إ
ن قطع الرؤوس هو أولى النتائج المباشرة لتصريح الرئيس الفرنسي . وخطورة هذا التصريح تكمن في مسألتين:
1 – المسألة الأولى أنه صادر عن أعلى سلطة دستورية، وهي رئاسة الدولة.
2 – أما المسألة الثانية ، فهي أن خطابات الرئيس عادة ما تهم القضايا الأساسية سواء كانت ظرفية أو استراتيجية؛ لذلك ، فإن هذه الخطابات تحمل بالضرورة طابعا توجيهيا رسميا، قد يفهم منه في موضوعنا تحريضا مباشرا على العنف المادي والرمزي في المجتمع والعلاقات الخارجية، مع ما يترتب عن ذلك من تداعيات.
يعتبر الرئيس أن موقفه من الكاريكاتور المسيء لنبي الإسلام والأمة الإسلامية، يدخل في نطاق حماية وتعزيز المكتسبات الديمقراطية للجمهورية، وفي مقدمتها حرية التفكير والرأي والتعبير؛ ولكن الرأي العام الآخر لا يرى في موقف الرئيس غير مغالطات أو أخطاء في أحسن الأحوال.
فقد يُفهم من تصريحات الرئيس، محاولة لتعبئة انتخابية قادمة ليس إلاَّ؛ ومحاولة لصرف الرأي العام الفرنسي عن المشاكل والتحديات الاجتماعية والأمنية الداخلية كـ السترات الصُّفر والغيتوهات المنتشرة في ضواحي وأحياء المدن ، وواقع الضربات المتتالية في أراضيها .
والتغليط قد يرتبط بآلية التوجيه، أي توجيه الرأي العام إلى أخطار خارجية أسماها الرئيس باسم عجيب هو الانفصالية الإسلامية التي تهدد وحدة المجتمع والوطن.
لا يسعنا إلاَّ أن نشارك السيد الرئيس قناعته حول الحريات العامة والخاصة، ودور فرنسا في الدفاع عنها عبر التاريخ الحديث. فحرية التفكير والرأي والتعبير كانت وستظل دوما أصلا لكل تقدم في العلوم الحقة والإنسانية، وأصلا للتقدم التاريخي والحضاري للإنسان والمجتمعات ؛ لكن هذه الحرية، وحتى لا تنقلب إلى سذاجة وفوضوية وتخريب، لا مناص لها من المسؤولية التي تحدد إطارها وفاعليتها ومدى مشروعيتها ونتائجها الإيجابية.
إن من أبرز خصائص الثقافة الفرنسية الحديثة وأحد ثوابتها الأساسية ، هذا الاقتران بين ثالوث الحرية والمسؤولية والالتزام العملي. فهذه الجدلية إرث ثقافي ثمين رعاه الفلاسفة والأدباء السياسيون وعموم المفكرين والممارسين في فرنسا والغرب عموما. والرئيس “ماكرون” له تكوين فلسفي ( حائز على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة) وله اطلاع على فلسفة هيجل وكانط وغيرهم … وقد كان شغوفا في الثانوي بالأنشطة المسرحية ، وذلك بإشراف أستاذته في اللغات والمسرح وزوجته لاحقا؛ لذلك فما أظنه إلاَّ مطلعا على مسرحية ” الذباب” وغيرها لرائد الحرية والمسؤولية والالتزام في الثقافة الفرنسية ، وهو الفيلسوف سارتر. وإذا كان كذلك ، فما أظنه أيضا إلاَّ متذكرا لـ ” أوريست ” بطل مسرحية الذباب لسارتر، وذلك في قوله : ” لقد قمت بعملي يا “إلكترا”، وسأحمله كما يحمل عابر الماء المسافرين، وأكون مسؤولا عنه ، وستزداد فرحتي ما ازداد عبئي، لأن حريتي هي إياه”.
لكن يبدو أن مسالك وتقلبات الحياة جعلت ” ماكرون ” يتنصل من هذا الإرث الفلسفي الأنواري، وينزلق إلى مدارات التكنوقراط الذين اعتادوا استخدام الإيديولوجيا كفزَّاعة لإخفاء أزمات المجتمعات التي يشرفون على تدبيرها ؛ وفي مقدمتها فزَّاعة الإسلاموفوبيا، وأحد تجلياتها ما أسماه ” ماكرون” بخطر الانفصالية الإسلامية.
فهل فرنسا مهددة فعلا بهذا الخطر الانفصالي؟ أم أن ذلك مجرد تخوفات؟
إذا كانت إسبانيا مهددة بين الفينة والأخرى بحركات انفصالية لإقليم كاتالونيا ـ وهي على كل حال حركة ضد الواقع الديمقراطي الإسباني، وضد مكانة كاتالونيا في إسبانيا، وضد مجرى التاريخ، وبالتالي لا عقلانية، بل ومحكوم عليها بالفشل داخل البيت الأوروبي على الأقل ـ ، إذا كان هذا هو واقع إسبانيا، فإن فرنسا تبدو أبعد ما يكون عن هذا التهديد الانفصالي ؛ ولا توجد جهة ترفع هذا الشعار وتجعل منه برنامجا سياسيا له أسس ثقافية ولغوية أو غيرها، كما هو الشأن في إسبانيا كما سبق القول .
فالسترات الصُّفر ليست حركة احتجاج ديني ولا ترفع مطالب دينية ولا انفصالية، بل هي حركة متعددة الأطياف من علمانيين وإسلاميين ومسيحيين ولا منتمين… توحدهم مطالب اجتماعية وسياسية أساسا.
وبين الحركات الاجتماعية المدنية والعمليات الإرهابية المتلبسة بالدين ، يطرح السؤال:
هل ستعمد فرنسا، وهي البلد الديمقراطي في تدبير شؤونه الداخلية، إلى حزبية جديدة قادرة على استيعاب الحركات الاحتجاجية المدنية ، بحيث تحتكم هاته الحركات إلى الرأي العام، فتطرح برامجها وتخوض غمار الانتخابات لتطبيق هذه البرامج ؟
وهل ستعمد فرنسا إلى تقصي جذور وعوامل ما يسمى بالإرهاب الديني في أراضيها؟ وتقوم بتصحيح وتقوية أوضاعها وعلاقاتها العامة ؟
لقد استطاعت العديد من البلدان الغربية، كألمانيا وسويسرا… واستنادا على قاعدتها الاقتصادية القوية ومؤسساتها الديمقراطية، استطاعت أن تستوعب واقع التعدد الاجتماعي والعرقي واللغوي والثقافي الذي تتكون منه؛ وجعلت هذا التعدد رافدا من روافد الاستقرار والسلم والغنى الثقافي والتقدم.
وفرنسا كدولة في الاتحاد الأوروبي لا تعدم بدورها المؤهلات للتعاطي الإيجابي مع أوضاعها العامة ، وهي التي تأوي كَمًّا هائلا من الهجرة من مختلف بقاع العالم ؛ زهاء عشر ملايين فقط من بلاد الإسلام ناهيك عن مئات المساجد وعدد من الجمعيات؛ وكل هذا مؤشر على انفتاح السياسة الفرنسية؛ وهو انفتاح يمكن أن يكون مجالا لاستغلال مشترك مثمر وإيجابي أكثر.
وأما الكاريكاتور ـ وهو أصل المتاعب ـ ، فقد يثير ضحكا وسخرية، وقد يدغدغ مشاعر رقيقة ظمأى للبسط والفُسَح النفسية السريعة ؛ وقد يخلق صدى ما في النفوس؛ لكنه كرسوم لا يجسد نقدا سياسيا قادرا على الكشف عن آليات وعمق الظواهر، وتقديم البرامج السياسية والثقافية البديلة. فهو بأشكاله العجائبية محدود في الارتقاء بمنسوب الوعي ولا يشكل إطارا تعبويا حقيقيا ومنتجا ؛ كما أن حساسيته وتكلفته غير مريحة.
إن النقد السياسي والثقافي للأديان والأنبياء، لا يتم بالرسوم المضحكة والتهريج والمقالة الإعلامية الاستهلاكية، بل بالدراسات والتأليفات الأكاديمية العلمية التي تستمد أسسها وبعدها النقدي والثقافي من حقائق التاريخ والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا والفلسفة واللسانيات وغيرها من العلوم الدقيقة والإنسانية على حد سواء. بهذا تغتني الثقافة الإنسانية العالمة وتكتسب مصداقيتها الحضارية ، وليس بالرسوم المضحكة والملصقة، في تحدِّ وعنجهية ، على المباني الحكومية والتجارية والترفيهية، والتي ليس لها من هدف إلاَّ التحريض والاحتراب وخدمة أغراض سياسية قصيرة النظر والمدى .
إن تصريحات الرئيس من شأنها تأجيج النزعات العدوانية المحلية والعابرة للقارات مما ينعكس سلبا على المصالح الفرنسية في أوطان تعداد ساكنتها زهاء المليارين من المسلمين .
إن من مسؤوليات الرئيس أن يأخذ العبرة والدروس مما شهدته وتشهده فرنسا من وقائع مؤسفة، سيما وأن أحداث ” شارلي إيبدو “ما زالت طرية وماثلة في الأعيان والأذهان. والسياسة اللبيبة والمتبصرة في غنى عن الأزمات الصبيانية؛ ومن ضروراتها الابتعاد عن سياسة اختلاق وتعميق الأزمات وتوسيعها؛ ومن مسؤولياتها أيضا سنُّ منهجية الهجرة الرشيدة، ووضع البرامج العامة والأكثر عدالة لاحتواء البؤر الحاضنة للتوتر الاجتماعي والثقافي وللتهميش والهشاشة والإقصاء الذي يجعل من الاستعداد للتطرف الديني أمرا ممكنا ؛ خاصة في عالم من أبرز سماته المعاصرة أن صراع القوى والمصالح الكبرى فيه غدا أكثر التباسا من أي وقت مضى؛ وأصبح يغطي مناطق ومساحات أوسع، ويعتمد إمكانات تقنية وبشرية ضاربة في مختلف أنحاء المعمور … ومتلبسة لبوسا دينيا، ودينيا إسلاميا بالأساس، حتى أن الإسلام والإرهاب أصبحا صنوين في الإعلام الدولي اليوم .
إن ما تتعرض إليه فرنسا ليس إساءة لها فحسب بل وللإسلام أيضا ، حيث اقترن في الشبكات الإعلامية العالمية بالذبح وبَقْر البطون وأكل أكباد البشر طازجة وتقتيل الأطفال وبيع النساء في سوق النخاسة و … إلى غير ذلك من مظاهر التوحش المخزية ، والتي يدركها جيدا مهندسو السياسة الاقتصادية والجغرافية ، وخبراء الأنثربولوجيا وتاريخ الأديان ، ودعاة صراع الحضارات في مراكز الغرب للأبحاث والدراسات الاستراتيجية البعيدة المدى.
فهل الإسلام متوحش ومقيت لهذا الحد؟ هل هو دين العنف والانفصال والإرهاب والإقصاء؟
في عجالة يمكن القول بأن من أولى الحقائق الواردة في القرآن ـ وهو كتاب المسلمين ـ اعترافه بمن يسميهم “أهل الكتاب”، أي كل الديانات السماوية وأنبياؤها المرسلون ؛ وَوَسْمِهم بما يليق من أوصاف الاعتراف بل والإجلال. فهم مبعوثون بالحق من ربهم و”إلهكم واحد”؛ بل إن إبراهيم أبو الأنبياء ، هو مسلم بصريحة الآية القرآنية. فالدين الإلهي واحد، وممتد في الزمان والمكان ، أَوَّلُه الإبراهيمية الحنيفية (اليهودية) مرورا بالنصرانية ( المسيحية) وانتهاء بالإسلام.
لم ينازع القرآن في تاريخية ومشروعية الأديان السماوية؛ بل هو، وفي حيز هام منه، ينتقد وَيُسَفِّهُ ويتوعد من يسميهم بالمنافقين، وأعداء الإسلام عموما سواء من الكافرين أو من أهل الكتاب . وسورة البقرة وآل عمران وغيرهما من السور تدل على ذلك . إن منطق القرآن ونبي الإسلام هو كالآتي: كما نؤمن بأديانكم ، أي بكتبكم ورسلكم إبراهيم وموسى وعيسى باعتبارهم الأنبياء الأوائل فيجب أن تؤمنوا بالإسلام ونبيه باعتباره خاتم الأنبياء والمرسلين للعالمين ” أوفوا بعهدكم أوفي بعهدي” (الآية).
هكذا ينتهي القرآن بتوليفة نظرية وثقافية يحصل فيها الاعتراف بالغير، وتتساكن فيها الأديان السماوية وتتكامل ؛ كما لو أن الدين الإلهي هو الروح الهيجلية الواحدة التي تتمظهر عبر مراحل تاريخية.
لقد كانت الحروب من أجل الدفاع عن النفس أو التوسع اللازم عنه، أو من أجل الهيمنة والاستتباع، كان كل هذا تاريخا مشتركا بين الأديان كافة؛ فـ ” يهوه” (لله) هو “رب الجيوش” لتخليص أرض الميعاد، ولله هو الذي يرسل الريح الصرصر العاتية والطير الأبابيل التي تحول البشر والحيوان كعصف مأكول ، وهو الذي يسلط ألوانا من الهلاك، ويدعو للشهادة والاستشهاد ؛ كما أن الحروب الصليبية مقدسة …
وكما كانت الحروب إرثا مشتركا بين الأديان، فإن الدعوة الأخلاقية الحميدة هي أيضا قاسم مشترك بين هذه الأديان ، وذلك باعتبار أن الأخلاق أساس لوجود الفرد والجموع .
نتذكر الوصايا العشر التي تلقاها موسى من ربه في جبل سيناء : لا تقتل ـ لا تسرق ـ لا تكذب ـ لا تزنـ لا تعتدِ على حرمة جارك وعبده وثوره…. كما نتذكر دين المحبة مع المسيح عيسى ، وقول القرآن ” من قتل نفسا(..) فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” ( الآية)، وقول نبي الإسلام : جئت لأتمم مكارم الأخلاق … إلى غير ذلك.
فماذا نختار؟ أو أيهما نختار ونرجح من أجل المستقبل والتعايش المثمر والسلام الدائم بتعبير كانط؟