مدخل:
تشكل تجربة شكري البكري الشعرية ترجمانا جماليا يروم التعبير عن الذات الشاعرة كيانا متفاعلا مع الحياة مواقف وأحداثاً ورؤى.. لبناء علاقات شعرية رمزية تمتح أبعادها من الصورة الكلية لخلق معادل موضوعي للذات الشاعرة في تفاعلها الحساس مع مظاهر الوجود، وتفاصيل الحياة اليومية، أو في تأملاتها لقضايا وأفكار مجردة؛ لتتعدد أشكال الانفعالية في التجربة الشعرية التي يحتويها الديوانان اللذان وشح غلافهما بــ” فواصل الغياب” (سنة:2009) و”الشرفة 48″ (سنة:2017)؛ حيث نلفي لغة شعرية ذات بناء غني بانزياحاته وصوره الكلية التي تُوسع مقتضيات المعنى للتعبير عن حوار الذات مع نفسها بحثا عن السلوى في أنس الوجود، وتماهيا مع الشعر حبا أبديا، وإلهاما وجوديا يهب الشاعر فرصة البوح بمكنونات الذات الشاعرة في مختلف تقلباتها الحياتية الإنسانية، وأحاسيسها، وتأملاتها الفكرية، بشاعرية اللغة؛ حيث عمق الانزياحات، وجمالية التكرار، وثراء التشكيلات الإيقاعية، والبعد الرمزي والدلالي للنصوص.
وسأعمل على مقاربة هذه التجربة الشعرية من خلال ثلاثة محاور متداخلة هي: الانفعالية الإنسانية- الانفعالية الثقافية – الانفعالية الفنية.
1 ـ الانفعالية الإنسانية:
ينطلق الشاعر من المكان /الشرفة في ديوان “الشرفة 48″ عنصرا بانيا للموقف الدرامي الشعري لأنه المفجر لدلالاته المتعددة، ومستويات الإدراك الجمالي التي تخرج المكان من ملامحه وقسماته الواقعية إلى معانٍ متجددة بسياقات الحالات النفسية، والمقام الكلامي الذي يُوَلده، مما يدفعني إلى القول إن الشاعر لا ينطلق من الذات لينغلق عليها شرنقة تلوك آلامها وتحلم بالخلاص، وإنما هي ذات ترتاد آفاقا رحبة لتعانق ذواتا أخرى تسري فيها نفس دمائه، وتوتراته، وانكساراته، ليبني صراعا دراميا مع المكان، ويكسر حدوده، ويُعري أسراره. كما قد يصبح المكان الآخر”الغرفة” ـ بالطابق الرابع ـ كناية عن اختيار إنساني يعبر من خلاله الشاعر عن إشراف من علٍ على كل تفاصيل الحياة اليومية دون الاكتواء بأضرار الآخرين التي تتربص بأي إنسان (بيت دعارة أو صالون تدليك مجاور، قابض الإتاوات من زبناء المتعة، “حارس سيارات بذيء الإشارة”، نباح، حرائق، جرائم،..)
وكثيرا ما يستلهم الشاعر المعاني السامية ليتبنى آلام الآخرين، ويتكلم بلسانهم شاعرا حاملا رسالة مفعمة بروح التمرد على أشكال التنكيل بالذات البشرية؛ ظلما وقهرا وسجنا وتعذيبا، ليتماهى روحا حساسة مع معاناة ذوات أخرى، رامزا لهذا الواقع المرير بشِعر شفيف المزار، عبْر قدرة لغوية على الاستجابة للكلمات تفسيرا لا شرحا، ليقول لنا إن قيمة الشعر ليست في صوره الجزئية فحسب، وإنما في سمو الخطاب الشعري بمقتضى أبعاده معانيه، وتفاعل الاحتمالات التفسيرية مع بعضها بعض؛ فها هو يربط بين الانكسار الإنساني العام وأثره في الذات الشاعرة المُحبة لعالم الصحافة، ليعلن موقفا متمردا على سياسة قمع التعبير، وخنق أسباب وجوده ( لسانه أو فمه) في قوله:
” أي سجن سيكون أعنف
وأي مقصلة هذه التي
تخنق نفسا
حَراكُه فيه
وَفُوهُ في المشنقةْ؟
وهكذا تتعدد تجليات الدلالة في الديوانين، وتتشابك، ليعبر الشاعر عن مطلق القيم الإيجابية التي يحلم بتحقُّقها، كما يسقط أقنعة أخرى على واقع إنساني وثقافي وسياسي متعدد المستويات ( اليتم ـ غدر الزمان ـ ضياع الأمل ـ الفساد ـ صخب المدينة ـ الفقر ـ الاستكانة إلى الوحدة وقهر الزمان ـ تقلبات الحياة ـ الزمن المتسارع ـ الصراع مع الزمن ـ استفاقة الذكريات ـ دور الوسائط الحديث في لملمة الذكريات؛ حيث نبحث عن أعزاء غابوا عنا في الرسائل التقليدية لنقتفي آثارهم إلكترونيا لعلنا نصل إليهم وما نحن ببالغين في ظل الأسماء المستعارة ـ حلم اليسار وانكسار الأحلام النضالية ـ انقلاب اليسار إلى يمين وسقوط الأقنعة ـ البرلمان ـ مغتصبو الأطفال ـ اليانصيب …
ثمة اشتغال قوي على سمو الانزياحات اللغوية التي تحفل بها نصوصه؛ كتراسل الحواس، والجدل بين الحسي والمجرد صوغا فنيا مبدعا، كقوله:
“هذا الطريق يحبل باللامتوقَّع
يغزوني من كل المنحدراتِ
يطبق على شفاهي
فتختمر الكلمات
إنه يشبهني
يتوسط كل المنحدرات
يلهو عن فجوه السرابِ
ويغفو للعابرينَ
في جفوة المسافاتْ”
ثمة إبداع لصور درامية أخرى في تشكيله لصورة الزمن القلق؛ “جافل هو الوقت” الذي ينعكس على الذات الشاعرة، وأيِّ ذات إنسانية أخرى موتا محقَّقا؛ الوقت سائر إلى حتفه لكنه يتجدد عندما يشيعنا إلى السبات الأخير؛ حيث موت الذات بأحلامها المستحيلة، وصورة المُقامر سيرة تُكتب بمداد الموت ولا إمكان الخلاص من مساءاته.
كما عبَّر في مقطع آخر عن صورة “أواخر القيظ”؛ حيث تتدافع الانكسارات لتُعمق معاناة الذات الشاعرة، وليتلاشى مفهوم الزمن بلهيب الصيف وقر الغياب؛ غياب الوصل لذات “الردف” الحاذق، وشساعة المسافات في غياب المؤنس في فيافي الوحدة التي غدر بها المُزْن بعدا رمزيا، وعمَّق بُعدها قيظا قاتلا، ليطول مساء العياء، ويصبح الوقت خيطا من نار، يقول:
ردف حاذق يستهويني. أمذي
آه يا رأسي
متى تستلقي قفاك؟ ”
يوشي الشاعر ديوانه “الشرفة 48” بمقاطع من نثر شاعري تنساب فيه المعاني انثيالا، وتبوح النفس بتسارع كأنها تريد أن تتخلص من عبء مضن، وفي المقاطع الشعرية أخرى يغوص بنا نحو فتون اللغة، وتجليات الاستعارة ليفلسف كيانه الإنساني، ويتأمل انشطار الذات وتيهها في الزمن، ليترجم ذلك عبر “مركزية المعنى الشعري” الموغلة في الانزياحات القوية التي تسمو بالنص نحو أسباب الحداثة الشعرية تشكيلا شعريا ينفتح على إمكانات رحبة من الفهم والتفسير والتأويل.. لنتأمل إيحاءات الصورة المبدعة المعبرة عن لحظة انتظار، أو شرود، أو تيه والجالس يلوك زمنه وذاته المنكسرة التواقة للخلاص والوصل المستحيل وقد استجار بأشيائه الصغيرة لعلها تخفف عنه بعض السأم، أو تصرف عنه قنوطا عابرا أو حزنا غائرا:
” أطلب فنجانا آخر من الملل
وأنقر الهاتف الناسف لاستطلاع الوقت
أسيح بين الجالسين
أشباحا/ وتقاسيم/ وأكواماً من الملل
ثم أنقره
وأنظر في الفنجان دون قناع
ودون بللِ
يعود البلل لينتاب ليلي
وحموضةٌ ترتاد النهار فِيَّ
بذات الملل وسأم النظارتين
تَطيحُ المآذنُ
وأُعلِّق النظارتين على صدر الليل
مثل جرسين
أو عينين رماديتينِ
تنظران إلى ما بين الحذاءينِ
2- الانفعالية الثقافية:
وتتمثل في تجاوب الشاعر مع مرجعيات ثقافية ببعدها الرمزي الخلاق؛ قوامه استثمار مؤشرات الثقافة الإنسانية عبر مستويات متعددة تنم عن تمثل الشاعر القوي لهذه الثقافة؛ شعرا ولغة وحسا تعبيريا حداثيا يمكن التمثيل عليه بمستويات متعددة، من بين نماذجها:
أ _ استلهامه لمصطلحات نحوية (الفعل المبني للمجهول والمعلوم) لبناء نص برؤيا شعرية جديدة في موضوع بناء جدل فكري بين المجهول والمعلوم، في قوله:
” إذا كانت ضمة المبني على المجهول
هي عينها ضمة المبني على المعلوم
فما جدوى التمييز يا ابن مالك
إذا كان المجهول والمعلوم سيان؟ ”
ب ـ حديثه عن محنة الإنسان في العالم، وتكالب النوائب عليه باستلهامه “أسطورة حرق روما” ليربط بين ماضي المدينة وحاضرنا، ليتكلم عنها بلسان شخصية نيرون الذي اتُّهِم بحرق روما لكنه تبرأ من التهم الذي أُلصقت به؛ حيث تداولت الأسطورة تفاصيل عبثيته من خلال تفرجه على روما تحترق وهو يغني بقيثارته مطلا على سعيرها. وكانت الأسطورة تقول إن نيرون وصل إلى سدة حكم الإمبراطورية الرومانية بمساعدة أمه «أجريـبـينا»، وبسبب اتهام الشعب له بحرق روما، وطيشه، وانغماسه في المجون، وسوء إدارته لشؤون البلاد “انصرف عنه أصدقاؤه وحاشيته، ولم يجد بُدَّا من الهروب من قصره إلى كوخ بعيد لأحد خدمه الذين بقوا معه. وهناك كان يبكي كثيراً على ما وصل إليه، وتذكر أمه، وقال إنها هي من جلبت عليه اللعنة.”
ما يُهِمُّنا في هذه الحكاية هو استلهام الحكاية بصورة ذات بُعد آخر في قوله:
” أقسم بروما البريئة
أنا لم أقتل أمي
ولا زوجتي
ولم أحرق مدينتي
عندما استيقظتُ لأذهب للصلاة
وجدتُها هشيما”
وهكذا يعبر الشاعر عن حجم مآسي الإنسان وآثامه ومعاناته مع المدينة، وهو المشاء ” وقت الصخب” و”اللهب”، وهو الإنسان الحالم باتساع المدى لكنه لا يجد غير فنائه في مقطع شعري أخَّاذ يقول فيه:
ليلا
فتحتُ للحلم بابا
وجدت البابَ
واعْتذر الحلم
كان الموتُ للباب مصراعا”
وكقوله:
” الموت حرفٌ إذا تم شكله
اغتالته الحركات”
وثمة انفعالية أخرى يتناص فيها مع نص لأحمد المجاطي في ديوانه (فروسية) الذي يقول فيه:
” أخرج من دائرة الرفض ومن دائرة السؤال
أراقب الأمطار
تجف في الطوية الأمارة
تُسعفني الكأس ولا
تسعفني العبارة”
ويقول شكري البكري:
” يسعفني الفجر
ولا تُمهلني الكآبةْ ”
ج ـ اشتغاله على المفارقة الشعرية في زمن يلوك أبناءه في حياة المدينة، كقوله: لا مصعد في العمارة”. قد يُقرأ التعبير الشعري من خلال مستويين؛ المستوى الحرفي للجملة، والشاعر لا يشتغل بالتقريرية الحرفية وإنما يشحن الجملة الشعرية بدلالات غنية لأنه يتحدث في هذا المقام عن تدني القيم وانقلاب نظم الحياة، حيث أردف بالقول على لسان “المجدوبة” وهي تغني:
” علم النفس علم حمير. ( علامة موسيقية)
والنفاق ذهبٌ ( علامة موسيقية)
والغدر مجد ( علامة موسيقية)
والحب مصرعٌ ( علامة موسيقية)
وقصيدكم عُهر ( علامة موسيقية)
وأمانتكم غباءٌ ( علامة موسيقية)
وغرناطة مرجع ” ( علامة موسيقية)
د ـ اهتمامه بشعرية الأفكار؛ وهي شعرية تروم نقل الأثر الشعري في الذات عمقا فكريا ورؤيا لا تنقل الواقع كما هو، وإنما كما تفاعلت معه الذات الشاعرة كيانا مبدعا يخرج اللفظ الشعري من حدوده الإشارية الضيقة إلى رحابة التأويل، فهاهو الهبوط في نص “أواخر القيظ” “عياءْ” والمُزن المرتبط بالرُواء والغيث الذي ينعش القحط هو “غدر”.
وثمة اشتعال في نص آخر على ما يمكن أن أسميه بنظام الحركات أو تبادل المشاهد للأدوار؛ حيث تفاعل المشاهد مع بعضها بعض ليعبر كل مشهد عن معناه، ثم تأتلف وتتجمع في بؤرة واحدة هي المحرق الذي يَشتعل فيه المعنى المشترك بينها، إن صح التعبير، ليعبق دلالة شعرية عميقة تعبر عن تفاصيل الحياة المريرة في ظل الفقر والأحلام المنكسرة، ويتمثل ذلك في ثلاثة مقاطع شعرية (ضوء برتقالي ـ ضوء أحمرـ ضوء أخضر) .
أ ـ اشتغل في مقطع ( ضوء برتقالي) على سيميولوجيا اللون تعبيرا عن إدراك شيماء العمياء (بائعة أوراق الحظ) لوهم الحظ الذي تبيعه للسياح والعابرين مسارقة عند ضوء المرور البرتقالي؛ حيث يشتري الركاب الأوراق وسياراتهم تعبر حذرا وهم يحلمون بالوهم. يقول:
” ضحكت شيماء كالعذراء
ووقتها يلهج بآمين مومياء ”
ب ـ اشتغل في مقطع (ضوء أحمر) على سيميولوجيا اللون كناية عن طرد سائق شاحنة الأزبال للصبية الذين يتعلقون بشاحنته، ليمنعهم من الوصول إلى مبتغاهم مجانا، وكناية عن طرد الوهم عن الذات الحالمة بالمستحيل مع ورقة الحظ التي تبيعها شيماء، يقول:
” تطوي العشرين درهما، وتنزع عماها العمياء:
لا يونع الورد بعشرين يا هذا
ولا يصدق الحظ”
ج ـ اشتغل في مقطع (ضوء أخضر) على فكرة انفراج أسارير الفتاة شيماء عندما تحركت السيارات وباعت للعابرين أوهاما، فانصرفوا لا يلوون، وقد ارتفعت أبواق السيارات، حيث تستمر العملية في ترصد إشارات المرور ليبيع الأطفال علب “كلينيكس” للركاب خفافا.
وهكذا يشتغل الشاعر على مقتضيات المعنى الموسع ليتدفق المعنى عبر الأسطر الشعرية جريانا لا يرتبط بالتيمات فحسب، وإنما يرتبط بتجاذبات في البناء الشعري؛ يفضي فيه المعنى إلى معنى آخر تقوية، أو شرحا، أو احتراسا وتتميما، أو نقضا، أو إغناء وتنسيقا دلاليا يحيلنا على التصور التراثي الذي قدمه حازم القرطاجني حول “مفهوم التعالقات” بين أبيات بعينها، أو بين أبيات القصيدة كلها خاصة ما يرتبط بضربٍ من التعالقات تتصل بالعبارة والغرض، وضرب متصل الغرض ومنفصل العبارة، لكن تكون له علاقة بما قبله من جهة المعنى، لنتأمل اشتغالَ شكري البكري على فكرة تردي العلاقات الإنسانية، وسيادة الرياء، وخطاب الأقنعة، ورثائه للقيم المنهارة، وانتقاده الغامز لبعض الظواهر الاجتماعية الجديدة في ظل عالم التكنولوجيا الحديث بُعدا تأمليا؛ ينتقد فيه عادات ارتبطت بالمآتم، وإحساسه الذي يتناص فيه مع الشاعر مالك بن الريب الذي رثى نفسه جزعا من الموت نظرا لهوان جسده، وتكالب النوائب عليه، يقول شكري البكري:
” ……………………
تحملونني على أكتافكم ـ غداة غدٍ
كما أحمل قفة الخيبات
والنعش من خشب رديء
وكفن تنهشون بياضه
………………….
” ثم تختلفون إلى خطاياكم
كأن الحكاية لم تكنْ
وكأن الخطو ليس في الرمل
ولا البللُ كان من مطرٍ
يا هلفَ نفسي ابن الرَّيْب
الصفوف الأولى للأكثر بكاءً
………..
إلى أن يقول:
” وصلاة جنازةْ
ثم عزاءاتُ فايسبوكٍ
وصورٌ في بروفايل الواتساب
تستبدل بعد كسكس الأربعينِ ”
3ـ الانفعالية الفنية:
إن الاشتغال الجمالي على توسيع المعنى الشعري صيغ في الديوانين بطرق متعدد ومتداخلة، في حداثة شعرية لم يعد فيها الإيقاع لوحده مقترح كتابة حداثية، بل أصبح الخيال الخلاق الذي يتجاوز “الدال الواحد المخنوق” رهانا جماليا يضاف إلى رهانات أخرى أساسية من قبيل؛ طريقة تقطيع النصوص، وتوزيع الأسطر والوقفات التي يخضعها لغنى دلالي قوي بمصادر معرفته الإبداعية الغنية، ورؤياه الفنية في بناء جريان النحو، وبناء الانزياحات، وتشكيل إيقاع الذات، وطريقة توقيع المعنى في الزمن حسب الدفقة الشعورية، ومتطلبات الدلالة..، كقوله:
“من طابق علوي بمفترق طرق عقب سيجارة يتهاوى أودعته”
عينيّ / لم اهتم إن كان العقبُ قد بلغ الأرض مشتعلا أم
اختنق في تهاويه/ أما العينان اللتان أودعتهما إياه فقد اختنقتا مشتعلتين.”
ثم يأتي الجواب على هذا المقطع ليرفع سبل الحُجب عن مقصدية هذا المشهد شكلا طباعيا مختلفا في طريقة توزيع الأسطر التي مالت نحو الاقتصاد في الكلمات في قوله:
“أظنه عقدا من الزمن هذا الذي مر
أو ربما عقدين /
عينينِ/
فيم تُهِمُّ السنونُ
و الهمسات
إذا جنح الليلُ
وانسكب الحلم
دمـــــ
عاً
من شراعين؟
وثمة اشتغال في بعض النصوص على شاعرية المشاهد التي لا تسلم لك سرها الجمالي عبر استعارات أو مجازات عقلية، وإنما عبر صور كلية مفجرة للموقف الشعري، خاصة في وصفه البسيط لمشاهد حياتية مألوفة لتصوير حالة ثابتة في الزمن؛ تعكس قلق الذات تجاه العالم الخارجي لتتفجر الدلالة في السطر الأخير، وتدخل اللغة في شبكة من العلاقات الدلالية الجديدة التي تغني الطاقة التصويرية للنص، وبُعده الدرامي كقوله على سبيل المثال:
غرفتي في الطابق الرابع
تطل على عمارة
في طور البناء
ومعمل مهجور
وحارس سياراتٍ
بذيء الإشارةْ ”
ويعبر الشاعر عن كيان المعنى الشعري عبر حوارات داخلية تصور حيرة الذات في صراعها مع الزمن المتسارع؛ حيث تقلبات السنون، وتكالب النوائب، ليجنح الشاعر( رؤيا شعرية) إلى ملاذه مع الحب “في زحمة الرغبات” كما يقول في آخر نصه “أشرعة الشرفات”.
فهاهي الحياة في نص “رذاذ المساء” تستحيل، عند الشاعر، صورة متعددة الدلالات الرمزية؛ فهي تأخذ بُعد الاستغراق في الزمن “مطر يسلمني لمطرْ”، وبُعد الحصار الذي يُطبِق على الذات بكلكله “لجدران لا حصر لها”، وهي امتداد في المكان بحرا لا يركن إلى قرار”شطآن يتيمة”، وثمة مدَنَية أخرى تحاصر إنسانيتنا وكياننا، وتزحف علينا صخبا مستديما، ومعاناةٍ يوميةً، عبَّر عنها الشاعر توريات وكنايات تتعدد فيها الوسائط كقوله:
” تنثال الهواتفُ
بالمحمول والمتردمِ
أصرخ. أختنق. أحاول أن أضحكَ
أخرج من الرذاذِ
إلى الرذاذِ
وواجهات المتاجر
أفواه السيارات
وقع الماء على الرصيف
أرجلٌ تهرول
شرطي المرور
يرتدي كفنا من البلاستيك
وأنا دون مظلةْ
فقط الشارب والنظارة
وأحزان مساء لا ينتهي
لن ينتهي حتى أنتهي
…………………..”
وتسير القصيدة على هذه الوتيرة للتعبير عن قلق الشاعر وتذمره من أجواء المدينة؛ حيث الصخب، وواجهات المتاجر، وأضواء السيارات التي تومئ إليه بالمجهول، وكمِّ الأحزان التي تتجدد من تلقاء نفسها، وما يُهِمُّ في هذا المقام التعبيري هو مستويات “الانفعالية” الفنية التي تهب اللغة الشعرية وظيفة أخرى تتعدد بتعدد مقامات التلقي الشعري والشاعري.
من بين تجليات هذه الانفعالية غلبة “ضمير المتكلم” في الديوانين؛ حيث يجنح الشاعر إلى بوح يعبر فيه عن ذات إنسانية مرهفة؛ يسكنها شجن قوي لمراتع الطفولة، والعائلة، والجيران وحيواتها المتجاورة التي تسكن كيانه، وتبصم انفعالاته وحواراته الداخلية التي يتفاعل فيها مع ذوات الآخرين في معترك الحياة، وزمانها المنقضي، وهبابها القاتل في غبار المدن؛ حيث يفضي الفراغ إلى فراغ، مما يدفع الشاعر إلى الرفع من رمزية المكان ليصبح هي هذه الأنا التي تسكن إلى نفسها حلما بِغدٍ أجمل؛ لا يسكن فيه إلى مدينته الداخلية الحافلة بالصمت وبالأسرار:
يقول:
كل مُدني مداخلها جسر يفضي إلى غبارْ /
أعين ونزوات وشمس وساعات وأطفال وأمهاتٌ
يعاكسن الغبارْ/
آه يا جسدي
سأغفو قليلا فوق هذا العشب
لانتظار البحر
وامرأة تحملني للفجر
حافية اللسانين ”
تُعبر أساليب ديوان (فواصل الغياب) عن مختلف انفعالات الشاعر؛ سواء بصيغها الإنشائية (التعجب والاستفهام والنداء والنهي ..) التي تخرج عن مقتضى الظاهر، أو في تقطيع الجمل، وطبيعة الكلمات، وعددها، وطريقة توزيعها لخلق إيقاع داخلي (وصفا وصفة) وبناء متواليات صوتية تصبح معادلا للجملة، تضاف إلى مؤشر لغوي آخر هو “الحدث”؛ فالكلام الشعري، الصادر عن مشاهد الانفعال، يتميز بزيادة عدد كلمات الحدث على عدد كلمات الوصف، وهو الأمر الذي يدفعني إلى القول إن الشاعر يشكل أدواته الشعرية بقدر تشكيله لانفعاله، مما يعطي للنص صدقا تعبيريا تتآلف فيه أنماط الانفعالية؛ بين ثقافية ونفسية واجتماعية وإنسانية عامة. فمن أمثلة هذا المتواليات الصوتية المعادلة للجملة من ديوان (فواصل الغياب) يمكن أن أذكر:
تقطيع صوتي طباعي:
ـ ” هناااكا ” (ص28 )
ـ “دمــ عا” (ص 19 )
ـ “دَيْــــــــــ ما ” (ص 20)
التوقيع الصوتي الصرفي أو بتكرار المعجم والتجانس:
( الموت ـ الوقت ـ موته ـ وقته) ـ (أمذي ـ رأسي): (فواصل الغياب، ص: 8)
هبوب وهباءْ ،( رذاذا ..رذاذا) (فواصل الغياب ص: 11)
3ـ رمزية الحروف وشاعريتها الإيقاعية ليس ببعدها الصوفي العام، وإنما ببعدها الصوفي الذهني، أو ببعدها الرمزي الشعري حيث اشتغاله على ترجمة معاني الحروف في سياقاتها؛ ليصبح الميسم المخاتل هو ترجمة أبجديات متعددة، كالوصل، والحياة، والضوء، والود، كقوله:
” شرفتي في الطابق الرابع
وللحبور اسمه الآن
للحاء الحياة
و للباء البدر
وللواو وصل الود لا غير
وللراء الرؤى دون ظن
ولكم الغدر”
ويقول كذلك:
” ….
ما يملأ جوف الليل ويسبي وحشة المفازات:
من واو الوحدة
وحاء الحيرةِ
وشين الشهوة”
4- المسافة الطباعية بين المعطوفات؛ وهي مسافة مكانية على بياض الصفحة توحي بمسافة زمنية في القراءة:
” زعاق وعرق وإشارات مرور وصنبور كذب أصفر ”
( أي ضوء أصفر يكون في السير بطعم الحذر الشديد)
5 ـ مقاطع نصية الومضة أو الهايكو
كقوله في نص “فاصلة النسيم”:
” اشتمام الورد
اغتيال للرحيق”
8 ـ امتداد الدلالة الشعرية بين الأسطر؛ حيث يفضي معنى السطر إلى ما يليه تتميما واحتراسا بلاغيا كنوع من الانفعال المؤقت الذي تؤججه مستويات التلقي الشعري، أو قد تكون رغبة من الشاعر في إيضاح رؤياه الشعرية أكثر، كأن يقول:
” أحلام دون مرساة”
” إنما موكب الشمس صهدٌ
يعتريه الغبارْ”
كما يعبر عن رمزية المشاهد والمواقف بلغة شديدة الانفعال؛ مكالمات هاتفية تنثال علينا ليتسع الخرق على الراقع، يقول:
“تنثال الهواتف
بالمحمول والمتردم”
( وقد تحيل على بيت الشاعر ابنِ حُمامِ الأَزْديِّ: (في معنى زاد الفساد حتى فات التلافي)
كـالثوب إن أَنهج فيه البِلَى … أعيا على ذي الحيلةِ الصانعِ
كــــــنا نـُـــــــداريها وقد مُزِّقَـــت … واتَّســــع الخـــرقُ عـــلى الراقــــــــــعِ
9 ــ التوقيع بتكرار الضمير وحيرة السؤال؛ في قوله:
” ما لهذا البين لا يمتلِئُ خواؤهُ؟
وما لهذا الفجر لا ينبلجُ لسانهُ؟
ثم هذا الشوق؟
ما له
لا يبرح نزيفه؟
10ـ تقليب اللفظة الشعرية الواحدة على دلالات غنية تقوي سياقات التعبير الشعري، وتنوع في نبضه؛ كأن يجعل من شعرية المكان محورا لتشغيل اللفظة في فضاءات متعددة. ومن نماذجه لفظ “الغبار” الذي جاء في سياقات متعددة: ( تفاصيل الغبارـ يضاجعها الغبارـ عيناي غبارـ جسور الغبارـ جسر يفضي إلى غبار..
وهكذا تتآلف العناصر الصوتية والمعجمية والتركيبية والمعنوية والتداولية لخلق انسجام في الرسالة الشعرية تشكيلا فنيا ببعده السيميائي، وتشكيلا طباعيا بصريا، وتشكيلا صوتيا في توزيع الأسطر الشعرية، وشاعرية البياض أو الصمت بناءً لفاعلية التلقي الشعري إنشادا وحوارا ذاتيا، حيث شرط العزلة؛ عزلة قراءة الديوان التي نختلي فيها مع ذواتنا، ونحاول أن نقرأ الديوان بإيقاع شكل الطباعة ونفَس التركيب النحوي لعلنا نفلحُ في مجاراة إيقاع الذات الشاعرة وهي تحاورنا صمتا، لتفضي هذه القراءة إلى إيقاعات داخلية متعددة؛ قد تكون هادئة أو لاهثة معمِّقة للتوتر الشعري؛ فترمي بالصوت لهيبا يلفح الذات ليترد المعنى أقوى، ويتحقق فعل الأثر الجمالي للنص الشعري، وقد تكون تكرارا لأصوات، وأوزان صرفية تخلق توازيا صوتيا يبني وقعا خاصا، وقد يكون تقطيعا للكلمة الواحدة إبطاء للإيقاع أو تسريعا له، وقد ترد ضرورة شعرية خاصة في استعمال قافية مقيدة كتما للصوت أوتوقيعا هادئا من درر.