياضيات وفي العديد من العلوم والمعارف والعرفان على اختلافها.
واليوم ها قد انقلبت الآية، فإذا بنا نرى بعض أحفاد وحفيدات هؤلاء الأماجد حزيناتٍ، باكياتٍ، منكسراتٍ، متحسّرات، متنهداتٍ، يتدثّرن بأسمالٍ بالية، وتعلو رؤوسَ معظمهنّ قبعات ذات تأثيرات موريسكية أندلسية تقيهنّ لفحة الشمس الحارقة وهنّ مُنحنياتٍ، مُنهمكاتٍ في قطف أو جني الفواكه الصغيرة الشهيّة الحلوة الرّطبة بعناية فائقة، وعندما يَعُدن إلى أكواخهن المهترئة المتهالكة، ومقرّات سكناهنّ المتواضعة بعد انصرام النهار واقتراب هبوط الليل بحلكته وعتمته، يكون التعب قد أثقل كواهلهنّ، والعياء قد هدّهنّ وأخذ منهنّ كلّ مأخذً.

معاناة يومية قاسية

يذهبن زرافاتٍ ووحدانا ثمّ يُزجّ بهنّ في بطون المراكب، ثم في الحافلات التي تأخذهنّ إلى أماكن عملهنّ في ظروف صعبة عسيرة، وفي ملابسات وحيثيات عويصة غير يسيرة، وقد تركن في بلدهنّ الأمّ فلذات أكبادهنّ، وأهلهنّ، وأبنائهنّ، وبناتهنّ، وأقاربهن، وجيرانهنّ والوطن الغالي العزيز.
وكانت وسائل الإعلام الإسبانية والمغربية قد تعرّضت لبعض المشاكل التي يواجهنها خلال عملهنّ وهكذا كانت جريدة « الباييس» الإسبانية قد نشرت تقريراً مؤثّراً عن الظروف الصعبة التي تعيشها العاملات الموسميات المغربيات في إسبانيا، وقد تناول التقريرالمعاناة اليومية القاسية المتوالية لهنّ بمزارع حقول الفراولة فضلاً عن المعاملات المُجحفة، والاعتداءات الجنسية التي تعرّض لها بعضهنّ .
وكانت هذه الصحيفة التي تعتبر من أوسع الجرائد انتشاراً في إسبانيا قد وصفت عمل العاملات الموسميات المغربيات بمزارع الفراولة بالجحيم الحقيقي، ممّا أفضى بمعاناتهن إلى الخروج إلى النور، وفتح المجال لهنّ لتقديم شكاوى إلى “نقابة العمّال الأندلسية” التي لم تتأخّر في دقّ ناقوس الخطر، وعملت على توثيق شكاويهنّ عن الحالة المزرية التي يعشنها والتظلّم الذي لحق بهنّ، كما لم تتوان صحيفة “الباييس” وسواها من وسائل الإعلام الإسبانية في نشر شهادات مؤلمة لبعض العاملات المغربيات الحوامل، حيث روت إحداهنّ تعرّضها لاعتداء جنسي من طرف صاحب العمل من دون أن تتمكن من التصريح بذلك للشرطة الإسبانية لخوفها من العواقب، حيث أشارت إلى تهجّم أحد المسؤولين بالحقل عليها بمقرّ سكناها بدون استئذان.

تمرّ بهنّ الأيّام كلمىَ ثقيلةً وئيدة

وهكذا مرتّ بهنّ الأيّام منسابةً كلمىَ ثقيلة وئيدة روتينيّة رتيبة متوالية. وكان الأمس عندهنّ يشبه اليوم، واليوم يضاهي الغد. وهكذا عشن على أمل العودة إلى حُضن الوطن الحنون ولكن الأوبة تطول وتطول، فقد صادفهنّ انتشار الجائحة اللعينة لفيروس كورونا في مهاجرهنّ، وامتلأت قلوبهنّ بالرّعب والهلع وأضحى حلم العودة إلى ديارهنّ نائياً بعيداً، فأصبحن كباقي إخوانهنّ وأخواتهن من المغاربة والمغربيات الذين علقوا على مضض في مختلف بلدان الله الواسعة. ويزداد الليل حلكة، والظلام سواداً في أعينهنّ، ويغدو النهارُ لظىً حاميَ الوطيس، وتصبح الأيام عندهنّ شهوراً، والشهور ردحاً من الزّمن الطويل العنيد الذي لا يني ولا ينتهي.
وبعد أن تسرّبت – كما رأينا في ما نشرته “الباييس” الإسبانية آنفاً – عنهنّ أخبار لا تسرّ الخاطر، من تطاولاتٍ وتهجّماتٍ وهتكٍ للأعراض طالت بعضهنّ قهراً وقسراً دعت العديد من الجمعيات الحكومية وغير الحكومية في المغرب وإسبانيا وفى جهات أخرى من العالم إلى إدانة هذه الأعمال الشانئة التي لم تكن فى حسبانهنّ، حتى بلغ الأمر بالأمم المتحدة إلى التدخل بعد أن ذاعت وانتشرت الأخبار عن الظروف السيّئة، التي تعيشها العاملات الموسميّات في حقول الفراولة بشكلٍ خاص في (إقليم وِيلْبَا) جنوب إسبانيا، فوجّه المنتظم الدولي (الأمم المتحدة) انتقاداتٍ لاذعة لإسبانيا في هذا الخصوص، حيث كان أوليفيه دي شوتر، الذي يعمل مقرّراً للأمم المتحدة الخاص المعنيّ بالفقر المُدقع وحقوق الإنسان، أشار فيها: “يتعيّن على الحكومات المحلية الإسبانية أن تحسن على الفور الظروف المُؤسفة التي يعاني منها العاملات المهاجرات الموسميّات في الأحياء الفقيرة والأرباض الهامشية حول حقول الفراولة في إسبانيا قبل أن يموت الناس هناك”. وأكد المسؤول الأممي إبّانئذٍ على “الإدارات المحلية وأرباب العمل والشركات التجارية أن تبحث بشكلٍ عاجل عن إيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لإنهاء الأوضاع المتدهورة التي يعيش في كنفها العاملات الزراعيات الموسميّات”. وجاءت هذه الانتقادات الأممية العلنية لإسبانيا بعد سلسلة من الحرائق التي كانت قد اندلعت وشبّت في بيوت العمال الموسميّين العاملين في ضيعات حقول الفراولة بإقليم وِيلْبَا الإسباني على وجه الخصوص .
وكان أحد المسؤولين المغاربة قد أشار في هذا الصدد عن الأفواج السابقة التي شارت في هذا العمل الموسمي إلى أنّ هذه العمليات “تهمّ استقبال مجموعة من المواطنات المغربيات اللواتي كنّ في إطار العمل الموسمي بإسبانيا، واللاّئي بقين عالقات لمدة تجاوزت مدة إقامتهن نظراً للظروف الاستثنائية الصعبة المرتبطة بجائحة كورونا”.وأضاف المصدر نفسه أنذاك: “تمّ توفير جميع الوسائل اللوجستيكية والاختبارات المصلية لفائدة جميع العاملات المغربيات الموسميات، بهدف الحفاظ على صحتهنّ وسلامتهنّ وتوفير النجاح لهذه العمليات، في إطار مراعاة التدابير الصحية الجاري بها العمل، مع الأخذ بعين الاعتبار الشروط الاحترازية التي ينبغي مراعاتها عند ذهابهنّ وعودتهنّ إلى أرض الوطن ”.
هذا – كما يبدو للعيان – شيء محمود ومشهود، ومشكور ومبرور ولا شكّ في توفير جميع التدابير والإجراءات الضرورية لسلامة المواطنات لتفادي الظروف الصعبة التي عشنها في التجارب السابقة خلال تواجدهنّ في الديار الإسبانية من كل نوع، حتى تطلّب الأمر، كما رأينا آنفاً، تدخّل الأمم المتحدة لمطالبة إسبانيا بتوفير الظروف الحسنة لتلك الفئات الهشّة من المجتمع اللاّئي يعانين الفقر، والعوز والخصاص سواء في البلاد التي قدموا منها أو في تلك التي انتقلن للعمل الفلاحي الموسمي بها.

متابعات وسائل التواصل الاجتماعي

وبناءً على ما سبق نرجو أن تكون ظروف سفرهنّ وعملهنّ وإقامتهنّ ميسّرة هذه المرّة في الديار الإسبانية خاصّة بعد أن قرأنا العديد من المتابعات والتعاليق المتوالية التي نشرت في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في هذا السياق، وحتّى وإن كان العمل شرفاً لصاحبه كيفما كان نوعه وطبيعته فقد استنكر أصحاب تلك الوسائل الاجتماعية عملية مشاركة العاملات الموسميات المغربيات في الأصل في هذا النوع من العمل المُزري الذي يلطّخ سمعة البلاد، ويشوّه صورتها ويوحي وكأنّ الأمر يتعلّق ببلدٍ غارقٍ في براثن الفاقة والفقر والاحتياج والعوز، وطالب المعلقون بوقف هذه العمليات ووضع حدٍّ لها والتي وصفها البعض بـ “المهزلة” فلعلّ أصحاب الضمائر الحيّة من أثرياء وأغنياء هذا البلد الميسورين، فضلاً عن هؤلاء الذين اختارهم الشعب المغربي طواعيةً ليتقلّدوا زمام الأمور في هذا البلد الأمين يفتحون أبوابَ معاملهم، ومصانعهم ويشرعون مداخلَ حقولهم ومزارعهم وضِيَعَهم لأمثال هؤلاء الغارقين والغارقات في بؤر الخصاصة صوناً ومراعاةً لسمعة البلاد وحفاظاً على ماء وجهها، وهي بلاد ذاتُ تاريخٍ مجيد وماضٍ تليد.

كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.


الكاتب : د. محمّد محمّد خطّابي 

  

بتاريخ : 23/11/2021