فؤاد بلمير، الباحث في علم الاجتماع :العنف اللفظي واللغة الساقطة ظاهرة تشمل جلّ الفئات الاجتماعية والعمرية في مناطق متعددة

كلام سوقي، لغة ساقطة، مصطلحات خادشة للحياء العام، أضحت تؤثث المشهد العام، يتداولها أطفال صغار فيما بينهم، يافعون، شباب، وأحيانا حتى كبار السن، في المقاهي والفضاءات العمومية، في الشارع، بجنبات المؤسسات التعليمية، بل وحتى داخل أسوار بعض المؤسسات التعليمية، وأحيانا وبكل أسف، داخل بعض الأقسام أيضا، وتنتشر العدوى لتطال حتى الأسر نفسها داخل سقف البيت الواحد.
لغة عنيفة، بألفاظ قاسية، طبّع معها البعض، غير عابئ بالقيم والأخلاق وحسن التربية، واختارها البعض ضدا عن رغبته الذاتية، حتى يُظهر للغير قوة وبأسا، وبأنه ليس سهل المنال، في حين يعتبرها البعض رمزا للتحرر والانطلاق وعنوانا على جيل جديد غير مقيّد بأية قيود.
دوافع وعناوين وتبعات اللجوء إلى هذا النوع من اللغة في «التواصل» الذي مهّدت له مجموعة من العوامل، بل وأسّست له في مجالات مختلفة عدة منطلقات، طرحت أسئلتها «الاتحاد الاشتراكي» على فؤاد بلمير، الباحث في علم الاجتماع، الذي قدّم قراءة للظاهرة التي عمل على مقاربتها من جوانب متعددة

 

o كيف يمكن تفسير ظاهرة العنف اللفظي والكلام الساقط في التواصل؟

n إن الحديث عن ظاهرة العنف اللفظي واللجوء إلى الكلام الساقط ومحاولة فهم أسبابها وعرض تداعياتها، يستدعي مناقشة مجموعة من العناصر والمعطيات، لأن الركون إلى زاوية واحدة ووحيدة لتفسير هذه الظاهرة يفضي إلى نتائج ناقصة ومبتورة.
يجب التأكيد في البداية على أن الظاهرة لم تعد حكرا على فئة اجتماعية بعينها، ولا تقتصر على فضاءات وأماكن معيّنة، بل أنها أضحت تشمل جلّ الفئات الاجتماعية والعمرية وفي مناطق متعددة، وبات ملموسا في المجتمع المغربي أن العنف بأنواعه اتخذ خطا تصاعديا في الانتشار، لاسيما العنف اللفظي والكلام الساقط والبذيء، الذي بات يشنف مسامعنا يوميا وفي فضاءات مختلفة، وغدت هذه الظاهرة الاجتماعية مؤرقة وتخلق مشكلا في المجتمع المغربي.

o ينسب الكثير من الناس هذا السلوك إلى فئة الشباب، إلى أي حدّ يعتبر الأمر صحيحا؟
n بالفعل، فعندما نتحدث عن العنف اللفظي فإن أول فكرة تتبادر إلى ذهننا، هي محاولة توجيه أصابع الاتهام إلى جيش الشباب الذي يستعمل الكلام البذيء والساقط والخادش للحياء للتعبير عن ذاته وتحرره من كل القيم الاجتماعية، لدرجة أن ذلك يتجاوز الأخلاق المجتمعية، لكن تحميل المسؤولية للأجيال الناشئة والشباب فقط يخفي مسألة مهمة جدا هي الاستقالة الواضحة للأسرة والمجتمع من مسؤوليتهم في ذلك.

o ما هي الأسباب والدوافع المؤدية إلى اعتماد قاموس لغوي ساقط في التواصل؟
إذا أردنا أن نعدد بعض أسباب العنف اللفظي والتعبير البذيء، فإنها ترجع على العموم إلى ضغوط الحياة اليومية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تضغط بقوة على الحالة النفسية وتحول الفرد إلى كتلة من الغضب والشعور بالاحتقان وعدم الرضا عن محيطه، مما يدفعه إلى تبني السلوك العنيف واستعمال قاموس لغوي ساقط، الذي يتحول بفعل الممارسة اليومية إلى «ثقافة» تنتشر في مختلف الأوساط الاجتماعية إلى درجة أنها تساعد على التطبيع مع هذا العنف اللفظي وتنزع عنه مفهوم «العيب» الذي كان متداولا في المجتمع المغربي، ليصبح ممارسة مشتركة اقتحمت مع الأسف الشديد فضاءات كانت بالأمس القريب محصّنة ضده وتمنعه بكل الوسائل، إلا أننا حاليا غدونا نسمعه داخل بعض الأسر وفي عدد من المؤسسات التعليمية، ولدى بعض المسؤولين عن التربية والتأطير الرياضي، وحتى بعض الساسة ومن يوصفون بالنخب.
وارتباطا بما سبق، ومن أجل التذكير فقط، على سبيل المثال لا الحصر، كانت هناك كلمات يستحيل أن تُنطق داخل الأسر، كما هو الحال بالنسبة للفظة «قالب» و«قوالب»، التي كان لا يمكن نهائيا تداولها داخل الأسر، إلا أنه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي اقتحمت هاته الكلمة الأسر وطبّع معها الجميع، وهذا مثال واحد فقط من أمثلة كثيرة ومتعددة. لقد وقعت العديد من التحولات على مر السنوات، فقبل تسعينيات القرن الماضي، كنا مثلا حين التغزل بجمال المرأة، يتم اعتماد قاموس يتوفر على كلمات رقيقة مثل «الوردة» أو «الغزالة»، خلافا للقاموس الحالي والكلمات المستعملة اليوم بمنتهى الأريحية، من قبيل «قنبولة» أو «قرطاسة» أو «طيّارة»، وغيرها من الألفاظ والمصطلحات الرديئة، وهو ما يعكس تدنّيا وقع فيما يخص اللغة المتداولة في الفضاءات العمومية.
كما لا يجب أن ننسى أن بعض وسائل الإعلام، والمسلسلات المدبلجة التي غزت المجتمع، وعدد من مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي واللغة المتداولة فيها، ساهمت بشكل كبير وروّجت لهذه الألفاظ البذيئة والساقطة، وعملت على صياغة هذا القاموس الذي يتضمن عنفا لفظيا بذيئا ساقطا.

o هل نحن أمام «لغة» واحدة أفقيا وعموديا؟
لقد كانت اللغة، قبل استفحال هذه الظاهرة، تُحدد حسب المكان والسياق، فقد كانت هناك لغة المنزل، ولغة المدرسة، ولغة المسجد، وهناك لغة الشارع، واللغة السياسية الخ، وكانت تحدد كذلك حسب الجنس والفئات العمرية.
لقد كان هناك نوع من الاحترام للفضاءات، لكن الأمور اليوم اختلطت وغدا القاسم المشترك هو قاموس العنف اللفظي وخطابات التشهير التي عجّت بها الفضاءات وعدد من المواقع الاجتماعية، والتي تروّج لها بكل أسف مجموعة محسوبة على الإعلام، وهذا لا يلغي وجود إعلام جاد وهادف وبناء، ولا ينفي حضور صفحات رقمية ومواقع إلكترونية تسعى للرفع من الوعي المعرفي لمرتاديها، لكن كل هذا لن يمحو للأسف ما سبق أن سقته من أمثلة شائنة، التي تنضاف إليها اللغة الشعبوية التي اقتحمت مع الأسف مستويات سياسية مهمة، وهذا كله يؤثر ويؤدي إلى اختلال قيمي.

o هل من سبيل لتجاوز هذه الوضعية الشائنة والقطع معها؟
لمحاولة القضاء على هذه الظاهرة أو الحدّ منها أو على الأقل التقليص من مساحتها، فإن دور الأسرة والمدرسة والمسجد والإعلام يعتبرا محوريا وأساسيا، فهذه المؤسسات المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية بإمكانها صياغة استراتيجية واضحة المعالم لبناء مواطن مغربي ومواطنة مغربية متشبّعان بالثقافة وبالحضارة المغربية، قادران على التعرف على غنى تاريخ هذه الدولة والأمة، آنذاك بإمكاننا أن نقلّص إلى الحدّ الأقصى من هذا العنف اللفظي، وأن نبني قاموسا لغويا يحافظ على الأخلاق والقيم لأمتنا الراسخة في التاريخ.

 


الكاتب : حاوره: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 12/08/2020