فيلم «بينوكيو» مقتبس من الحكاية الأساسية للروائي الإيطالي كارلو كولودي (1826-1890) والتي تم اقتباسها في العديد من الأفلام بصيغ مختلفة، وكان آخرها نسخة المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو (58 عامًا). شارك مع ديل تورو في كتابة القصة والسيناريو كل من باتريك ماكهيل وماثيو روبينز، وشارك في الإخراج مع ديل تورو المخرج مارك غوستافون. مدة الفيلم 117 دقيقة وصدر في العام 2022، ومن تمثيل نخبة من الممثلين إيوان مكريغور (الصرصار كريكيت) وديفيد برادلي (العجوز غيبيتو) والطفل غريغوري مان (دوري كارلو وبينوكيو) وكريستوفر والتز (الكونت فولبي) وكايت بلانشيت (سبازاتورا).
صناعة الفن كشكل من أشكال التقدم الحضاري
خلف هذا العمل الفني الفريد هناك منظومة كبيرة تولت عملية الصناعة بكل ما فيها من جزئيات وتفاصيل دقيقة جدًا. مراحل إنتاج نسخة بينوكيو لغييرمو ديل تورو اتسمت بالخلق والابتكار والإبداع، ويتضح ذلك في الشريط الوثائقي المرافق للفيلم (مدته 37 دقيقة) والذي يضيء على جوانب خفية من صناعة العمل خلف الكواليس، وهي صناعة حرفية بامتياز مشغولة بالإبرة والخيط ومطرزة بتصميم فني عالي الجودة. مراقبة الشريط الوثائقي المصور إنما تحيل إلى إشكاليات وتساؤلات أبعد من مشاهدة الفيلم، فكما هو معلوم، المنتج النهائي الذي يقدم للجمهور لمشاهدته في الصالات لا يتضمن صعوبات الإنتاج وتحدياته وآلياته ومساره وطبيعته.
خلف فيلم «بينوكيو» هناك منظومة كبيرة تولت عملية الصناعة بكل ما فيها من جزئيات وتفاصيل دقيقة جدًا. مراحل إنتاج نسخة بينوكيو لغييرمو ديل تورو اتسمت بالخلق والابتكار والإبداع
الجمهور يستهلك المنتج تمامًا كما يستهلك قالب الحلوى أو أي منتج آخر دون الغوص في الجهد والوقت والطاقة وتكاليف الإنتاج التي رافقت صناعة قالب الحلوى. لكن في السينما الأمر مختلف تمامًا، فليس بالإمكان غض النظر عن الجهد الذي سبق عملية الإنتاج والتبخيس بهذا الجهد لما فيه من دلالات ذات أبعاد أخرى. على صعيد الصناعة بكونها مدخلًا إلى التطور، يمكن أخذ فيلم بينوكيو كمثال حول العقلية التي تحكم آليات الإنتاج والخلق والابداع والابتكار، وهي آليات تحيل إلى تفكيك وفهم للعقلية الفنية لصناع السينما ومقاربتها بصناع السينما في العالم العربي (مؤسسات وأفراد ولكن بالأخص المؤسسات).
فهل هناك خلق فني سينمائي في العالم العربي يوازي الحرفة المشغول بها فيلم بينوكيو لغييرمو ديل تورو؟! نحن إذًا إزاء صناعة تضم كل عناصر ومتطلبات الصناعة الرأسمالية الناجحة من التخطيط والتنظيم والعمل الفردي والجماعي والصبر إلى الإنتاج مرورًا بالابتكار والخلق والابداع وتطويع كل المقدرات البصرية والسمعية والحرفية والفنية في سبيل منتج نهائي جميل وممتع لاستهلاكه من قبل الجمهور. هنا تحمل الصناعة السينمائية صيغة للمقارنة تمامًا كما تفعل أي صناعة أخرى (صناعة الطائرات مثلًا)، مقارنة لا يمكن سوى أن تقارب المسألة بكونها ذات بعدين تطوري ورجعي أو متقدم ومتأخر. ومن هنا صارت الصناعة السينمائية أداة للقياس الاجتماعي والسياسي وليست مجرد سرد لقصة على الشاشة.
أحيل هنا إلى مثال أخر يبدو أكثر وضوحًا وهو فيلم أفاتار 2 للمخرج جيمس كاميرون. الجهد التقني في فيلم كاميرون بلغ ذروته إلى الحد الذي يدفع المشاهد للتساؤل: هل هذه سينما؟ لكن بعيدًا عن ماهيتها، تظل صناعة سينمائية وقد تخطت ما هو متوقع منها وسبقت غيرها من مؤسسات الإنتاج في العالم العربي. استغرق تبلور عملية إنتاج الفيلم 14 عامًا، حيث أن الفكرة طرحت في العام 2008 لكن تأخيرات كبيرة حصلت بسبب غياب التمويل حتى عام 2017 (35 مليون دولار تكلفة الإنتاج) ومن ثم فيروس كورونا في السنوات الماضية. يقول العجوز غيبيتو لإبنه كارلو: «كل الأمور الجيدة تتطلب الصبر»، وهذه الجملة خير معبر عن صبر المخرج وشغفه بصناعة نسخته الخاصة من بينوكيو.
بينوكيو بريشة غييرمو ديل تورو
يقولب ديل تورو منطق الحكاية في نسختها الأصلية للولوج إلى تعبيرات وتضمينات مغايرة وجديدة تبدأ من التضحية وفهم معنى الحياة، من خلال إدراك أهمية الموت كممر إجباري يعطي معنى للحياة، فبينوكيو ضحى بحياته في سبيل إنقاذ والده، والصرصار سيباستيان ضحى بأمنيته الوحيدة لقاء إعادة إحياء بينوكيو من الموت. إنها قصة تقدير كل ما هو بسيط في الحياة. تقدير الناس المحيطين بنا، تقدير اللحظات، تقدير السعادة التي نشعر بها مع من نحب. فلا الشهرة ولا الثروة يمكن أن تعوض اللحظات الجميلة التي يمنحنا إياها وجودنا مع من نحب. شخصيات الحكاية تسلك طريقها نحو فهم هذه المعادلة. يبدأ الفيلم بحبة صنوبر تسقط من شجرة ومن ثم تزرع في الأرض لتسقط بعد ذلك منها حبة صنوبر ممثلة بذلك دورة الحياة الأبدية: حتمية الخلق والموت.
كما ويطرح ديل تورو العلاقة بين الأهل والأطفال من زاوية تقبل الأخر كما هو بصفاته وهي فكرة قد تبدو متعارضة مع أسس التربية الحديثة لناحية أن التربية قد صار لها قواعد شبه علمية (ليس بالحب وحده تستقيم التربية بل بالحب وأشياء أخرى منها القواعد والأنظمة السلوكية). لكن لغييرمو ديل تورو رأي آخر، ففي عالم يحولنا إلى دمى متشابهة، يجب على كل فرد إيجاد طريقه الخاص وشخصيته الخاصة الفريدة، وفهم الحياة وتعلم العيش من خلال التجارب الخاصة لكل إنسان، وإيجاد الشخصية الخاصة يعني في كثير من الأحيان عدم الامتثال لمطالب الأهل، سيما وأن بعض الآباء أشرار يدفعون بأطفالهم دفعًا إلى ممارسة الشر كحمل السلاح والقتل والمشاركة في الحروب والتعصب والتطرف ونبذ الآخر المختلف.
وكذلك يختار ديل تورو سياقًا زمنيًا ومكانيًا للقصة يتحدد في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، ما يعطي للقصة بعدًا سياسيًا وقدرة لتوجيه النقد اللاذع. وكان ديل تورو قد صرح بأنه صنع الفيلم لنفسه وليس للأطفال، وهو تصريح لن يجعل من أنف ديل تورو يطول ويطول لأنه لم يكذب في ذلك، فالفيلم بقدر ما هو موجه للأطفال بقدر ما يحمل من تفكير وقضايا تمس الكبار. يختار ديل تورو مسارًا مختلفًا لبينوكيو واضعًا لمساته الخاصة وهو ما يظهر من تضمين إسم ديل تورو في عنوان الفيلم Guillermo del Toro’s Pinocchi. إنه بذلك نسخة بينوكيو الخاصة بغييرمو ديل تورو.
جوهرية السؤال وضرورته
الفيلم «توريطة» بالمعنى الإيجابي للكلمة. توجيه الفيلم لعمر 7 سنوات وما فوق يجعله يدخل في فئة أفلام الأطفال، لكن رسائله الواضحة والمباشرة تفتح الباب أمام سجالات وتساؤلات عدة: هل يجب أن يتغير الكبار من أجل تقبل الأطفال واحتواء سلوكياتهم المزعجة وشخصياتهم كما هي في كثير من الأحيان؟ وبدرجة أكبر: هل الكذب يمكن أن يكون مفيدًا في بعض الأحيان؟ وهل نقد الفكر الديني وطرح السؤال والتساؤل الديني أمر يجب أن يكون متاحًا لدى الأطفال؟
ينحو فيلم ديل تورو بعيدًا عن المعتاد في أفلام الأطفال، من ناحية تمجيد الأب والأم وعدم قول الأكاذيب وعدم المشاكسة وضرورة التقيد بالقوانين.. وغيرها من القيم التي يبثها المجتمع للأطفال خلال المسار التربوي!
الفيلم ورطة للكبار والصغار، ومما يبدو بأن فإن ديل تورو يسعى لتوريط الفكر عند الأطفال من حيث يعلم مدى جذرية تأثير الفكرة والمشهدية في تكوين وصياغة شخصية الطفل حين يكبر. هناك قيم تربوية علمانية وديمقراطية تنبعث دلالاتها من فيلم بينوكيو لغييرمو ديل تورو، قيم يقدمها ديل تورو بنكهة لاذعة بعض الشيء حيث يرفع لاءاته عاليًا: نعم لحرية التفكير والإبداع (النقد المسرحي الذي يقدمه بينوكيو على المسرح)، نعم للنقد والسؤال الديني (التساؤل حول قبول الناس لصليب المسيح الخشبي في مقابل نبذه لكونه مصنوعًا من الخشب وهي مفارقة تشكل دفعًا وتحفيزًا للتفكر في طرح المزيد من الأسئلة الفلسفية تباعًا لدى الأطفال)، لا للحرب (التي قتلت بينوكيو وتقتل الأطفال وتدمر حياة البشر)، لا للفاشية (الدكتاتورية والدكتاتور/موسوليني وتعسفهما في ممارسة السلطة لقتل الأخرين وخنق الأصوات المعارضة).