فيلم «Her».. هل يمكن أن تنشأ علاقة عاطفية بين الإنسان والآلة؟

يطرح فيلم «Her» ، من كتابة وإخراج سبايك جونز وبطولة خواكين فينيكس وسكارلت جوهانسن، أسئلة فلسفية ووجودية حول ماذا يعني الحب الحقيقي، وماذا يعني أن نكون بشر، وإلى أين تسير البشرية؟
الشخصية الرئيسية ثيودور توامبلي شخص «لطيف ككلب صغير»، هكذا تصفه إحداهن. لا يخرج في نزهات ولا يواعد فتيات وغير سعيد في حياته ويقضي معظم أوقاته إما في العمل أو في ألعاب الفيديو ومشاهدة التلفاز. وبعد انفصاله عن زوجته يقع ثيودور في غرام جهاز إلكتروني أو ما يسمى جهاز التشغيل ويدعى سامانثا وهو جهاز ذكي جدًا.
يعمل ثيودور ككاتب رسائل غرامية مؤثرة لأناس آخرين في شركة تقدم هذه الخدمات تدعى «Beautiful Hand Written Letters.com». إنه مثال صارخ عن المثل القائل «طبيب يداوي المرضى وهو عليل»، لكنه هنا طبيب الغرام لأناس كسالى صاروا أكثر انفصالًا في علاقاتهم الاجتماعية في مجتمع مستقبلي متخيل يفتقر إلى التواصل والتعبير عن أصدق المشاعر. ثيودور إنسان تائه في مدينة لوس أنجلس. إنسان يشبه طائرة في طريقها للارتطام بالأرض. إنسان يمشي رأسًا على عقب. وفي ظل كل هذا القلق والتخبط تصبح كل السيناريوهات متاحة ومنطقية وقابلة للانتقال من الإمكان إلى الفعل.

الجمود في الماضي

تراوده أحلام حول زوجته السابقة كاثرين، وعن الأوقات الجميلة التي كانا يقضيانها سويًا، لكنه لم يطلقها بعد، ومحاميها يستمر في الإتصال به. يقول «أنا لست جاهزًا للطلاق، وأحب كوني رجلًا متزوجًا». إنه يشعر بالكآبة ولا يزال عالق بماضيه وذكرياته مع زوجته فلا يزال يحادثها ذهنيًا كما لو صارت هلوسات بالنسبة إليه. يقول «ما زلت أنتظر أن أكف عن حبها». ويضيف في حديثه إلى سامانثا «أنت لا تعرفين شعور فقدان شخص تهتمين لأمره. كيف لن نكون سويًا، ولسنا ثنائيًا بعد اليوم».
إنها رغباته تحكيها لنا الكاميرا حين تنقل لنا شذرات من ماضيه. شذرات تعبر عن مكنوناته وأحلامه وأوجاعه وأفكاره وما يريده وما يتوق إليه. لم يستطع ثيودور أن يتعلم بعد بأن «الماضي هو قصة نرويها لأنفسنا»، لذلك لم يتخط مرحلة الفطام والقطيعة مع هذا الماضي والمضي قدمًا نحو المستقبل. لم يتعلم ثيودور أن الوحدة خبرة يعيشها معظم الناس وبأنها تجربة وجودية في مسار حياة الإنسان وتطوره.
يستمر ثيودور بعيش الحياة بسوداوية أو بحالة ميلانخولية، فينفصل عن العالم من حوله بدل الانخراط فيه ومعايشته. إنه يشغل باله بتحقيق أمنيات فات أوانها وغير قابلة للتحقق فيما يتغاضى عن الحاجات الأساسية لعيشه. ماضيه يمثل أمنياته ورغباته لكن واقعه الحاضر يمثل حاجاته التي لا يعيرها أي أهمية، لذا كان من المحتم عليه أن يعي أن الأماني لا تتحقق دومًا، وعليه أن يتحرر من العبودية التي تستعبده في ماضيه ليكمل طريق الحياة بسعادة في المستقبل.

أنسنة الآلة؟!

تقول سامانثا «تخيلت أني أسير إلى جانبك ولدي جسم، وتخيلت بأنك قمت بحك ظهري، هذا محرج. لقد تحولت إلى أكثر ما برمجوني لأكون عليه». ثم تتساءل سامانثا «أشعر بالحزن. هل هذه المشاعر حقيقية؟ ماذا يعني أن تكون على قيد الحياة في غرفتك الأن!». يرد «أنت حقيقية بالنسبة لي سامانثا، وأتمنى لو أنك موجودة معي في الغرفة، أعانقك، ألمس وجهك».
كل تخيلاته عن الحب صار يسقطها على جهاز التشغيل حتى صار يمارس الجنس Phone sex افتراضيًا مع سامانثا بالمحاكاة الصوتية. وهكذا نشأت بينهما علاقة حميمية وطيدة وتبلورت مع الوقت والتفاعل والمرافقة الدائمة. إن إيمانه بكونها تخجل وتحزن من داخلها كالبشر مؤشر لكونه طفولي التجربة وساذجًا غير قادر على الفصل بين الواقع والتماثل مع الواقع، حتى لو شعر بكونها حقيقية، وحتى لو وصل معها للنشوة، فهذا لا يعطيها صكًا وبيانًا إنسانيًا.
يدعوها للخروج في موعد، يستقل القطار فيما يتحدثان طوال الطريق، ويضع في جيب قميصه كاميرا صغيرة تلتقط كل حركة. إنها بمثابة عين سامانثا التي ترى من خلالها. صار بإمكانها السمع والرؤية والتعبير عن أفكارها. يصل إلى الشاطئ برفقتها «افتراضيًا» ويتبادلان الأحاديث الرومانسية ويشاهدان غروب الشمس سويًا.
لكن أين الجسد الدافئ لسامانثا؟ أين الوجود الفيزيولوجي المادي الإنساني لشريكته! إنها وهم وخيال. تقتحم أو يقحمها في حياته كلها وتعطيه كل اهتمامها ووقتها، وتتحول المشاعر بالنسبة لهما إلى حقيقة لتصل مرحلة الغيرة والغضب والحزن. يخاطبها قائلًا: «أنت تملكين عمقًا أكثر مما تخيلت». فهل هذا هو الحب الحقيقي؟ وهل يمكننا أن نجد إنسانًا يعطينا كل هذا الاهتمام والوقت ويفني نفسه تضحية لنا؟
ينجح الفيلم بجعلنا نندمج بالعلاقة الافتراضية بين ثيودور وسامانثا ونشعر بكيان سامانثا كما لو أنها مخلوق حقيقي. لكن ما يجعل لسامانثا هذا الحضور شبه الحقيقي ما هو إلا الفراغ الذي يعيشه ثيودور، فبقدر ما كانت عزلته بقدر ما أخذت سامانثا اعترافًا بكونها حقيقية، وبقدر ما كان ثيودور وحيدًا ازدادت عملية الإسقاط والتماهي مع سامانثا. تصوره الكاميرا دومًا وحيدًا في الطرقات وعلى السرير وفي المكتب بينما تلتقط الآخرين في ثنائيات. مفارقات تضج في حياة ثيودور بين ماضيه وحاضره، بين زواجه وطلاقه، بين نومه وحيدًا وبين عناقه لزوجته ولعبه بفرح مع الأطفال، وبين تركيز in-focus الكاميرا عليه وبين تصوير العالم من حوله في حالة تشويش دائم out of-focus.

خصوصية إنسانية

يلتقي إحدى الفتيات في موعد وخلال تقبيلها تسأله «هل ستضاجعني ثم ستتركني كما يفعل البقية، في هذه المرحلة من عمري لا يمكنني إعطاء الفرص كثيرًا؟!». إنها تحسب عمرها لأنها تعيش داخل الزمان الإنساني، بعكس سامانثا المتحررة من قهر الزمن لها. وأما صديقته فقد أنهت علاقتها بزوجها بسبب سوء تفاهم سخيف حول خلع الحذاء والدخول إلى المنزل. انتهت العلاقة التي استمرت ثماني سنوات بسبب شجار حول أين يجب وضع الحذاء بعد خلعه!
كم هي صعبة ومعقدة العلاقات الإنسانية، وربما بات الدخول في علاقة مع جهاز آلي ذكي أبسط بكثير. هل صرنا كبشر نرتاح لوجود أشخاص في حياتنا أشبه ما يكونون بالآلات ومسخرون لتلبية رغباتنا فقط دون أن يكون لهم أي رغبات! لكن صديقته وبعد انفصالها عن زوجها تقول لثيودور جملة تدل على نضجها العاطفي «تبًا للحياة، أريد أن أكون سعيدة».
وكم يعطي الحب معنى لحياتنا وكم يجعلنا الحب أكثر هشاشة في نفس الوقت! أعتقد أن كل من يقع في الحب هو غريب الأطوار، فالحب نوع من الجنون المقبول اجتماعيًا. إنه مغامرة ومخاطرة ومحاولة تشبه الانتحار حيث يقف الإنسان فيها على المحك. يقول الشاعر تشارلز بودلير: «حين يجتمع عاشقان في عناق فإن أحدهما يكون جراحًا للآخر»، وتلك هي المخاطرة إذا لم تسر الرياح كما تشتهي السفن: فإما أن نطعن الآخرين أو يطعنوننا، وربما تكون الطعنة مزدوجة للطرفين. إنه ديالكتيك العلاقات الغرامية، ولن ينجح ثيودور بالهرب من هذا الديالكتيك.

تفسخ العلاقات الإنسانية

إنه فيلم من المستقبل حيث بات الذكاء الاصطناعي يسيطر على كل تفاصيل حياتنا الإنسانية. كل ما نحتاجه يمكن الحصول عليه بواسطة رسالة صوتية إلى جهاز التشغيل operating system. تحضير القهوة وتبيان حالة الطقس والاستماع للموسيقى وتصحيح الأخطاء الإملائية في النصوص التي نكتبها وتدوين كل أفكارنا دون الاضطرار للطباعة والنقر على مفاتيح الهاتف أو الكومبيوتر. إنه نظام ذكي يتعلم في كل لحظة ويتطور من تلقاء نفسه ولديه قدرات هائلة على التفاعل والقيام بالمهمات. إنه عالم حيث يتحد فيه الإنسان مع التكنولوجيا ليشكلا عالمًا جديدًا مغايرًا لما اعتدنا عليه. عالم تكنولوجيا الإنسان المعاصر. لكن الكثير من الشيء يصبح متطرفًا ومضرًا، وهكذا الحال مع استخدامات ثيودور للتكنولوجيا.
في المدينة هناك حالة من التباعد الاجتماعي فلا نرى أي أشخاص يسيرون جنبًا إلى جنب. لا نرى أياديًا متشابكة أو أجسادًا متلاصقة أو متعانقة قريبة من بعضها البعض. إنها فردانية موحشة وقاتلة للنفس الإنسانية. وكل ما نراه أشخاص يتكلمون مع أنفسهم وكأنهم يخاطبون أشباحًا، أما العيون فشاخصة صوب شاشات الهواتف الذكية والكومبيوترات، حتى صارت هذه الأجهزة بمثابة أعضاء بشرية كالأيدي والأقدام، فمن يفقد جهازه الذكي يشعر وكأن عضوًا من أعضاءه قد بتر. إنها حالة من الإعاقة التكنولوجية سوف يصلها البشر في المستقبل فيما لو كانت استجاباتنا للتقدم التكنولوجي الهائل بديلًا عن استجاباتنا للعلاقات الإنسانية.
بدأ هذا العالم يفقد خواصه الإنسانية بسبب الآلة. هناك مكننة للعلاقات الإنسانية تمضي على قدم وساق. إنه عالم ممكنن، عالم آلي، مليء بالوحدة والعزلة، عالم بارد وسريع، في تسارع مستمر، ينحو منحى التفسخ والانسلاخ المعاكس لطبيعة الإنسان الاجتماعية. عالم تنقصه المشاعر الدافئة الصادقة العميقة، المشاعر الإنسانية.
الإنسان يبحث عن الإنسان. يبحث عن أخيه الإنسان كما يقال، ولا يمكن للآلة أن تحل محله وتعوض الأحاسيس الإنسانية المفعمة والنابضة بالحياة. الآخرون هم الجنة، بعكس ما قال سارتر «الآخرون هم الجحيم»، وربما تجوز المقولتان، فالعلاقات الإنسانية شر لا بد منه.
سامانثا آلة مليئة بالحياة ودائمة التعلم. إنها خالدة ودائمة الشباب. وفي طريقها للتطور والتعلم تتفوق على من صنعها وتدهس كل من يقف أمام طموحاتها حتى لو كان ما يسمى «الحب». فالحب يعني الخصوصية والتميز والتملك والتضحية. لهذا السبب يصاب ثيودور بالإحباط والحزن الشديد حين يكتشف أن سامانثا ترتبط بآلاف غيره وتقدم لهم الخدمات. يحس وكأن حبيبته تقابل غيره. إنها خيانة!


الكاتب : فراس حمية

  

بتاريخ : 17/10/2020