فيلم «كارديك».. الرغبة بتغيير العالم

0

في فيلم «Kardec» (يُعرض على نتفلكس) يتتبع المخرج البرازيلي فغنر دي أسس السيرة الذاتية للكاتب الأرواحي الفرنسي ليون ريفال، كما جاءت في المدونة التي سطرها مارسيل مايور، لينقل لنا التحولات الروحية لرجل طالما حلم بتغيير العالم، مرة عبر إيمانه العميق بالعلم كوسيلة لإماطة اللثام عن سحره المكنون، ومرة أخرى في القبض عليه عبر الإنصات لحركة الأرواح الأثيرية التي تهمين على كل أنمة فيه.
في المشاهد الأولى يظهر لنا ريفاي الذي مثل دوره باقتدار كرستيان بالتاوس، والذي سيعرف لاحقًا باسمه الجديد ألان كارديك، رجلًا عابثًا، مليئًا بالحيوية والشغب، أقرب إلى روح الفيلسوف الذي يصر على مقاربة العالم بدهشة طفل، «ركزوا على الأشياء المخفية في العالم»، المعرفة الحقيقية في العقل، بالأحرى في الشك الديكارتي، الذي يصارع من أجل تأكيد وجود الإنسان عبر الفكر الناقد «أنا أشك، أنا أفكر، إذا أنا موجود».
إذا كان هناك من ميزة إنسانية كبرى يتمتع بها السيد ريفاي في حياته المهنية فهي الشجاعة، فالشجاعة عنده صنو الحرية. إنها مدخل لتغيير العالم، فما الإنسان الحالم دون حرية؟ دون موقف من القهر المعرفي الذي يطالبه، في تلقين تلامذته معتقدات لا يؤمن بها، هو الذي أمضى حياته وهو يحاول إيقاظ الشك الفلسفي في نفوسهم. فحين يفرض عليه الاختيار بين ما يؤمن به وبين ما يعارضه بشدة، سينحاز للاستقالة الموقف، معللًا الأمر على النحو التالي «يجب أن لا يختلط الدين بالتعليم، يجب أن لا تفرض العقيدة على أحد، خاصة على أطفالنا الذين هم في قاعات الدرس. أين مبادئنا المعلنة عن الحرية والمساواة والإخاء؟».
كان إيمان كارديك بالعلم أقرب ما يكون لإيمان العجائز، حيث التسليم المطلق بقدرته القارة على الكشف والتعليل، ناهيك عن حماية المصير الوجودي للبشر. فحين سيطلب رأيه في اجتماع الجمعية الوطنية للعلوم بظاهرة الطاولات الدوراة التي تديرها الأرواح، سيعزي الأمر إلى يأس الناس من هذا العالم المظلم.
من كان يقول إن ريفاي الكافر بكل هذه الخزعبلات سيكون ضحية لها. بدا الأمر أشبه بلعبة، في بيت الوسيطة الروحية دو بلانميزون سيصطدم الرجل بالحقائق الشخصية التي سترويها السيدة عنه، عن قصيدة البارحة التي ألهبت بها غابي ذاكراته البعيدة عن الحب «يروق لي أن أرى النجوم باعتبارها ثقوبًا في ثنايا السماء، تسمح للضوء اللانهائي بأن يشع عبرها». وليت الأمر انتهى عند القصائد، حيث سيصطدم ريفاي بأن يتعرف على نفسه كـ»ألان كادريك»، في إحدى دورات حياته الغابرة.
ما كان لريفاي المسلح بالشك الفلسفي أن ينجذب لعالم الأرواح أو ندائها الغامض، لو لم يختبر الأمر بنفسه، ففيما هو يجدف ضدها، حدث فجأة أن انقلبت الأكواب على الطاولة. يجن ريفاي الشكاك، فيقصد كل وسيطة روحي سبق له أن عرفها لتشرح له الظاهرة. في زيارته للأختين كارولين وجولي يتلوان عليه ما سوف تتنبأ به الأرواح «سيكون هناك غزو منظم، سيتحدث الأموات لتغيير حياة الاحياء، مهمة المصلح، ملئية بالعقبات والأخطار. أحذرك أن مهمتك صعبة، سيخطط الاعداء لخسارتك. ستواجه الشر والافتراءات والخيانة، لا بد أنك ستواجه معركة دائمة على حساب راحتك، وصحتك وحياتك. تحياتي، روح الحقيقية».
بعد هذه الجلسة سيتحول ريفاري من الهازئ بالأرواح وعالمها إلى المدافع الصلب عنها، ليس على طريقة آباء الكنيسة، بل على منهج ديكارت كما يقول. سيجادل المنتحل كادريك بأن لعالم الأرواح منطقه الخاص، وأنه عليه اكتشافه. أول ما سيركز عليه فكرة الرب أو الله، فالله عنده ليس سوى العقل الكلي الأسمى، الذي يدير هذا العالم بقوة المنطق والحب معًا. إنه الذكاء الأسمى والسبب الرئيسي لكل الأشياء. إن معرفتنا بالله سوى تقودنا إلى كل ماهو خير، بل ستقودنا إلى تغيير ما في أنفسنا، الأمر الذي سيقود إلى تغيير العالم. فحيث يوجد الله سنوجد نحن، على شكل مراحل جسدية وروحية لانهاية لها، فإذا ما قدر لأجسدانا أو أقمصتنا أن تفنى فإن أرواحنا ستواصل حياتها من جسد لآخر، إلى أبد الدهر.
سيواجه كتاب «الأرواح» الذي بذل في سبيل إنجازه كل غالٍ ونفيس هجومًا لاذعًا من كل أحد يعرفه. فمن أصدقائه العلمانيين المتشككين إلى الوسطاء الروحانيين، ومن الصحفيين الساخرين، إلى القساوسة الغاضبين. ستأتيه الطعنة المفاجئة من الوسيطة الروحية جافنير، التي ستأخذ عليه إنكاره لجهودها، وتجاهله لاسمها. ستصفه بالجحود والنكران، فها هو يطلق قدميه للدخول في مسرح التاريخ ويتركها ترزح في زوايا النسيان. مع كل هجوم روحي يتعرض ريفاي، ستنهض غابي «ساندرا كورفيليوني» إلى جواره «ليس هذا الرجل الذي تزوجته، الرجل الذي قبل القيام بهذه المهمة، الذي وافق على أن يغير اسمه ويمضي بالكشف عن أسرار العالم».
في المشهد الذي جمعه مع كارولين، حيث في الخارج يتجمع الرعاع وهم يطالبون بإحراقها وأختها على طريقة القرون الوسطى، وحيث الحجارة الغاضبة لا تكف عن تحطيم نوافذ بيت عائلتها. سيطلق ريفاي صرخته الجريحة تجاه عالم متعصب ما زال يعتقد بإحادية المعرفة وصوابيتها المطلقة: «يومًا ما سيتوقف الناس عن إلقاء الحجارة على بعضهم البعض بسبب الدين أو المعتقد».
في المواجهة التي جمعت ريفاي والأب بودان، يأخذنا المخرج وشريكه في كتابة السيناريو بييو، لنعاين بصريا العنف الأعمى المتولد عن رغبة بودان الكاسحة باحتكاره للخلاص داخل الكنيسة. إن كل عقيدة مخالفة لعقيدته المسيحية كفر. ويا لها من هرقطة ستوجب على صاحبها النار. يدير بودان خده لمزاعم ريفاي عن اكتشافه لروح الله أو الاقتراب من كنهها. فكل مقاربة لها خارج المفهوم الكنسي باطلة. فكل إنسان خارج الكنسية ما هو إلا نكرة. ففيما يخرج ريفاي بايمانه الروحي الجديد على الكنيسة، يسلبها ميزتها الحصرية باحتكار الخلاص ويجعله ملكًا لله وحده. فمع عقيدة التناسخ لم يعد هناك من خلاص يرتجى داخلها. فلقد صار ملك الله فهو الضامن، وهو الحامي وهو مانح الخلاص.
مع ورد الأخبار عن حرق كتبه في برشلونة، وإعلانه مهرقطًا، تسوء أحوال ريفاي، يسقط في لجة اليأس، فتنتشله غابي الساحرة من بؤسه من جديد، تسلمه رسالة عزاء من جافير: «دعهم يحرقونها، لا توجد من دعاية للكتب أفضل من ذلك. ستخمد النيران، أما الفكر فسيبقى خالدًا، جزءًا من روح الحقيقة التي لا تزول».
امتلك الفليم صورة بصرية خاصة به، فلقد عني عناية خاصة بجماليات الضوء والعتمة، ففي جميع الأمكنة المغلقة، كنا أمام مزيج باهر من العتمة والنور، وكأن الرجل يحرص علينا أشد الحرص لمعايشة ريفاي في تجربته الروحية. على مدى ساعتين تقريبًا تناوبت الظلال والموسيقى على حواسنا لتبقينا يقضيين. فكلما خبا ضوء الشموع اشتعلت الموسيقى، فمن العزف الساحر للبيانو في خلفية الأحداث، إلى الحضور الشاعري للحوار. لم يكن الممثلون يتحاورون بقدر ما كانوا تبارون في إلقاء الشعر. لقد كان كل منهم يسلمنا إلى سلالم الإسبانية، التي لا تتوقف عن الصعود والهبوط إلى قرارة نفوسنا: «لم نولد مدانيين في عد تنازلنا الأبدي نحو الهاوية، ها نحن ذا نولد ونتجدد مثل نار أثيرية. هو هاذا القانون الإلهي يرفعنا، يعلمنا كيف نَغفر، ويُغفر لنا، كيف نَحب ونُحب إلى أبد الآبدين».


الكاتب : مصلح مصلح

  

بتاريخ : 24/10/2020