فلسفة الجمال ونظريات الفن نحو إستتيقا معاصرةالكبرى

 

غايتنا تتبُّع تطوُّر فكرة الجمال فلسفيا وتاريخيا، وطرح استفهامات وتساؤلات، وصَوْغ إشكاليات متعلقة بمقولة الجمال، واستعراض سياقاتها في متون الفلاسفة ونصوصهم، دون إغفال مقالات وأطروحات الآراء العامَّة في الموضوع.
الإشكال الأول: يتبدَّى للحس السليم يتمثل في البحث عن تعريف ماذا يُقْصَدُ بالجميل، وما علاقتنا به، وما حاجتنا إليه، وما الدَّاعي له، وما ضرورته، ومن أين ينبع تعطُّشنا للجمال؟ كل هذه الأسئلة وغيرها من شأنها أن تفتح لنا أفقا واسعا لمعرفة رحابة المفهوم وتعدُّدَ أبعاده، وتعقيد علاقاته بشكل يُبْعِدُنا عن الفهم البسيط والساذج لمقولة الجمال.
الإشكال الثاني هو ما علاقة الجمال بالفن، وهل من الضروري أن يكون فنيا، وإذا قبلنا بذلك فأين نضع الجمال الطبيعي، أليس هو أيضا نوع من الجمال، وما العلاقة المركَّبة بين الجمال والفن؟
الإشكال الثالث يَتَمَثَّلُ في علاقة الجمال بالسياسة وبالاجتماع الإنساني، وبدائرة الفعل والأخلاق، وأيُّ وشائج بين الجمال والفن وفلسفة التاريخ، بل والتاريخ والطوبى؟ ما علاقة الجمال والفن بالفلسفة؟ ماذا عسى أن يضيف للفلسفة وماذا عسى للفلسفة أن تُضيف للفن.
لنبدأ بالسؤال الذي يبدو للوهلة الأولى منبثقا من المعرفة البديهية، والتي لا يمكن الركون إليها لأنها معرفة أولية ناتجة عن الحس الشائع، والتي مع ذلك يمكن أن تُسعفَ في تركيب أسئلة إشكالية. إن الحدس الأولي بالجمال أحسن توزيعا وعدلا بين الناس أما الفوارق في الذوق ورهافة الحس فتنشأ فيما بعد. أكثر من ذلك لكل إنسان الحق في الاستمتاع بالجمال مثل حقِّهِ في الإنصاف والعدالة وباقي ما يترتَّبُ عنها من حقوق. فضلا عن ذلك الجمالُ محرِّرٌ للإنسان ومخلَّصٌ له من التبعية والاسترقاق.
تبقى المعضلة كيف نتعرف عليه ونشعرُ به، وهي من أَعْوَصِ المشكلات التي خاض فيها الفلاسفة قدامى ومُحدَثين. طُرِحَتْ في هذا الصدد معضلة الذوق: وسيلتنا إلى الشعور والإحساس بِجَمَالاَتِ العالم تتم بالذوق ولكن اختلف الفلاسفة فيما إذا كان الذوق خالصا، ومُنزَّها عن أية منفعة كما ذهب كانط إلى ذلك، أم أن الذوق متغير وممتزج بالميل والمنفعة، يتساوى في ذلك الممتع والرائق للحواس كما رأى «هيوم». هل الجمال فكرة أو مثال كما اعتقد أفلاطون «أفلاطون»؟ هل حكم الذوق أو الذائقة الجمالية كونية يتقاسم البشر بمقتضاها تجربتهم (كانط) وإن كانت كونية بلا مفاهيم، أم لا سبيل لاقتسامها والاشتراك فيها سوى ما ينفرد كل واحد بذوقه الذاتي ومن ثم لا محيد من الاعتراف بتعدد الأذواق.
هناك سؤال آخر لا يقلُّ أهمية عن الأول: ما علاقة الفن بالجميل؟ وكيف نميِّز الجميل الفني عن غيره من الجمالات الطبيعية؟ كيف يتأتَّى للفن صُنْعُ الجميل؟ لا وجود للجميل خارج الفن، أما الأشياء الجميلة في الطبيعة لا ترقى إلى مستوى الفن كما يستدلُّ «هيغل» حين يقول:» في حياتنا اليومية اعتدنا الكلام عن لون جميل، وسماء جميلة، ونهر جميل أو عن أزهار جميلة، وحيوانات جميلة بل وعن جمال البشر. ومع ذلك يمكننا ملاحظة أن الجمال الفني أرقى من جمال الطبيعة لأنه مُنْتَجٌ ومُبدَع من طرف الروح» (ص 52 دروس في الإستتيقا). الروح (esprit) كلمة مفتاح في فلسفة الفن الهيغلية. إن جمال الشمس غير واعِ بذاته وغير حرٍّ، هو جمالٌ غُفلٌ فحسب.
إذا اتفقنا على أنه من الفن يُستمَدٌّ الشعور بالجمال، فلا يوجد اتفاق في تعريف الجمال والفن معا. هنا تتعدَّدُ المسالك، وتختلف الطُّرُق: فمِنْ قائلٍ بأن الفن رائي ورؤية، وأن الرؤية مرآة تعكس العالم وتُكَثِّفُهُ على مستوى اللوحة (ميرلوتونتي) إلى قائلٍ بأن الفن هو جمال المظهر، وبأنَّ الشكل أكثر حقيقة من الشيء ذاته (كنط).
ولمَّا يُتَّفَقُ على أن الجمال من خلق الفن وإنتاجه، يُتنازَعُ في تحديد ما الفن؟ هل الفن والجمال متطابقان أم مختلفان؟ ما مصير القبح؟ هل يُقْصى من الدائرة الفنية والإستتيقية؟ كيف يمكن أن يَتَجَاوَرَ الجميل والدميم جنباً إلى جنبٍ؟ ما تفسير وجود كائنات دميمة، ومخلوقات وحيوانات مُشَوِّهَة في الأساطير اليونانية؟ أما الفن المعاصر فهو يحفل بمظاهر القبح والدمامة والبشاعة إلى حدٍّ كبيرٍ؟ يرى «أدرونو» في كتابه «النظرية الجمالية» أنَّ الجميل والقبيح ليسا سوى لحظتان متضادَّتان في الفن، تنظُمُها علاقة توتُّرٍ ودينامية توازنٍ هشٍّ لا تَلْبَثَانِ أن تطبعا الفن بالنَشَاز.
هنا يتبيَّن أمام أنظارنا أن القبيح والدميم يحتلُّ مكانا مُعتَبَراً في الفن إلى حدٍّ ل يمكن نُكْرَانُهُ. لم يعد استبداد قيمة واحدة بالفن، فقط ينبغي إدراك أنَّ القبيح يستعصي إدماجه، ويقتضي البحث عن أشكال فنية لاحتضانه أو لِتَرْوِيضِهِ. السؤال الرابع يمكن صياغته على النحو التالي: ما جدوى الجمال وما الغاية الي يرمي إليها الفنّ وهل له غاية أصلاً؟ أسمى غاية للفن-حسب هيغل وكما ورد في كتابه «فلسفة الجمال» المُتَرجم بواسطة «جان كليفيتش»- أنْ يوقظ النفس من غَفلَتِهَا، ويخرجها من سباتها حيث إِنَّ غايتُهُ أنْ يكشف للنفس كل ما تنطوي عليه من عظمة وسمو وحقيقة. إجمالا يمكن القول إن غاية الفن انكشاف الحقيقة والوجود. أمَّا في رأي المعارضين لا غاية عليا للفن، وهو حاضن للمعنى مثلما احتضانه للِاَّمعنى والعبث.
ما ينبغي الانتباه إليه في البداية هو أن اكتشاف الجمال أمر صعب، ومُهِمَّةٌ عسيرة رغم ما تبدو عليه من يسر وسهولة. ومهما كان الجهد المبذول للوصول إليه، فإنَّ محاولة البحث تستحق المجازفة. إن الجمال، بخلاف مشكلات أخرى، هو أصعبها نظراً لما يحيطُهُ من لغز وما يُسبِّبُهُ من حيرة. يمكن الاسترشاد بما أَبْدَاهُ «دونيس ديدرو» من استفهام لمقولة الجمال :» كيف يُعقَلُ أن الناس جميعا تقريباً يرون أن الجميل موجود، ومنهم مَنْ يشعُرُ أيْنَ هو، وقليلٌ يعرف ما هو؟»(1)(Diderot : Œuvres Esthétiques Ed P ; Vernière Classiques Garnier .Bordas Paris 1988 p 392). إن الأشياء التي نتحدث عنها كثيرا هي التي نَعْلَمُهَا قليلا، أو لا نعلمها البتة، ومثال ذلك الجمال: الكل يتحدث عنه وقليلٌ مَنْ يعلم ما هو بالتحديد. ما أصْلُهُ وما مصدَرُهُ؟ هل أبدي خالد أم عابر وزائل؟ تكمن صعوبة البحث عن الجمال في انفلاته الدائم، وتَمَنُّعِهِ المُسْتَمِرِّ رغم أنه يبدو في متناول اليد وطَوْعً البنان، وهي السمة الغالبة البادية عليه في كل ما سنعرضُهُ من تعريفات وإشكاليات ونظريات فلسفية وجمالية.
لنبدأ من البداية في سبيل تعقُّب هذه المقولة التي نتداولها في لغتنا اليومية، والتي من كثرة تداولها تعرَّضت في بعض الأحيان للابتذال والاستهلاك والاستنزاف. ولنطلبها في أصولها اليونانية الأساسية وعن أشهر الفلاسفة الذي أخضعها للفحص، وأخضعها للاستفهام والتساؤل.


الكاتب :  عبد العلي معزوز

  

بتاريخ : 02/08/2023