فنانون وجها لوجه مع الملك 12- نعيمة سميح ..الجرح وقد غنى فسال

هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .

حظيت الفنانة نعيمة سميح بتقدير خاص من طرف الملك محمد السادس، كما هو الشأن بالنسبة لوالده الملك الحسن الثاني، وقد قام عاهل البلاد باستقبالها بمناسبة الذكرى السابعة لعيد العرش ، الذي ترأسه جلالة الملك محمد السادس، حيث قام بتوشيح عدة شخصيات بأوسمة ملكية، كان ضمنها أربعة فنانين مغاربة، وفي مقدمتهم الفنانة القديرة نعيمة سميح، حيث أنعم عليهم جلالة الملك بوسام المكافأة الوطنية من درجة قائد.
وقد أكدت جوهرة الطرب المغربي نعيمة سميح أنجلالة الملك محمد السادس يولي اهتماما خاصا بجميع الفنانين، ويقدم لهم الدعم والمساعدة عند الحاجة،كما و أن ملك البلاد يعمل على إسعاد الشعب المغربي، وضمنه الفنانين المغاربة، الذين يحسون بكثير من الامتنان العميق للالتفاتة المولوية، التي دأب عليها أيضا كل من والده الراحل المغفور له الحسن الثاني وجده المنعم المغفور له محمد الخامس».
وقالت نعيمة سميح، إن هذه الالتفاتات المولوية حفزتها على العمل على إنجاز أغنية جديدة حول المغرب بقيادة رائده محمد السادس.
يكفي الفنانة المغربية الأصيلة نعيمة سميح فخرا، أنها صاحبة أغنية “ياك أجرحي “،فلو لم تغن غيرها، لظلت تزاحم الأصوات النسائية والرجالية على حد سواء،أكان ذلك في المغرب أو في الوطن العربي.
نعيمة سميح، صاحبة البحة والصوت الجريح ،لايمكن للمرء وهو يستمع إلى أغانيها المتعددة والمتنوعة طيلة عقود من الزمن، التي تعاملت فيها مع كبار الملحنين والشعراء، ألا يستمتع بهذا الصوت الطروب ، حيث يستسلم طواعية لهذا الإحساس المتدفق، مثل ماء نهر أبي رقراق الذي تغنى به ذات أغنية جميلة”أشواق “ المرحوم محمد الحياني ممهورة بتوقيع الشاعر الكبير عبد الرفيع الجواهري، فتتسلل النشوة إلى الجسد قبل الوجدان، وكأنك حقا أمام ساحر يلقي عليك طلاسيمه، ويتلاعب بإرادتك ،بعدها تستسلم لتنويمه المغناطيسي.
نعيمة سميح ،رغم علو موهبتها ،لم يستهوها سحر الشرق، ظلت دوما تنتمي إلى صلصال وطنها، لو اختارت الهجرة إلى مصر، حيث عمالقة الفن والموسيقى هناك، فالأكيد أنهم سيتهافتون على موهبتها، كيف لا، وهناك من الأصوات القادمة من جل الأقطار العربية، من وجدت لها مكانا هناك، رغم تواضع موهبتها أمام هذه القامة المغربية.
بتجربتها الطويلة السامقة،غنت نعيمة سميح، وتغنت بالفرح، بالحزن بالأوجاع ، بالمسرات وبالحياة أيضا.
إنها سيدة الأغنية والإحساس بدون منازع ، للمرء الحق بل كل الحق، أن يجهر بهذه الحقيقة دون أي خجل، يكفي أن أعمالها الفنية، تحرص فيها على أن يعانق اللحن الجميل، الكلمات الشفيفة والعميقة ،والإيقاع الأصيل بعيدا عن الهجانة، كل ذلك يضفي الصوت العذب عليه لمسة سحرية ،تجعل الأغنية خالدة، والدليل هو أن أعمالها الفنية مازالت حية حاضرة في الوجدان المغربي والمغاربي والعربي رغم أنها انقطعت عن الغناء منذ فترة غير وجيزة.
كان لي الشرف أن أناقش في العديد من المحطات واقع الأغنية العربية بشكل عام مع كبار الفنانين العرب نساء ورجالا، لكن كنت دائما أجد نفسي منبهرا جدا عندما يتحدث هؤلاء الفنانون الكبار، بتقدير وإعجاب كبيرين عن عميدة الأغنية المغربية نعيمة سميح، التي يكنون لها احتراما منقطع النظير، ويحفظون عن ظهر قلب أغنيتها الخالدة “ياك أجرحي “ ويرددونها بطلاقة وتلقائية، وكأنهم بذلك يجيبون عن واقع وحال أغنيتنا العربية اليوم، بعدما حدث لها ما حدث باسم الانتشار والعالمية المفترى عليها،وهو جرح آخر له أسبابه ومسبباته.
مسار الفنانة والإنسانة نعيمة سميح، مسار مطرز بالنجاحات والقبول من طرف الجمهور المغربي والمغاربي وأيضا العربي، معادلة صعبة لايمكن حلها إلا ممن كان يتمتع بذكاء فني وقلب ينبض محبة ويحترم المتلقي المفترض والمتعدد بتعدد خلفياته وفئاته.
هذه المعادلة،تجيب عنها نعيمة سميح ذات حوار بالتأكيد على أن مرد ذلك هو “ الأحاسيس الصادقة التي تسكن شراييني وتتفاعل مع الأغنية التي أؤديها بصدق وانسجام إلى درجة الذوبان في الأداء ،وهذا ينعكس على حركاتي وتقاسيم وجهي حين أغني ،إنها التلقائية التي تجرفني للانفعال مع أغنياتي».
رغم كل الأوسمة المستحقة التي نالتها ، يبقى أرقى وسام وشحت به، هو وسام التقدير والحب الجارف ،الذي كلل الجمهور صدرها به ،خاصة وأنها تعاملت مع مدارس متعددة ،لكن الفرق بينها وبين الآخر، أنها استطاعت أن تشكل من ذلك مدرسة خاصة بها ،فقد تعاملت مع العديد من الملحنين الكبار، إذ نجد محمد بن عبدالسلام في “نوارة “فتح الورد “الله عليها قصارة “ البحارة “،وفي “الخاتم” مع عبدالرحيم السقاط، “جريت وجاريت” رفقة عبدالقادر وهبي ومع محمود الإدريسي في أغنية “شكون اللي يعمر هاد الدار»
ومع عبد القادر الراشدي في “ هذا حالي” غاب عليا لهلال” جاري “ على غفلة “ وفي “قطيب الخيزران “مع عبدالله العصامي ،و”أمري لله”رفقة أحمد العلوي و”رحلة النصر “مع عبدالوهاب الدكالي وغيرها من الأعمال الفنية الخالدة.
حتى وهي تغني بغير لسانها الدارج المغربي، نجد أنها تتقن اللهجة المستعملة، وتغني بإحساس كبير، إلى درجة أنها أدهشت الآخر، كما حدث مع الأغنية الخليجية “واقف على بابكم “التي تغنى بها العديد من الفنانين الكبار من كل الأقطار، وحتى الجيل الجديد من الشباب الآن.
المطربة القديرة نعيمة سميح صاحبة البحة الفطرية،نجحت ودخلت قلوب الناس بدون استئذان، لأنها تخلصت منذ دهشة البدايات، وهي تلج هذا العالم، من فخاخ التكبر والاستعلاء، الذي يصعب على الكثيرين التخلص منه،ببساطة لأنه مليء بالأضواء الحارقة،
والذي لم يكتب لغيرها، وهم قليلون، أن ينجوا من فكاكه.
نعيمة سميح، صوت آسر، يغريك بالطرب مهما كانت مقاومتك ومناعتك ، فلن تغنيك ولن تمنعك أي منهما في شىء، من الإنصات بالقلب والجوارح قبل الأذن .
نعيمة سميح، صوت نادر وحنجرة من ذهب، تلخصه باختصار الحروف المشكلة له، فالصاد ،صمود أمام كل تفاهة وهجانة ،و الواو،وقار له وقع ونقر في المزاج والإحساس ، والتاء ، تخطيط للروح والنفس وترجمة بكل ألوان قوس قزح لمعنى الفن الراقي ولمعنى الحياة.


الكاتب : إعداد : جلال كندالي

  

بتاريخ : 05/04/2023