عبد الهادي بلخياط: قال لي الملك عندما طلب منه محمد عبد الوهاب
أن يأذن لي بالسفر معه إلى القاهرة: «شوف والله لو رحت معاه حتى ندخلك للحبس»
هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
هناك حكايات عديدة رسخت في ذاكرة المطرب الكبير عبدالهادي بلخياط ، والتي مازالت عالقة في الذهن رغم مرور زمن ليس باليسير من وقوعها.
هناك حكايات جرت فصولها داخل القصر الملكي مع الملك الراحل الحسن الثاني، من بين هذه الحكايات التي تمت بحضور مطربين كبار، كانوا ضيوف جلالته رحمه الله، من مصر ، مثل مطرب الأجيال محمد عبد الوهاب، وعبدالحليم حافظ وغيرهما، تلك الحكاية التي يرويها الفنان عبد الهادي بلخياط نفسه.
يقول صاحب العديد من الأغاني الخالدات، إنه في أحد الأعياد الوطنية سنة 1971 ، والتي كان يحرص الملك الحسن الثاني فيها على دعوة الفنانين المغاربة والفنانين العرب لإحيائها في قصره ، خاصة من مصر الشقيقة، وأثناء هذه السهرة، طلب الملك الحسن الثاني من عبد الهادي بلخياط الغناء، فاستسمحه بلخياط في ما يود سماعه، ليعطيه الملك الاختيار في أداء الأغنية التي يحفظها، ويضيف عبد الهادي بلخياط، أنه اختار أغنية «ست الحبايب « التي كان طبعا يحفظها عن ظهر قلب، بل ويتقن أداءها وهي للمطربة فايزة أحمد، كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، تقول بعض كلماتها :
«ست الحبايب ياحبيبة
يا أغلى من روحي ودمي
يا حنيّنة وكلك طيبة
يا رب يخليكي يا اُمي
يا رب يخليكي يا اُمي
يا ست الحبايب ياحبيبة
زمان سهرتي وتعبتي
وشيلتي من عمري ليالي
ولسة برضو دلوقتي
بتحملي الهم بدالي
أنام وتسهري وتباتي تفكري
وتصحي من الآذان وتيجي تشقري
يا رب يخليكي يا اُمي
ياست الحبايب يا حبيبة»
يروي الفنان عبدالهادي بلخياط، أنه بينما كان مندمجا في أداء هذه الأغنية، التي بالتأكيد لها وقع على الجميع، بحكم أنها تتغنى بالأم، سمع آهات الموسيقار محمد عبد الوهاب، وهو التفاعل التي يبين مدى إعجاب محمد عبدالوهاب بهذا الأداء والإحساس، ويضيف بلخياط، أنه ما أن انتهى من أداء هذه الأغنية، حتى قام موسيقار الأجيال من مكانه، وتوجه إلى الملك الحسن الثاني، وطلب منه السماح للفنان عبد الهادي بلخياط بالسفر معه إلى القاهرة، وذلك من أجل تقديمه للجمهورالمصري والتعاون معه، وهو الطلب الذي كان من المتوقع أن يرفضه الملك، الذي أجاب محمد عبد الوهاب قائلا إن عبد الهادي بلخياط يرفض فكرة السفر.
بعد ذلك يتذكر الفنان عبدالهادي بلخياط أن المرحوم الحسن الثاني، ناداه، ولما دنا منه همس في أذنه محذرا إياه «شوف والله لو رحت معاه حتى ندخلك للحبس، هو عبد الوهاب في بلاده، وأنت عبد الهادي في بلادك».
هذه الحكاية تبين مدى حرص الملك الحسن الثاني على أن يظل الفنان المغربي متشبثا بوطنه، وكان يرى رحمه الله أن الفنانين المغاربة لا يقلون موهبة عن غيرهم، سواء أكانوا مصريين أو من بلدان عربية أخرى، وهي الرؤية التي وجدت في أنفس المطربين المغاربة قبولا بتلقائية وإيمان قويين، لكن هذا التشبث بالوطن، لم يجعل الفنانين المغاربة يعيشون منغلقين على أنفسهم، بل انفتحوا على تجارب فنية أخرى، خاصة منها المصرية، كالفنان عبد الهادي بلخياط الذي تعامل مع فنانين من خارج أرض الوطن، في رائعته «الأمس القريب» التي كانت من كلمات الشاعر المصري الكبير مصطفى عبد الرحمن، والذي سبق وأن تعاون معه في رائعته الأخرى « الشاطىء»، التي لحنها الموسيقار عبدالسلام عامر ، تقول كلماتها :
« أين يا شط لياليك النديات الحسان
أين غابت أين واراها عن العين الزمان
فرغت كأسي وجفت من منى النفس الدنان
أين يا شط لياليك النديات الحسان
رح أمسي وتولى من يدي
غير ذكرى تبعث الماضي الدفين
آه من هام الغريب المبعد
بين نار وعذاب وحنين
لا رمال الشط إن راح يناديها تجيب
لا ولا يحنو على مدمعه الهامي حبيب
شفه الوجد فأمسى من جوى الوجد يذوب
يسأل الليل عن الفجر البعيد
ويمني النفس باللقيا غدا
فإذا لاح سنا الصبح الجديد
ذهبت كل أمانيه سدى
ها هنا أشرق للأيام فجري
وهنا غنت الأمواج والشطآن والدنيا لنا
أين ما كان على الشاطئ من أفراحنا؟
من معيدي لليالي الخوالي
وعهود خلدت في خاطري
نسبق الفجر إلى شط الجمال
ونرى الماضي بعين الحاضر.»