عودة إلى الشّاعر فيديريكُوغارسّيا لُورْكَا في ذكراه

احتفلت الأوساط الثقافية في المدّة الاخيرة بذكرى الاغتيال المُجحف الذي أزهق روح الشاعر الأندلسي الذائع الصيت فيديريكوغارسيا لوركا في مختلف المناطق والمدن الإسبانية، وبشكل خاص في مدينة غرناطة، مسقط رأس الشاعر، وسائر مناطق وأصقاع الأندلس، بل وكان قد نُشر بهذه المناسبة كتاب جديد عن هذا الحدث الماساوي يحمل عنوان: «لغز الموت.. وقائع المراسلات بين أغوستين وإيميليا يانو»، بقلم الباحثة الإسبانية مارتا أوسوريو. كان قد صدر هذا الكتاب عن دار النشر (كوماريس) التي سبق لها أن أصدرت من قبل كتاب «الخوف والنسيان والخيال» (وقائع مباحث الكاتب أغوستين بينون حول لوركا). ويضمّ العديد من المراسلات التي تمّت بين هذا الباحث الكبير في حياة وموت الشاعر لوركا الذي كان من أكبر المعجبين به وبأعماله، وبين صديقته إميليا. ويعتبر الكتاب تكملة أو امتداداً للكتاب السابق الذي يعالج الموضوع ذاته.
وفي الوقت الذي يلقي فيه هذا المؤلَّف (بفتح اللام) المزيدَ من الأضواء الكاشفة حول هذا الاغتيال، فإنه يثير شكوكاً حوله كذلك. تتمثّل أولى الشكوك الرّئيسية التي تحوم حول هذا الموضوع فى التساؤل التالي: هل تمّ نقل رفات لوركا من المكان الذي تم دفنه فيه حيث تمّت عملية الاغتيال، كما أشار إلى ذلك شاهدو عيان الذين سبق لهم أن حدّدوا مكانَ إطلاق الرّصاص على لوركا..؟. مع ذلك ما فتئت قضية اغتيال هذا الشاعر في شهر غشت من عام 1936 مع بداية اندلاع شرارة الحرب الأهلية الإسبانية، تثير العديد من التساؤلات المحيّرة في الأوساط الأدبية والثقافية والتاريخية والسياسية فى إسبانيا وخارجها حول هذا الحدث المؤلم، الذي ما انفكّ يسيل بسببه ومن أجله حبر غزيز منذ حدوثه إلى اليوم، ذلك أنّ اغتيال الشاعر لوركا تمّ بدون محاكمة وفي ظروف غامضة على العهد الفرنكاوي الدكتاتوري المطلق الذي حكم إسبانيا بيدٍ من حديد زهاء أربعين عاماً.
الشّعر لا يموت !
وعلى الرّغم من هذا الاغتيال المجحف، فإنّ النقاد والدارسين والباحثين والمؤرّخين ومعهم القرّاء… إسباناً كانوا أم غيرَ إسبان، ما فتئوا يؤكّدون أنّ الشاعر لوركا لم يمت، وهو ما زال حيّاً، نابضاً، مشعّاً، ومتألقا فى شعره بيننا، بل إنه، في منظورهم، سيعيش أبداً في قلوب الناس والقرّاء من عشّاق شعره.
من بين هؤلاء الكتّاب والكاتبات والباحثين والباحثات، صاحبة الكتاب الأوّل الآنف الذكر الذي أثبتت فيه شهادة أغوستين بينون نفسه في هذا السياق منذعام 1955، حيث تؤكد الكاتبة مارتا أوسوريو أنّ هذا الباحث قد سبق عصره، وأخبرنا بما نراه ونسمعه حول هذا الموضوع اليوم، وهو أنه بعد مرور ما ينيف على 80عاماً، مازلنا نردّد نفس التساؤلات حول هذا الحادث المؤسف.
تتساءل الكاتبة متأسّفة ومتحسّرة في هذا الصدد: «لماذا لم يقم المهتمون ولا الباحثون بشيء ذي بال في هذا السبيل؟ وبالتالي فلا أحد يعرف شيئاً عن هذا الموضوع حتى اليوم». وتطالب الكاتبة الباحثين والمؤرخين القيام بعمل جادّ، وإجراء بحوث علمية دقيقة بناءً على المعلومات التي جمعها بينون فى كتابه القديم، وأنه ليس الشاعر لوركا وحده جديرا بهذا الاهتمام، بل جميع هؤلاء الأبرياء الذين لحق بهم حيف كبير وعانوا من ظلم عاتٍ، هم كذلك جديرون بأن يكون لهم مكان في ذاكرتنا، وحيّز في تاريخنا، ولم يكن هؤلاء من المواطنين الإسبان وحسب، بل كان بينهم غير الاسبان كذلك.
تسرد الكاتبة في هذا القبيل- على سبيل المثال وليس الحصر- قصة فتاة ألمانية يهودية كانت قد فرّت من بطش النازيين فى بلدها ألمانيا، ولكنها لقيت حتفها إلى جانب لوركا، حيث اغتيلت معه في نفس المكان لأنها كانت صديقة لمهندس اشتراكي إسباني مناهض للفرنكاويّة.
الخوف والنّسيان
تؤكّد الكاتبة أنها رأت بأمّ عينيها في قلب مدينة غرناطة، العديد من الأسر التي فقدت أفراداً من عائلتها، ومن عائلات إسبانية أخرى من الأساتذة والكتّاب والشعراء والمثقفين الذين تعرّضوا هم كذلك إلى أشكال مختلفة قاسية من التعذيب والتنكيل والمتابعة والتضييق والعنت، بل وللاغتيال القهري والقسري الجائرين أيضاً، الشيء الذي ترك في أعماقها وطبَعَ في ذاكرتها صوراً فظيعة من الخوف والنسيان والهلع والخيال المهول، تماماً كما انعكس ذلك في كتابها الأوّل حول هذا الباحث الشجاع بينون.
تحدر الإشارة في ذات السياق، الى انّ هناك كتابا آخر حول هذا الموضوع ، وهو للصحافية الإسبانية «إيسابيل ريفيرتي» تحت عنوان «حقيبة بينون»، حيث أماطت فيه هي الأخرى اللثام عن غير قليل من الحقائق المرّة والوقائع المذهلة التي لها صلة بحادث اغتيال الشاعر لوركا. وتعتبر ريفيرتي كتاب بينون والدراسة المستفيضة التي أنجزتها عنه الكاتبة مارتا أوسوريو، عملين جليلين جديرين بكلّ إعجاب وتقدير، كما تعتبرهما وسيلتين أساسيتين وطريقين جادّين للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الجميع في هذا القبيل .
تحكي لنا أنّ أغوستين بينون صاحب الكتاب (وهو مواطن ينحدر من مدينة برشلونة يحمل الجنسية الأمريكية) وصل إلى مدينة غرناطة عام 1955 مع صديق له آخر أمريكي وهو «وليام تايلور» الذي كان يحمل نسخة من الطبعة الأولى من كتاب لوركا الشّهير «أغاني الغجر»، الذي كان قد ترجم إلى اللغة الإنجليزية إبّانئذ، فوجدا غرناطة وكأنها مدينة محظورة،غارقة في الخوف والهلع، كان محظوراً فيها حتى ذكر إسم لوركا على الألسن. وتقول مارتا أوسوريو في هذا الصدد: «كانت غرناطة في ذلك الإبّان مدينة حزينة لا تبعث على الحبور والبهجة»، فترك بينون المدينة على حين غرّة وطار إلى نيويورك وبيده حقيبة ملأى بالعديد من الوثائق والمراجع والمظان والمستندات حول قضية اغتيال لوركا. هذه الحقيبة هي التي ستقع في ما بعد في يد مارتا أوسوريو وتحوّلها الى الكتاب الذي نحن بصدده .
صدحت الأصوات بالقرب من مسقط رأس الشاعر بغرناطة في نفس المكان الذي تمّت فيه عملية الاغتيال، مجلجلة يعلوها صوت المغنية الإسبانية الاندلسية الغرناطية سُوليّا مورينتي (إبنة المغنّي الأندلسي الشهير الراحل إنريكي مورينتي) وهي تشدو بما معناه: «لابدّ لنا أن نذهب إلى حيث يعشعش الصّمت الرّهيب لاسترجاع أصوات هؤلاء الذين لحق بهم الظلم الآثم، واغتيلوا ظلماً وعدواناً من طرف الفرنكاويين». وانطلاقا من هذا المعنى، وتأسيساً على هذا المفهوم، يُدرَك فحوى إقامة تكريم للشاعر فدريكو غارسيا لوركا، وإلقاء الأضواء على مأساته، وعلى بُعدها الإنساني العميق الغور والمدى، كما تقام في هه المناسبة احتفالات مشابهة فى الأماكن الأخرى التي قضى فيها لوركا آخرَ أيّامه، بما فيها قريته “فوينتي باكيرو” المحاذية لمدينة غرناطة الحمراء وهي مسقط رأس الشاعر.
مواجهة الموت الزؤام
كان صديق الشاعر المأسوف الطّالع لوركا، ورفيقه مع مجموعة الجيل الأدبي الإسباني ذائع الصّيت المعروف بجيل 27، الشّاعر الأندلسي القادسي الكبير»رفائيل ألبرتي» ( نسبة الى مدينة قادس الاسبانية) قد أماط النقاب قبيل رحيله عام 1999 من جهة أخرى عن تفاصيل مصرع لوركا، وكيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة وثبات.
يحكي لنا الشاعر رفائيل ألبرتي في هذا الخصوص إنّ طبيبا إسبانيا يُدعى «فرانسيسكو فيغا دياث» كان شاهد عيان في حادث اغتيال الشاعر لوركا المؤسف، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق السيارة الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني الإسباني الذين ينعتون فى اللغة الإسبانية بـ»غوارديا ثبيل»، فقال إنّ الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزاً محيّراً، وقد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب «فرانسيسكو فيغا دياثف، فإنّ سائق السيارة كان قد زاره في عيادته في 13 غشت 1936، أي قبيل مقتله بأربعة أيام. الأحداث وقعت في الليل، وقد تعرّف السائق على واحد من الذين ألقي عليهم القبض، وهو الشاعر الغرناطي، بواسطة الكشّافات الضوئية التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الاغتيال.
وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة، إذ- حسب الشّاعر رفائيل ألبرتي- كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمنٍ من الخطر الذي كان يداهمه ويحدّق به من كلّ جانب. وأضاف أنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء، فركب القطارَ إليها على عجل، إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلٌّ منّا يحمل موته معه. ولقد سمع سائق السيارة الشّاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلتُ حتى تعاملوني هكذا..؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه- كان مسنّاً أعرج- داخل حفرة منخفضة أعدّت من قبل خصّيصاً لهذه الغاية، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف، ممّا زاد من حنق الحرّاس حيث ضربه أحدُهم بمؤخّرة سلاحه شجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر ويرمونه وينعتونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور. وأكّد السّائق أنّ اثنين من مصارعي الثيران وعشرة من الأشخاص الآخرين كانوا قد قتلوا كذلك في تلك الليلة المشؤومة نفسها.
بالقرب من ضفاف «الوادي الكبير»
بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936. وقد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه مثل «كتاب الأشعار»، و»قصائد غنائية»، و»القصائد الأولى»، و»أغاني الغجر الشعبية»، و»شاعر في نيويورك»، و»بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس»، ثم كم من الدواوين كان من الممكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو استمرت حياته على وتيرتها الطبيعية؟
قال لوركا عندما كان على بضع خطواتٍ من نهر «الوادي الكبير» الذي ما زال يحمل اسمه العربيّ والإسلاميّ القديم إلى اليوم :
أصواتُ المَوْتِ دَقّتْ، بالقُرْب مِنَ الوَادِي الكبَير
أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرجوليّ
ثلاثُ دقّات دَمَوِيّة أصَابتْه، وَمَاتَ على جنب. (**)
على الرّغم من شَغَفِه الكبير بالمسرح، فإنه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعار رقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار. كان لوركا مجدّداً وفريداً، وطائراً غرّيداً في الشعر. كان من الطليعيين إلى جانب بلديّه ومعاصره المالقي (نسبة الى مدينة مالقة) بابلو بيكاسو في عالم الصور والتشكيل والرّسم، حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين .هذا المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته، كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال، والتحلّي بالأمل، وتجسيم الألم والمعاناة انه يقول :
ما هو مآل الشّعراء، والأشياء الناعسة؟
التي لا يذكرها أحد، آه يا شمس الآصال؟
أيّها الماء الزّلال، والقمر الجديد
يا قلوب الأطفال، وأرواح الأحجار السذابيّة
إنني أشعر اليومَ في قلبي ارتجاج النجوم
وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي
على أوراق أحزانه الذابلة فوق لجج هموم بحره الصاخب منذ الصّغر، وإلى تلك المرثيّة التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران، كان لوركا دائمَ الحديث عن الموت في شعره :

فليمتْ قلبي وهو يغنّي في هدوء،
عن السّماء الجريحة الزّرقاء.
ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار :
امتلأ قلبي الحريري بالأضواء، والنواقيس الضائعة
والزّنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً
ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار
قريباً من النجوم.
ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى:
خليلي أريد أن أموت، بريئاً على سريري
الفولاذيّ إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية.
ولم تتحقق له هذه الأمنية، فقد مات لوركا مقتولاً، مُجندلاً، طريحاً. مات مغتالاً برصاص الغدر والخيانة والكراهية من أعداء الشّعر وأعداء الحياة وأعداء الحريّة والسّلام.
تقول الكاتبة المكسيكية «إيرما فوينطيس» معلقة على مأساة هذا الشاعر المنكود الطالع : «إنّ الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعون شعوبهم بطابعهم ويجعلون شعبهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجال يجتمعون ويتوحّدون رغم تباين أجناسهم واختلاف ثقافتهم، ورغم المنابزات السياسية والمواجهات الإيديولوجية والمذهبية والمشاحنات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، قد تصل في بعض الأحيان حدّ الحروب والعنف واستعمال القوّة. فكلّ شاعر من هؤلاء بغضّ النظر عن الزمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة « مِعزف كوني» متعدّد الأوتار والنغمات، وإن اختلفت تنويعاته وتقاسيمه فهو يعزف لحناً واحداً يعظمه كل موجود حيّ في أيّ صُقع من أصقاع العالم. وعليه، فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمّة مثل حالة لوركا هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانية جمعاء، وليس رقعته الجغرافية أو بلده وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار. وأمّا إذا إغتيل شاعر من هذا الطراز، فانّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أكثرَ فظاعة وأقسىَ فداحة».

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- (كولومبيا).
**الأبيات الواردة في المقال أعلاه العائدة للوركا من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية


الكاتب : د. محمّد محمّد خطّابي

  

بتاريخ : 11/10/2022