كدت أموت من الضَّحك عندما قرأت هذه النَّادرة الجميلة.كدت أقوم وأقعد. ولماذا أضحك؟ لا يحقُّ لي أن أضحك على الإطلاق. فأنا شخصيًّا كنت أعتقد ذات الشّيء حتى أمد قريب وليس فقط الشّيخ السّادات. أنا أكبر جاهل في هذه الأمَّة أو بالأحرى أكبر عالم «بالجهل المقدَّس». أنا خرّيج القرون الوسطى مباشرة. عليها تربيت طيلة طفولتي وشبابي الأوَّل. أنا شخص عتيق جدًّا. بل وأنا شخص خرافي بمعنى من المعاني. كنت أربأ بألاَّ يحتوي القرآن الكريم على كلّ شيء. كنت أعتقد، مثل جمهور المسلمين، بأنّ القرآن يحتوي على علوم الفيزياء والكيمياء والطبّ والفلك والنّجوم بل وحتَّى علم الذَّرة! ثمَّ فهمت بعدئذ أنَّ القرآن هو كتاب ديني بالدَّرجة الأولى، أي كتاب في الهداية الرُّوحيّة والأخلاقيّة والميتافيزيقيّة للبشريّة. إنَّه الكتاب العظيم الّذي صنع مجد العرب والإسلام. إنّه الكتاب الَّذي يعلّمنا مكارم الأخلاق. وهو ليس بحاجة إلى الاحتواء على علوم الذّرة والفضاء والطبّ والهندسة والصَّيدلة لكي ينال أهميته وقدسيته وعظمته. إنَّه أعلى من كلّ ذلك. وأتذكر بهذا الصَّدد أنّ أستاذنا أركون كثيرا ما كان يتندر بكتاب لطبيب فرنسي يدعى «موريس بوكاي»[2]. وهو يزعم فيه بأنّ كلّ المخترعات الحديثة وكلّ العلوم والاختصاصات بما فيها الطبّ والعلاجات موجودة في الكتب المقدَّسة من توراة وإنجيل وقرآن. إنَّه كتاب تلفيقي يخلط كلّ شيء بكلّ شيء ويزيد المسلمين عمى على عمى، وجهلا على جهالات. ولذلك فإنَّهم يتعلّقون به كلّ التّعلق ويستشهدون به ويرفعونه إلى أعلى مقام. ولكن أركون يحذّرنا منه كلّ التّحذير لأنَّه يقضي على روح المنهج العلمي التّاريخي في أعماقنا. باختصار كان يعتبره بمثابة شعوذات ظاهرها علمي وباطنها التَّدجيل الفكري. وبالتّالي فلكي يخرج العالم الإسلامي من كلّ هذه الجهالات ينبغي أن يشرع بتطبيق المنهج التّاريخي على نصّ القرآن الكريم والتُّراث العظيم. فقد حظي الكتاب الأعظم بكلّ التَّفاسير ما عدا تفسيرا واحدا: هو التّفسير التَّاريخي الحديث. ولا يمكن تحرير الوعي الإسلامي من ظلمات العصور والتكايا والقبور إلاَّ بعد القيام بذلك.وهذا ما فعله أركون شخصيا عندما ألف كتابه: قراءات في القرآن. وهو الَّذي ترجمته مؤخّرا في نسخته الضَّخمة الموسَّعة. ومن المقرّر أن يصدر عن دار الساقي قريبا هذا العام 2017. والمقصود بذلك أنّه آن للمسلمين أن يفهموا كتابهم المقدَّس على الوجه السَّليم. آن لهم أن يسلّطوا عليه أضواء المناهج الحديثة من لغويَّة ألسنيَّة وسوسيولوجيَّة وأنتربولوجيّة وتاريخيَّة لكي يضاء على حقيقته بشكل غير مسبوق. ثمّ تجيء أخيرا لحظة التَّقييم الفلسفي والمقارنة الكبرى مع الكتب السَّابقة له كالتَّوراة والإنجيل. بدون القيام بذلك لا يمكن إطلاقا أن نفهم نصّ القرآن الكريم. «بحياتنا كلّها لم نقرأ القرآن» أو لم نفهم القرآن كما يقول الباحث التّونسي يوسف الصّديق في كتاب معروف. هذا البرنامج المنهجي والمصطلحي مطبّق حرفيّا من قبل محمد أركون على سورة الفاتحة وسورة أهل الكهف وسور أخرى. وبالطَّبع فدراساته أكثر نضجا وأكاديميّة وعلوا من دراسات يوسف الصّديق. لقد دشَّن أركون بذلك مفهوم التَّنوير الإسلامي من أوسع أبوابه وقدَّم للتراث العربي خدمة جليلة لا تقدَّر بثمن. وهذا هو معنى الانتقال من التّفسير الموروث إلى التّفسير الحديث وتجديد الخطاب الدّيني. هذا هو معنى الانتقال من لحظة الطَّبري أو فخر الدّين الرَّازي إى لحظة محمد أركون. ومعلوم أنّ هذا التّجديد الدّيني أصبح يمثّل ضرورة ملحة في وقتنا الرّاهن. والعالم كلّه يطالبنا به. فبعد كلّ التّفجيرات الدَّاعشية وغير الدَّاعشيّة ما عاد ممكنا السُّكوت. وآخرها تفجيرات الكاتدرائيَّة القبطيَّة في وسط القاهرة وتفجيرات اسطنبول المروعة بعيد رأس السَّنة. ولذا تنبغي قراءة القرآن قراءة تاريخيّة وتحريريَّة بغية تحييد الشّحنات اللاَّهوتيَّة الرَّهيبة الَّتي تخلع المشروعيَّة الإلهيّة على التّفجيرات الدمويَّة. ينبغي على المثقّفين العرب أن يتحمَّلوا مسؤوليتهم عن جد لأوَّل مرَّة! ينبغي عليهم أن يعيدوا تأويل الآيات التكفيريَّة والقتاليّة الشَّديدة الخطورة والفعالية عن طريق وضعها ضمن سياقها التَّاريخي وعدم تعميمها على كلّ العصور. وإلاَّ فلن نخرج من المغطس إلّا بعد مليون سنة! كما وينبغي التّمييز داخل القرآن بين الآيات الكونيّة السلميّة المتسامحة/ والآيات الثانويّة المرتبطة بظروف عصرها والدّاعية إلى كره الآخر وتشريع قتله وذبحه بعد تكفيره. ولكن العكس هو السّائد حاليًّا في العالم الإسلامي. وهنا وجه الخطر والخطورة. من الواضح أنّ المعاهد الدينيّة التَّقليديّة وكلّيات الشَّريعة عاجزة عن انجاز هذه المهمَّة الكبرى الَّتي يتوقَّف عليها مصير العالم العربيّ بل والإسلاميّ برمَّته. تلزمنا معاهد جديدة وكلّيات حديثة تدرّس الدّين بطريقة أخرى مختلفة تماما. أقصد بذلك كلّيات تطبّق أحدث المناهج العلميّة على التّراث. لقد حظي الترّاث المسيحي في أوروبا بتطبيق المنهج التَّاريخيّ وكانت الإضاءات هائلة وتحريريّة. صحيح أنَّ الأصوليين البابويين قاوموه بضراوة طيلة عقود بل وقرون ولكنَّهم استسلموا له في نهاية المطاف. في البداية كانوا يقولون بأنَّ كل ذلك ليس إلاَّ تجديفا وكفرا وتدميرا للتراث المقدّس. وأما الآن فقد أصبحوا يعترفون بمشروعيّة التَّفسير التَّاريخيّ النَّقدي ويعتبرونه نعمة لا نقمة على عكس ما كان يتوهَّم أسلافهم. وهذا أكبر دليل على أنَّ التَّطوُّر يمكن أن يحصل حتَّى في الشُّؤون الدينيَّة! فمن الواضح أنّ هناك فرقا كبيرا بين الفهم الحديث للدّين/والفهم الدَّاعشي القديم. الفجوة كبيرة والمسافة شاسعة بين كلا المفهومين. والرّهان الأكبر لكلّ الصّراع الجاري حاليًّا هو التّالي: متى سينتقل العالم العربي من ظلمات العصور الوسطى/إلى أنوار العصور الحديثة. بمعنى آخر: متى سينتقل من عقليّة محمد عمارة ويوسف القرضاوي/ إلى عقليّة محمد أركون وعبد الوهاب المؤدّب؟
أخيرا بقيت نقطة محدّدة. بعد خمسة أشهر فقط سوف تنتخب فرنسا رئيسا جديدا. ولا يستبعد أن يكون السيّد فرانسوا فيون. بل هذا مرجَّح جدّا اللّهم إلاّ إذا قرّر الشّعب الفرنسي افشاله بسبب برنامجه الاقتصادي الرَّأسمالي المحبذ للأغنياء وغير العابيء بالفقراء.وهذا هو الشَّيء المزعج فيه. وإلاَّ فإنَّ الرَّجل شريف ونزيه على عكس ساركوزي المقطع الموصل. ولكن ربّما غير الرَّجل برنامجه أو طوّره تحت سياط النّقد المنصب عليه من كلّ حدب وصوب. على أي حال هذه مسألة أخرى تخصّ الشَّعب الفرنسي بالدَّرجة الأولى. أمَّا المسألة الأساسيّة أو النّقطة الإيجابيّة الكبرى الّتي تهمُّنا في توجهاته فهي التَّالية: لقد أعلن الحرب الضَّروس على الأصوليّة التوتاليتاريّة الإسلاميَّة المتجسّدة بالإخوان المسلمين والسّلفيين الوهابيين[3] . وهذا يعني أنَّ المعركة الَّتي دشَّنها نابليون قبل أكثر من قرنين سوف تنطلق من جديد. عدنا إلى نقطة الصّفر!
[1]Henry Laurens :Français et Arabes depuis deux siecles.Editions Tallandier.2012
[2] Maurice Bucaille :La Bible,le Coran et la science.Pocket.2003
[3] أنظر كتابه: دحر الأصولية التوتاليتارية الاسلامية.منشورات البان ميشال.باريس.2016
Francois Fillon : Vaincre le totalitarisme islamique.Albin Michel.2016