فوزي كريم .. رمز مضيء

 

1
ينتمي فوزي كريم ( 1945 – 2019) إلى جيل الستينات الشعري بالعراق، لكنه كان بعيداً عن تلك « الموجة الصاخبة « التي ميزت ذلك الجيل، هو الذي لم يكن منسجما مع أطروحاته العامة. كان شاعرنا سواء وهو في العراق أو في منفاه اللندني يعيش في الظل وفي عزلة شعرية عن إرادة ، ولم يستمد قيمته من أية جهة أو صفة غير الإبداع والموهبة الممتازة. لقد آثر دوماً أن يقيم في عزلته الذهبية المبصرة التأملية، منشغلا باحتراقات الكتابة ذات القيمة البالغة . كانت عزلة ثمينة اختارها مبدعنا من أجل التزود المثمر العميق من التراث الإنساني قديمه وحديثه، إبداعياً وفكرياً . من ثمَّ جاءت العديد من نماذجه العليا المدهشة التي حفرت لنفسها وبنفسها مجرى متميزاً عميقاً في شعرنا العربي المعاصر. كما كان من نتائج ذلك الاعتزال الخلاق، تلك الدراسات البالغة العمق والثراء والإفادة:( ثياب الإمبراطور .. الشعر ومرايا الحداثة الخادعة )، بالإضافة إلى كتاباته المتألقة في عالم الموسيقى ( صحبة الآلهة .. حياة موسيقية)، إلى تجريبه الكتابة في أكثر من مجال ، وكلها جديرة بالقراءة والتأمل.

2
منذ البدء نستطيع التأكيد على أن ( أجواء ) قصائد فوزي كريم قد لا تشد كل قارئ، إما لأن هذه التجارب ذات خصوصية وهي تشبه إلى حد ما مجاهرات المتصوفة مما يجعلها صعبة لكل قارئ، إذ أن الكثير من القراء لا يملك رصيداً من الرموز والمعاناة المشتركة، تمكنه من التعاطف مع حالات نادرة كتلك التي عاشها فوزي، أو لأن شاعرنا أحياناً لا يستطيع أن يخلق المعادل المناسب الذي يقذف القارئ إلى أجواء تجربته.. فهو مثلا بدلاً من أن يجعلك تعيش حالات الفرح والدهشة، يخبرك أنه «مندهش» و «مأخوذ» و «فرح».

3
فوزي كريم شاعر يطمح لأن يتعامل دائماً مع «الأشياء»، فالكون والوجود والتجريدات تتجلى أمامه على هيئة « أشياء» محسوسة لها وجودها العيني، وصفتها الموضوعية. في هذا المجال نكتشف أن شاعرنا ينطلق من فهم نظري خاص لعملية الخلق الفني، بلوره منذ فترة مبكرة من خلال حديثه عن تجربته الشعرية ( مجلة الكلمة ـ الشعراء العراقيون أمام تجاربهم الشعرية ـ 1969) والتي جاءت عموماً تبنياً للآراء التي طرحها أرشيبالد مكليش في كتابه عن ( الشعر والتجربة – ترجمة : سلمى الخضراء الجيوسي) ولذا يكون من المفيد الانعطاف قليلا نحو « تجربته « تلك لفهم عالمه الشعري وقيمه الفنية . فالشاعر كما هو واضح يلتقي مع «مكليش» الذي يرى بأن الشاعر يتوجه نحو «أشياء» العالم لا لكي يُكوِّن أفكاراً عنها، بل ليكتشفها، وبذلك يكتشف نفسه وهو ينظر إليها. وهكذا تتحول التجربة الشعرية عند فوزي كريم إلى عملية التقاط هذه «الأشياء» لإعطائها صفة التجسيد الحسي باعتبار «أن الشعر لا يصنع من الأفكار إنه مصنوع من الأشياء، أو من كلمات تدل على أشياء» ( مكليش – ص : 31) .
وهذه « الأشياء» تنبثق خلال عملية الخلق الشعري وعبر اكتشاف العالم، وتتكامل متخذة صفتها النهائية « كأشياء» داخل حدود القصيدة فقط لا خارجها، فهي لا يمكن أن تمتلك ذلك الاستقلال إذا استخرجت قسراً من القصيدة، و»الأشياء» هذه هي كل شيء في الشعر، فليست هنالك ثنائية بين الشكل والمضمون. ليس هنالك مضمون أو فكرة خارج الشكل، وفوزي كريم إذ يتمرد على ازدواجية الشكل والمضمون، فإنما يطمح لإيجاد معادلة جدلية للعلاقة بينهما.
-4-
إن فوزي كريم يطمح أن يختار قارئه وليس العكس إذ يرغمه على الوقوف بمواجهة مفرداته واستعاراته وصوره حسب المواصفات الذهنية التي أملاها على القارئ مسبقا عبر إيماءات زرعها في تضاعيف قصيدته/قصائده، والوقوف عند هذه الإيماءات له دلالة خاصة، فالإيماءات عند الشاعر لها وظيفة تفسيرية وليست شكلية بمعنى أنها تتجرد من معناها القاموسي، وتتعدى إلى كونها تشكل علاقة مضمونية تقوم مقام نقطة الالتقاء بين الشاعر والقارئ.
ما يفعله فوزي كريم أنه يرسم لوحة ويعرضها بعد أن تكون قد أُنجزت، وهو بعد ذلك لا يكترث بما هو خارج هذه اللوحة. إن الشاعر قد آلف أحياناً بين الشعر والرسم والكاميرا، فهو يستخدم تكنيكات هذه الأشكال فيمزج المفردة بمدلولها المعنوي ( وليس المادي) ، واللون والظل، وزاوية النظر. وحين نقرأ له نكون قد شغّلنا ملكات ثلاث : البصر واللمس والإحساس الداخلي، هذه الأشياء الثلاثة تشكل أركان النص الشعري على أن هذا لا يعدم أن ينجر ركن عن الركنين الآخريين. من هنا يجد القارئ نفسه حذراً إزاء نسيج شعري ابتنى لنفسه علائق حسيةـ ذهنية قائمة على إيقاع مستتر مصدره أن حركة القصيدة تتجه إلى الداخل ولا تتجه إلى أو تمتد إلى الخارج، إنها تسعى لأن تختط لنفسها حركة دائرية تكون بؤرتها في منتصف القصيدة.

5
في دواوينه الأولى خاصة، يركز الشاعر على صفة جعل الأشياء لغة، (أشرنا إليها من قبل) أو جعل اللغة هي جسد الأشياء الناطق، ثم المزج بينهما عن طريق تآليف لا تشخص الصفات المفردة للأشياء بقدر ما تضمها في صفة مشتركة.
لا يعني هذا أن كل كلمات القصيدة أساسية أو أشياء حية، ولكنها كلها في القصيدة تصير هذا الشيء الأساسي أو الجذري الذي تفصح عنه، على القارئ أن يستشفه، أو يتبينه.
لقد أبرز هذا « التقعيد» الجديد للغة، ظاهرة تسمه، هي ظاهرة « الغموض في اللغة « أو ما يمكن تسميته بالمجاز.
في اللغة البدائية، كل شيء يبدأ من جديد، ويبدأ من المحسوسات وصولا إلى الأفكار أو المعاني الكلية. أي أنها تبدأ من الجزئيات المفردة، والأشياء البسيطة، ثم تربط بعضها إلى البعض في الصفات المشتركة. تحقيقاً لأنطولوجيا متكاملة، بدافع ما نسميه : حس الشاعر بالعالم، وبوحدته الشاملة، وحيويته الدافقة.
في قصيدة «وطن الأسرار» مثلا، نجد هذا واضحاً: يجلس الشاعر في مكان ما، ثم يراقب الأشياء: الشارع، حيث يشكل هذا الشارع شريحة من الحياة أو قلبها النابض. تبدو بسيطة في البداية ثم تنعقد باتساعها وبارتباطها بأشياء أخرى، وبأزمان وأفعال، ثم يأتي أخيرا : تحقيق الصفة التي تشرك الشاعر وتربطه بالشارع، الطريق المفلس، الخواء والإلغاء . وكل هذا يشكل في النهاية ظاهرة عامة هي: ظاهرة الشقاء التي تلف حياة الناس جميعاً . ولكن الشاعر لا يقدمها بصورتها المشاعية، بل بصورتها النمطية الخاصة به :
( كان الشارع مدهوناً
بمياه الفرح، وبالدهشة والحب.
والشارع، كان عجيباً ، بالدمع الساقط
من حبات القلب . … ). [ لنقرأ القصيدة كاملة ].

6
في قصائد فوزي كريم دهشة أشبه بدهشة الأطفال أمام العالم: «نتلمس رعشتنا» « نرتد دوائر مأخوذين بجاه الخوف» «ولهونا بأصابع غفلتنا عن سورة ماء». وفي قصائده حنين إلى بكارة الأشياء وبراءتها: « نتعثر في وهم براءتنا المنسية « وهيام أشبه بهيام المتصوفة لمعانقة ما هو أكثر جوهرية وسحراً:
«كنا نتأهب للسحر المخبوء وراء الساعة». «كيف يلامس نهراً من زيتون، نهراً من شرفات الروح ومن أبواب مفتوحة». قلما تنفتح قصائد شاعرنا على جزئيات الواقع العادية، وهو إذ يغترب عما هو زائف وغير أصيل، فإنه لا يتبنى رفضاً وجودياً مطلقاً ، إنما هو يعقد مصالحة ترتفع إلى مستوى العشق الصوفي مع ما هو جوهري وسري وبهيج، وهو عند ما يهرب من الزوايا الحادة، والنتوءات العرضية، فإنما ليلتجئ إلى عوالم أكثر سحراً ودهشة كما يفعل الكثير من الرمزيين.

7
إذا كان الشاعر في ديوانيه الأولين يقف على محور الأشياء يرقبها ويتأملها، فهو بدءاً من ديوانه الثالث «جنون من حجر» يخرق القشرة الخارجية للأشياء، ليصغي إلى إيقاعها، كما أنه يحاول أن يبصر خلال حلمه الطويل شعاعاً من أمل وعبر مشاعر الصداقة والحب طريقاً للخلاص. في معظم قصائد فوزي يتسرب صراع خفي، يتوزع أغلب قصائده الطموح والعجز عن تحقيقه، الرغبة في الإبحار وإرادة معطلة لا تستطيع إلا الإبحار داخل ذاته: «أقسمت أن تختفي في تضاريس أحلامك الموجعة».
لقد ظل الحس الفردي عالياً «صرت صبي التواريخ جاوزتهم».
كما ظلت فيه خيبات تتوالى وكواكب تنكفئ، وأشياء كثيرة تنتهي: (ما أنجبت غير طفل / تحدث في المهد عن كوكب سوف يأتي ليسقط / عن كوكب سوف يأتي ليسقط / عن كوكب / سوف يأتي ليسقط ثالثة في خطانا / ويهدأ فيها لنسقط عن كوكب… ).

8
إن بناء القصيدة لدى فوزي كريم قلما يتخذ شكلا مُحدداً، فهو في قصائده الأولى وأغلب قصائده المطولة قد اعتمد البناء المنفتح الذي يتدفق وفق موجاته النفسية، بينما تتخذ العديد من قصائده الأخرى شكل البناء الهرمي. تبدأ القصيدة في الغالب بحركة معينة، تتصاعد، تبلغ درجة التحول، ثم تستدير لتنتهي بحركة قد تكون لحظة تنوير كاشفة لحركة البداية أو مناقضة لها أو مؤكدة لما تريد أن تقول .
ولنأخذ قصيدة « تجاوز « كمثال في هذا المجال.
في هذه القصيدة يلخص فوزي موقفه من بناء القصيدة لا من حيث المعمار الجمالي فقط، بل من حيث التسلسل المنطقي الذي تسير الأشياء بمقتضاه، فهو يقدم لنا نموذجا في البناء الشعري من حيث الزمن، بناء يذكرنا بالوحدة الأرسطية (بداية ووسط ونهاية )، زمن القصيدة واضح. إنه يوجز فيها نظرته إلى العالم حسب تدرج الدلالة المنطقية التي تتوزع على ثلاثة مقاطع تشكل معمار القصيدة، وهو في هذه القصيدة يقدم خلاصة تجربته داخل الشعر وانتصار مواقفه على مشاعره.
يمثل المقطع الأول في القصيدة المقدمة التي تشبه الاستهلال القصصي، مقدمة تحتوي على إيماءات تشكل مفاتيح رئيسة لابد أن نقف عندها لكي نفهم المناخ العام للقصيدة ولنستقرئ في ما بعد ما يريد الشاعر أن يدلِّل عليه:
( لقد كنتَ وحدك ، والأرض دارتْ
فدُرتَ / وها أنت تسكنُهم، واحداً، واحداً).
يلي ذلك المقطع الثاني الذي يشكل مركز القصيدةـ كما أشرت في البداية، حيث تجد الشاعر قد تكشف أمامه حقيقة الأشياء فيمر بحالة من التجلي بعد أن أكسبته الحياة خبرة فيصير :
( صبي التواريخ … )
فالأرض لم تدر وإنه لم يسكنهم واحداً، واحداً، في هذا المقطع الذي يشكل الثالث والأخير في القصيدة يوصلنا الشاعر إلى الاستنتاج المحتوم:
( وما دارتِ الأرضُ/ لكنهم فاتحوك بها، فاستدَرْتَ،/
وها أنت تلعنهم واحداً … واحداً ).
ومثل هذا نلاحظه في قصائد أخرى مثل: «أوراق من خريف مفاجئ» «دوار العصور» «موت حسين مردان « إلخ … .
أما القصائد المطولة ذات المقاطع المتعددة فأغلبها يعتمد البناء المنفتح، لا تشد هذه المقاطع وحدة عضوية غير أنها في الغالب يشدها جو نفسي يكاد أن يكون واحداً.
فقصيدة ( مأوى لكل الظلال) مثلا، تنهي ما تريد أن تقول في الأبيات الأولى وما يتبقى فهي مجموعة من الأغاني والتداعيات .

9
إن استخدام ( الصورة المتناقضة) في الشعر ليس شيئا جديدا، إلا أنها عموماً كانت مقتصرة على بناء الصورة نفسها، لا على العديد من القصائد كما هو الحال عند شاعرنا فوزي كريم. كما أن استخدام مثل هذه الصورة راح يتخذ صوراً متعددة في شعرنا العربي المعاصر، ونتذكر جيداً صورة السياب في قصيدته ( غريب على الخليج) التي منح فيها للخليج صفات متناقضة في آن واحد ( يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى) ، كما أنها تبرز أحياناً في صورة « التحولات « التي تتخذها الأشياء في شعر أدونيس والبياتي مسألة البعث التموزي بعد الموت وما إليها .
إننا لا يمكن أن ننكر أن استخدامها عند فوزي كريم يكتسب قيمة جديدة غنية، باعتبارها تكون الجذر العاطفي للتجربة، وتستقطب عواطفه وعناصر الصراع عموماً. إلا أننا نحس أحياناً بأن بعض قصائده تعاني من إجهاد عقلي وصنعة وتخطيط ، نتيجة لهذا الالتزام الصارم بالبحث عن وحدة النقائض.
إن استخدام النقائض المترادفة ساد العديد من قصائده، فالموت والحياة يلتقيان في تجربة واحدة في قصيدة «أغنية للموت» وقصيدة «أغنية ثانية للموت». الحياة هنا باعتبارها تخطياً للموت، باعتبارها ميلاداً جديداً وكفاحاً مستمراً. فأمام ظاهرة الموت المجاني للأب، تستمر الحياة والكفاح والميلاد في شخصية الأم التي « تقاتل في المساء الزوايا» ، وتدفع ابنها الإنسان إلى معترك الحياة، والكفاح سيكون وجه التخطي الآخر للموت المجاني. الموت والحياة هنا يبرزان كمترادفين في تجربة واحدة :
( أبي مات ياسيدي في الظلال
وخلف الظلال تباركُ أمي الغصونُ).
وفي نفس اللحظة التي تتفجر فيها دموع الحزن من عيني وطنه يولد الأمل والفجر وبشائر النصر في صورة واحدة:
( آه ياصوتَ بلادي

**************

إن في دمعةٍ عينيك بشائر
وأغاني …).
فالأمل المتواصل عبر الخيبة المتواصلة لا يبرز كفكرة مجردة، أو كمدلول مطلق، بل يتجلى في هيئة (أشياء) لها وجود عيني محدد . فهو يتجلى في هيئة فارس يحمل في جنبيه الفجر والرؤيا والبعث كنبي يحمل البشارة، كما أنه قد يتقمص شخصية الفدائي في ( أغنية إلى فدائي) ، وهو يأتي كميلاد، وكنقيض للموت:
( أنت من جاءني، حين ماتت علامتنا
في الطريق
وكان بنا أثرٌ ثم غار) .
وقد يأتي الأمل في صورة نبي الحب الذي يحمل في خطوته البشارة في قصيدة ( حوار آخر الليل)، أو في عيون إله خشوع كما في ( الخبز والخسارة )، وتارة يتجلى في صورة الحب الذي يمنح العناق والضياع معاً، وهو «يزرع أعشاباً وسيفاً» كما في قصيدة (أغنية ثانية) .
إن هذا الأمل الذي يظل متجسداً عبر الأشياء، يظل ذلك ( الأمل المتواصل عبر الخيبة المتواصلة) .

10
لقد غدت متون شاعرنا فوزي كريم مختبراً فعالاً لتجريب وتوظيف مجموعة من الأساليب والتقنيات والصور والأشكال البالغة الغنى والتنوع . كما حققت بكل ذلك أكثر من قيمة فنية وموضوعية. لذلك سيكون من الصعب علينا في هذا المقام عدم الالتفات ، ولو بإيجاز شديد، إلى بعضها، وهي كالآتي:
سطوة الإيقاع التفعيلي على منجزه الشعري بشكل لافت أبان عن عنايته البالغة بهذا العنصر الجوهري، وذلك من خلال توظيفه للعديد من عناصره ومقوماته من أجل ضمان ثراء موسيقى لا في ما يخص التفاعيل فقط، بل حتى في ما يخص القافية ودورها الصوتي والدلالي والإيقاعي. لقد تفنَّن في تشكيلة هذه الروافد الإيقاعية عبر توظيفه لأنماطها المختلفة. أما التكرار بمختلف صوره فقد هيمن على معظم متونه إلى درجة أصبحت الإحاطة بمظاهره متعذرة في مثل هذا الحيز. كذلك اعتمد شاعرنا بشكل واضح على بعض أشكال التوازي وعلى عنصري التضمين والتدوير بنوعيه، الجزئي والكلِّي، إنه لم يترك أية إمكانية إيقاعية إلا وجربها.
على مستوى تشكلات هندسية النص التفعيلي، فإن فوزي كريم لم يستقر منجزه الشعري على نمط واحد عبر مراحله المختلفة. ذلك أن إدراكه الفني لشتى مسوغات وحوافز وضرورات تجاربه الشعرية المختلفة، هو الذي حدا به إلى الانفتاح على العديد من الأنماط والأشكال، بحيث يستطيع قارئ شعره أن يلمس قدرته على التجريب والمراوحة بين كتابة القصيدة الطويلة ذات المقاطع المتعددة التي تفصل بينها ببياض أو أرقام أو عناوين، أو بين قصائد متوسطة الطول يحاول الشاعر أن يسبغ عليها مزيداً من التركيز، أو بين شديدة القصر خالية من كل الشوائب والنتوءات ، أو القصيدةـ الديوان «قارات الأوبئة « بفصولها السبعة، وبعض الفصول يضم عدة قصائد.
التضمينات التراثية المبثوثة بمهارة وذكاء في ثنايا قصائده، وهذه التضمينات المستعملة تنتمي إلى أسلوب بنائي شديد الحداثة والتعقيد، وخاصة بالطريقة الناضجة الموفقة التي وظفها شاعرنا فوزي، حيث يقوم التضمين من خلال إشارات شديدة الإيجاز والثراء، قصيدة ( يازمان الوصل خذني)، على سبيل المثال، بخلق مفارقة فنية خصبة بين عالمين كاملين، عالم الواقع أو التجربة الشعرية، وعالم آخر موغل في القدم يستدعيه التضمين ليثري به تجربة الشاعر ويرهف إحساسنا بتفاصيلها، هناك العديد من قصائده التي وظفت شتى العناصر والشخصيات التراثية.
انفتاح الشاعر على العديد من العناصر الدرامية، نشير إلى بعضها فقط :
استخدام الأقنعة الفنية :
ديك الجن في قصيدة ( ديك الجن) .
قناع الأمير في قصيدة ( حكاية الجوع … عن الأمير) .
استخدام « الأداء البالادي ـ الحكائي « : قصائد ( الفارس ـ أغنية رابعة) (صورتان للفارس ) والمقاطع الأخيرة في قصيدة ( حوار آخر الليل).
انتهاج الأسلوب غير المباشر في الحوار: قصيدة ( قارئ مثلك يكفي شاعراً مثلي )
تقنية الحوار : قصيدة ( الراعي) .
قصيدة القناع القصيرة : قصيدة ( كان الجاحظ) .
قصيدة المشهد : قصيدة ( الغراب) و( صحبةُ بطرس).
انفتاح قصيدة القناع على فضاءات تتجاوز الفضاء الإنساني لتتوجه إلى استنطاق الحيوانات والجمادات.
قصيدة : ( شجرة الحلم) .
استفادته من « سيناريو « السينما في أسر لقطات ومناظر عابرة يدخلها بذكاء في نسيج بعض قصائده.
قصائد : ( وطن الأسرار ) و ( قراءة للوجه الآخر) .
القصيدة عند فوزي كريم هي على العموم غنائية بالغة الغنى تمتاز بالشفافية والعمق، حيث تختفي الدلالات عميقاً وراء مظاهر الكلمات والأشياء، وتمارس فاعليتها دونما مباشرة أو خطابية. يظل دوماً رقيقاً هامساً موحياً لا يسقط في الخطاب والأمر والمباشرة .


الكاتب : د. حسن الغُرفي

  

بتاريخ : 21/10/2022