(ونحن على بعد أسابيع من انعقاد الدورة الثانية والعشرين من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وفي انتظار التعرف على مضامين البرمجة الخاصة بالدورة الجديدة ، نستحضر بعضا من محطات الدورة السابقة الواحدة والعشرين ، خاصة ما يتعلق ببعض الأفلام التي شاركت في المسابقة الرسمية وتركت بصمة في ذاكرة المهرجان أو توجت بإحدى الجوائز التي منحتها لجنة التحكيم ،برئاسة المخرج الإيطالي لوكا غوادانينيو.
كان أول شريط عرض في المسابقة الرسمية للأفلام المشاركة ، هو الفيلم الصومالي « القرية المجاورة للجنة» للمخرج موها راوي، الذي توج بجائزة لجنة التحكيم .
وفيلم ”القرية المجاورة للجنة “ هو أول تجربة لهذا المخرج الشاب في جنس الفيلم الطويل، قدمه سنة 2024 بعد أن أخرج أفلاما قصيرة ، منها «الحائط» و»هوية» في 2015 و»لحظة أخيرة» في 2016 و»قصة الدب القطبي الذي أراد أن يذهب لإفريقيا» في 2018 وشريطي «1947» و « حياة على القرن» في 2020 ).
فيلم «القرية المجاورة للجنة» هو أول شريط سينمائي طويل يصور بطريقة احترافية في الصومال، وبالإضافة إلى عرضه في المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته الأخيرة وفوزه بجائزة لجنة التحكيم، عرض في مهرجان كان في إطار قسم «نظرة ما» سنة 2024، وهو أول فيلم صومالي يحظى بهذه المشاركة.
والجوائز التي حظي بها هذا المخرج الشاب، خريج ورشات الأطلس بمراكش، هي تتويج مستحق، بالنظر لما يتميز به الفيلم من قيمة سينمائية وإنسانية.
فإلى جانب جمالية بصرية، تتضمن قصة الفيلم دلالات ورسائل عميقة، كفيلة بجعل المشاهد يحس بفظاعة ما يقوم به المتلاعبون بالحياة البشرية والشعوب من أجل الربح المادي، بإغراق المجتمعات والأنظمة السياسية بالأسلحة وإيقاظ نعرات التفرقة والصراعات المذهبية والطائفية …وهو فيلم يسائل الجغرافية السياسية ويتضمن رسائل إنسانية وتفاصيل حياتية، لا يمكن أن تغفلها عين المشاهد وذكاؤه.
ومنذ عرض فيلم» القرية المجاورة للجنة» في القاعات السينمائية وفي المهرجانات العالمية، اعتبر النقاد السينمائيون والإعلاميون أن موهاراوي برهن في فيلمه الطويل الأول على «إتقان نادر وموهبة لا يمكن إنكارها»، و «أن الفيلم هو قصة حقيقية لصومالي يصور بلده من خلال سكانه وليس من خلال ما تبثه وسائل الإعلام عنه « و»أن الفيلم هو قصيدة للتضامن والمقاومة» و»فيلم حميمي اجتماعي لا يتجاهل الوضع السياسي في الصومال».
ومن جهته قال المخرج موهاراوي في حديث للصحافة عن فيلمه «القرية المجاورة للجنة» : «بالنسبة لي، الصومال هو حقا مكان على أبواب الجنة، هي جنة محتملة، ولكن لأسباب لا حصر لها ، هذه الإمكانية لا تتحقق».
تم تصوير فيلم «القرية المجاورة للجنة» في قرية بالصحراء الصومالية، ظروف العيش فيها صعبة بسبب الفقر والهشاشة وانعدام فرص العمل والخدمات العمومية والتجهيزات الأساسية، إضافة إلى الصعوبات المناخية حيث أن الرياح لا تتوقف حركتها ولاينخفض صوتها…وعن ذلك قال موهاراوي :» في الصومال نعيش مع الرياح، وذلك يؤثر على أذهاننا».
وفعلا، من يشاهد الفيلم يعاين كيف أن المخرج موهاراوي اشتغل بحرفية وحس إبداعي لا يخلو من التزام بقضايا مجتمعه، حيث يعكس هموم الناس البسطاء في تلك القرية، وينقل قضاياهم للعالم بشكل يظهرهم وهم يكابدون من أجل مسك زمام الأمور بأنفسهم…ويفصح المخرج عن كل ما يراوده عن بلده وما يجول في وجدانه، مستعملا لغة بصرية نابضة بالحياة، لتعكس عالما قاتما، لا تحول رمادية غباره دون تسلح أناسه بالأمل والحلم بغذ أفضل .
ومع هذا الأسلوب البصري للمخرج، فالمشاهد يمكن أن يتماهى مع القصة منذ الدقائق الأولى للشريط.
(قرية على أبواب الجنة. لكن ! )
يبدأ فيلم «القرية المجاورة للجنة» للمخرج الصومالي موهاراوي، بلقطات من إحدى استوديوهات تلفزة إنجليزية، تبث خبر هجوم نفذته طائرة مسيرة (درون) في إحدى المواقع في الصومال، لتعلق مقدمة الأخبار في البلاطو بالقول إن الهجوم استهدف أحد الزعماء الإسلاميين من «حركة الشباب». بعد لقطات سريعة يتحول المخرج من عالم الصور المبثوثة إعلاميا حول بلده الصومال إلى صور الواقع المعاش هناك من خلال الحياة اليومية في قرية اختارها كموقع للتصوير وسرد أحداث فيلمه الأول «القرية المجاورة للجنة»…
ساعتان وأربعة عشرة دقيقة هو زمن الفيلم الذي فتح نافذة على الواقع الحقيقي للحياة في تلك القرية الصومالية، وذلك من خلال مسار ثلاث شخصيات، شكلت هي والفضاء الذي تعيش فيه، علامات أيقونية لتعبير المخرج عن الرؤى التي يحملها عن بلده ويتوخى عرضها أو الإيحاء بها من خلال عناصر ومكونات السرد الفيلمي . فبعد أن افتتح المخرج موهاراوي فيلمه بمشهد بلاطو الأخبار التلفزية انتقل بالكاميرا إلى فضاء قاحل يتطاير فيه الغبار وتسمع فيه أصوات محركات جرافة وشاحنة وريح شديدة، لنبدأ في متابعة أحداث قصة الحياة في القرية … وكان الأمر في ذلك المشهد يتعلق بحفر القبر الذي ستدفن فيه ضحية الطائرة المسيرة . هناك نتعرف على الشخصية الأولى في القصة ؛ إنه مامارغاد (الممثل أحمد علي فرح ) الذي يؤدي دور الأب في أسرة متواضعة مقيمة في هذه «القرية المجاورة للجنة «. ومن خلال المشهد نعرف أن المهنة التي يمارسها مامارغاد هي حفر القبور …وسيخبرنا المخرج فيما بعد بحرف أخرى يمتهنها من أجل كسب قوت يومه في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها…
بعد هذا المشهد الصاخب، تنتقل الكاميرا إلى محل للخياطة لنتعرف على الشخصية الثانية في القصة؛ وهي أراويلو أخت مامارغاد(أناب أحمد إبراهيم ) .وخارج المحل يحضر الفضاء العام المفتوح والمليء بالصخب والجلبة والأصوات المزعجة، حيث يتنقل مامارغاد على متن شاحنة تشق طريقها في مسارات غير معبدة،يتطاير فيها الغبار الكثيف ويعلو فيها صوت المحرك بشكل كبير! ثم بعد هذا المسار تتحول الكاميرا إلى داخل المنزل المتواضع والهادئ لمامارغاد ليعرفنا المخرج بالشخصية الرئيسية الثالثة في قصة الفيلم ؛إنه الطفل سيغال (أحمد محمد سلبان) ، ومع سيغال سيأخذ السرد منحى متميزا.
(سيغال والغناء عن الفراشات )
أراد المخرج أن يجعل أبطال قصته وتجاربهم بمثابة مرآة لحال المجتمع الصومالي الذي يعاني الأمرين من جراء الفقر والهشاشة وتداعيات الحرب والعمليات الإرهابية.
ومن خلال المشهد الذي يظهر فيه الطفل سيغال، تفوق المخرج في التعبير الدرامي بالحواروالصمت والإضاءة وزوايا التصوير عن مايؤرق بال شخص في سنه في ظل ما يحيط به…فهو طفل ذكي له علاقة وطيدة مع والده مامارغاد الذي تبناه، وسنه لايتجاوز خمسة أشهر بعد وفاة أمه (جاما) في حادثة سير، جاما التي تزوجها وهي حامل نتيجة علاقة غير شرعية مع شخص تخلى عنها،ليكون مامارغاد هو الزوج المنقذ لها من نظرة المجتمع القدحية للأم العازبة …
قصة الطفل سيغال، وحدها حكاية ذات بعد درامي وإنساني؛ فهو لا يعلم بأن مامارغاد ليس والده البيولوجي، والمدرسة التي كان يدرس فيها في القرية أغلقت أبوابها بسبب انعدام الإمكانيات، والخربشات التي يرسمها على السبورة في الفصل لم يتمكن أبوه من فك شفرتها لأنها خطوط متشابكة ومعقدة ، يمكن اعتبارها بمثابة مرآة تعكس ما يجول في خاطر الطفل وما يراود ذهنه حول حياته وما يحيط به . ولم يكن ولوجه للتعليم في مدرسة بنظام داخلي في مكان بعيد عن القرية حيث يقطن والده، بالأمر الهين، فقد تسبب له ذلك في متاعب نفسية، لأنه كان يرفض ذلك الاختيار ومامارغاد جعله يقبل الأمر على مضض. إنه وجه من أوجه معاناة الطفل، ترجمها المخرج بلغته السينمائية بشكل متوازي مع الإفصاح عن الأحلام التي تراود سيغال، كالحلم بجنة الحلوى والغناء عن” الفراشات التي تطير“.
(خوف وفزع: خيط ناظم للسرد الفيلمي :» الإنجاب ليس منطقيا، أطفالنا لا مستقبل لهم في هذا البلد حيث الدرونات تحلق فوق رؤوسهم ويموتون صغارا «)
يعتمد المخرج في مشاهد متعددة علامات فنية، كزاوية التصوير والتأطير والإضاءة والتعبير بالكلام أو بالصمت، ليعكس طبيعة المشاعر التي تنتاب الطفل أو الأب والأفكار التي تراودهما، والتي تجسد الحالة النفسية المراد إبرازها وإضفاؤها على الجو العام للفيلم وعلى روح الكتابة السينمائية للقصة وجوهرها، كأحداث تقع في بلد يعرف حربا أهلية. فبعد عودته من المدرسة، كان سيغال ينتظر والده مامارغاد كل مساء ليتبادل معه أطراف الحديث ويحكي له كيف قضى يومه . وحين يسأل مامارغاد الطفل سيغال عن ماذا تعلموا ذلك اليوم في المدرسة، يكون الجواب هو أنهم تدربوا على طريقة الاحتماء من الطائرة المسيرة drone training بالاستلقاء على الأرض، بمجرد سماع صوتها، وأظهر له كيف علموهم ذلك، الأمر الذي تابعه مامارغاد بإمعان. إنها الحرب التي تفعل بهم ذلك… حتى الأطفال لا يسلمون من الفزع والخوف بسبب العمليات العسكرية. ومن ذلك يبدو أن هاجس الخوف والفزع هو خيط ناظم ورابط متضمن في السرد الفيلمي؛ فالموضوع يتخلل الحوارات والمواقف في محطات متعددة، حتى أن مامارغاد طبق فكرة الاستلقاء على الأرض في سياق آخر للأحداث، حين سمع هدير طائرة مسيرة .
ومن زاوية النظر المتعلقة بالطفولة، يتضمن السرد الدرامي مكونات تظهر حجم قساوة الحرب والعنف واللاأمن المرتبط بالحرب وأثرها على سيغال وتفرض حضور الموت كتيمة ضاغطة على الشخصيات، في الحوار والمواقف والمشاهد، وأحسن مثال على ذلك، اللقطة التي يظهر فيها الطفل سيغال وهو يلعب أمام قبر، حين رافق أباه لدفن جثة لإحدى ضحايا العمليات الإرهابية وهي شابة في عمر العشرين .
وبالموازاة مع لقطة سيغال، فأم الضحية المكلومة التي كانت حاضرة في نفس المكان، لتعاين عملية دفن فلذة كبدها، تعبر عن خوفها وفقدانها الثقة في الحاضر والمستقبل قائلة :» من غير المنطقي أن نلد أطفالا ، لأنه لا مستقبل لهم في هذا البلد حيث الطائرات المسيرة تحلق فوق المنطقة …»
(ثنائية الحياة والموت وسخرية الأقدار، التي تجعل مورد العيش من دفن الجثت)
يكون البطل مامارغاد في بحث دائم عن عمل يكسب منه ما يسد رمقه وما يوفر له تكاليف مخدر القات، فأحيانا يقوم بسياقة شاحنة لنقل ممنوعات أو بضائع لا يعرف محتواها، الأمر الذي أدى به إلى السجن في نهاية المطاف، بعد أن انكشف أمره حين كان ينقل أسلحة مهربة مخبأة مع قطيع للأغنام والماعز.
ولأن مهنته الأساسية هي حفر القبور، فوجهته غالبا ما تكون هي المستشفى ليستفسر عن مدى تسجيل وفاة ما. وتوقه للاشتغال يزداد حين يسمع أصوات الطائرات المسيرة وهي تحلق في سماء القرية ، فيتوقع حدوث عملية جديدة تسفر عن سقوط ضحايا…
لكن أمله سيخيب حين يخبره مسؤول في المستشفى أنهم تعاقدوا مع شركة لحفر القبور تستعمل الجرافات ، الأمر الذي علق عليه بالقول ممتعظا:»نهاية العالم! وهل قبل السكان ؟» . وسؤاله طبعا له ما يبرره في مجتمع تسوده تمثلات ومعتقدات حول موضوع الموت والدفن، فالأسر قد ترفض إيلاء هذه المهمة لشركة خاصة…وهو ما جعل أما لإحدى ضحايا العملية الإرهابية تكلفه بحفر قبر ابنتها في مكان مقفر لتكون حاضرة معها وتعاين طقوس الدفن بعيدا عن تدابير المستشفى والشركة الخاصة لدفن الأموات .
(أراويلو: قصة كفاح امرأة من أجل تحقيق حلم بسيط)
بقدر ما تكون الأحلام بسيطة في القرية المجاورة للجنة، تكون صعوبات تحقيقها كثيرة، وينطبق ذلك بوضوح على شخصية المرأة التي تكافح من أجل تحسين وضعها وتحقيق هدفها المتوخى من عملها والمتمثل في إنشاء محل للخياطة .
تسعى أراويلو أخت مامارغاد بكد لجمع مبلغ من المال يمكنها من اقتناء مكان خاص بمحل الخياطة …فإلى جانب اشتغالها كخياطة، فهي بائعة متجولة لنبات القات، ورغم مجهوداتها فإنها لاتتمكن من توفير المال اللازم لتحقيق رغبتها، خاصة وأن أخاها يسرق نقودها التي تخبئها بعناية في صندوق أخضر، ليقتني بها نبات القات ولتنتهي في جيوب بائعيه .
ولإيجاد حل لمشكلتها، ستلجأ أراويلو إلى طلب قرض من البنك، وهو الأمر الذي لم يكن هينا بالنسبة لها؛ فالمؤسسة تمنح القروض للأشخاص المتزوجين فقط، ما خيب أملها وجعلها في حيرة من أمرها لأنها مطلقة .
ولأنها امرأة حرة وقادرة على أخذ زمام أمرها بنفسها، بادرت بالطلب من إحدى زبنائها الذي كان مدينا لها بالمال بأن يتزوجها لتستكمل شروط الحصول على القرض المالي.
ملامح شخصية أراويلو وهي تواجه صعوبات الحياة تجلت في طريقة أدائها وتعبيراتها عن أحاسيسها الجوانية بنظرات هائمة وصمت بليغ وجفون لا تغمض حين تلجأ إلى سريرها ليلا لتنام . هي قليلة الكلام،
وحين تتحدث يقتصر قولها على جمل مقتضبة تحمل معنى ؛ تخاطب أخاها بنبرة فيها الكثير من اللوم والعتاب فتقول له : “كن صادقا ولو مرة واحدة ”. وبفضل قوتها الهادئة استطاعت أراويلو أن تحقق حلمها بفتح محل للخياطة ،وأن تجني ثمرة كفاحها من أجل الوجود والارتقاء لوضع أحسن .