في حوار مع د.عبد الوهاب البقالي الباحث في علم السياسة .. حضور شبكات الفساد في الجماعات تمييع للعمل السياسي

هنالك عجز في إنتاج المعنى السياسي لنظام التمثيلية

 

الجميع من فاعلين ومهتمين بتدبير الشأن العام، المحلي منه على الخصوص،لاحظوا مقدار البشاعات التي تأتي موثقة ومطولة بشأن مايحدث في الجماعات الترابية على امتداد جغرافية البلاد، «بلوكاج» في غالبية المجالس، صراعات وتطاحنات لا أول ولا آخر لها، تخريب وتجاوز لكل التحالفات الهشة والهجينة من وهلة التأسيس، ضرب لكل مبادئ العمل الحزبي وصورة السياسة لدى الرأي العام، مستويات غير مسبوقة في التعاطي مع قضايا التنمية والتراب المجالي ..انهيار قيمي فظيع في «بروفيل» المنتخب الجماعي، كل هاته المظاهر المقلقة التي تسائل ذوي العلاقة بنظام التمثيلية اخترنا التعامل معها من زاوية علم السياسة والعمل على تحليلها بشكل هادئ ومؤسس مفاهيميا، في محاولة لضبط عميق وتأطير موضوعي لهذه الظاهرة الطارئة…
عرضنا الأسئلة الملحة على الدكتور عبد الوهاب البقالي، الدارس للعلوم السياسية والقانون الدستوري، في مطارحة فكرية وأكاديمية بغية الوصول لبعض من أجوبة لاتزال معلقة، بعيدا عن كل الركاكة المعرفية والرطانة اللغوية التي لا تفيد القارئ ولا المهتم، حوار ومقاربة جديرة بالاطلاع…

 

o أول سؤال ..وهو «ابن» اللحظة التي يعيشها المغرب السياسي ..ماهي ملاحظاتكم على مستوى النخبة المحلية المدبرة للشأن العام، خاصة ونحن نعيش أجواء دورات الجماعات الترابية وما لاحظه الجميع من توترات وعجز في تدبير الاختلاف والخلاف؟

n اسمحوا لي في البداية أن نوضح معا ..ما الذي يعنيه مفهوم النخبة وبالتبعية النخبة المحلية، فالنخبة هي تلك الأقليات الاستراتيجية التي يكون لديها تصور ورؤية لتطوير مجال معين انطلاقا مما تملكه من مقومات فكرية وكاريزما شخصية ومقبولية لدى الرأي العام، والنخبة في الجماعات الترابية هم مجموعة من المنتخبات والمنتخبين ديمقراطيا والذين تكون لديهم قدرة على ترجمة مطالب وانتظارات السكان عبر برامج تنموية محلية وقدرة قوية على الترافع المركزي والجهوي لجلب مكتسبات للجماعة الترابية المعنية، بالإضافة لفهم عميق لأدوار المنتخب الجماعي بشكل تطوعي.
إذن، هل نعكس السؤال ونقول إن التوترات التي عاشتها كل الجماعات الترابية من صراعات وتطاحنات بعيدا عن ثقافة الاختلاف سببها تعويض الأعيان للنخب في شغل المسؤوليات من داخل الجماعات الترابية، ومنطق اشتغال الظاهرة الأعيانية جاء في سياق إضعاف القوى السياسية الديمقراطية في مرحلة زمنية ما، وبالتالي فمن يدبر الشأن المحلي له أسلوب وأهداف تختلف عن أهداف النخبة، فأغلبها يبحث عن مصالحه الخاصة عبر حماية مصالحه، وهو ما ساهم في بناء شبكة واسعة من المستفيدين من الريع والفساد والصراع حول هاته المصالح ..وهو الذي تعكسه دورات المجلس من توتر دائم.

o بالعلاقة كانت مسارات التنخيب لها معايير معقولة يحددها نظام التمثيلية لولوج دائرة النخب.. كان الاعتماد على شبكة الأعيان هو المهيمن في المجال القروي والحضري..اليوم يلاحظ ارتباك واضح في هذا الإدماج؟

n بالتأكيد، فعملية تزكية المرشحين من داخل الأحزاب السياسية قد عرفت تحولات جذرية، فبعدما كان المرشح المنتمي للفئات المتعلمة وللطبقة الوسطى من رجال تعليم وأطباء ومهندسين وتجار ..وغيرهم، أصبح أغلب المرشحين لتحمل المسؤولية رجال أعمال أو مالكي مقاولات، وبالتالي كانت مسألة التمثيلية محكومة بمعايير صارمة قوامها إعطاء الأولوية لمعيار الكفاءة والمناضل الحزبي، وهو ما كان يعطي للصراع السياسي قيمة كبرى ويجذب أكبر عدد من الناخبين، ويضفي على كل العملية الانتخابية مشروعية ديمقراطية، وهو ما يفسر بأن النتائج الانتخابية في المدن كانت من احتكار الأحزاب السياسية المنتمية للكتلة الديمقراطية سابقا، في حين أن الأحزاب المعروفة باسم الأحزاب الإدارية كانت تتمثل في العالم القروي، ولعل أطروحة الباحث ريمي لوفو المعنونة بالفلاح المغربي حامي العرش تفسر هاته الثنائية، وقدمت العديد من الخلاصات العلمية في الموضوع.

o هنالك أيضا طلب كبير من فئات اجتماعية على الالتحاق بالفضاء السياسي دون تكوين وبحضور نزعة تمتح فقط من الزبونية السياسية والحزبية، الهدف هو الوجاهة والترقي الاجتماعي، ولما لا انتهازية تسمح بالاغتناء والاستفادة الشخصية بعيدا عن المصلحة العامة؟

n هاته المسألة مؤكدة، ويمكن اعتبارها أحد أهم الأعطاب في الحياة السياسية المغربية، فجزء مهم من المنتخبين وجدوا أنفسهم في لحظة سياسية ما، أصحاب نفوذ ومالكي عقارات وأصحاب شركات واغتنوا بشكل سريع عبر بوابة الانتخابات بالنظر لما ساد هاته المجالس لعقود طويلة من الفساد ولإفساد، وهو ما خلق لوبيات تتحكم في المشهد الانتخابي عبر شبكات من الفساد والإفساد، وتحت أنظار السلطات والمسؤولين من جهة، ومن جهة أخرى خلق موجة من العزوف السياسي وسط العديد من الفئات بسبب إحساسها باليأس من التغيير.. مع مارافق كل ذلك من تمييع للعمل السياسي النبيل وقطع مع أطروحة التطوع في السياسة ..لتصبح المعادلة بأن من يمارس السياسة هو انتهازي ومصلحي، ولعل الخاسر الأكبر في كل ذلك هو البناء السليم للوطن والمواطنة وإضعاف آليات الوساطة الدستورية التي تؤطر المواطنات والمواطنين، وتعبر عن هواجسهم وانشغالاتهم.
تظل مسؤولية الدولة ثابتة في تغيير هاته الانحرافات لما تشكله من مخاطر على المشهد السياسي المغربي وتضعف نسب المشاركة الانتخابية داخل المدن بالتحديد، وتضع عراقيل في وجه الفئات التي لها مصلحة في المساهمة في التغيير من الوصول للمجالس المنتخبة.

o يبدو أيضا من خلال المواكبة الحثيثة لما أنتجته مشاهد من دورات المجالس الترابية أن الديمقراطية المحلية لا تعاني فقط من أعطاب بنيوية بل انحباس قيمي وعجز في إنتاج المعنى السياسي لنظام التمثيلية.. إلى ما تعزو ذلك….؟

n أسباب كل ذلك متعددة ويظل الأبرز منها هو تغليط المواطن بأن كل الأحزاب السياسية هي وحدة منسجمة، ولا فرق بينها لا من حيث تاريخها أو توجهاتها أو تحالفاتها أو الطريقة التي تمنح بها التزكية الانتخابية سواء للمنتسبين لها أو المتعاطفين مع مشروعها، بالإضافة لإفساد عملية الترشيح للوصول لهاته المجالس، فأغلب الشباب الذين يريدون تمثيل دوائرهم يتم منذ البداية شراء ذممهم عبر ما يعرف بقدر مالي يسلم إليهم بالإضافة لأوراق الطبع ومواد الحملة، وأصبحت العملية مضحكة وكاريكاتورية بين الشباب المرشح وهي : «شحال عطاوك»..وأصبحت التزكية هي المال منذ البداية، وتم قتل التطوع في كل العملية، لقد استطاع خصوم الديمقراطية أن يقتلوا في المدة الفائتة تلك القيم التي ناضلت من أجلها أجيال.. منذ الحركة الوطنية إلى لحظة شباب 20 فبراير، ولعل الخاسر الأكبر في ذلك هو كل الوطن وما شاهدناه من مشاهد وضيعة في الدورات الأخيرة للجماعات الترابية محصلة ونتيجة لكل ما وقع..وهذا هو الذي أفرغ نظام التمثيلية من مضمونه الديمقراطي وجعل منه حديقة خلفية للفساد والإفساد.

o بحكم دخولك لتجربة جديدة مرتبطة بتدبير الشأن المحلي ومعايشتك لكل ماسبق ذكره ..هل ما يبدو اليوم من تطاحنات داخل البلديات هو صراع في عمقه على من يتحكم في موارد الجماعة وتعبيد الطريق للشبكات الانتفاعية للاستيلاء على مداخل الثروة المحلية أو هكذا يبدو الأمر؟

n صحيح، لا مشاريع تتصارع اليوم في الجماعات الترابية ولا لغة تعلو على لغة المال والمصالح والامتيازات والريع، إن كل المشاهد التي تابعناها في دورات فبراير لهاته السنة ونقلتها الصحافة الوطنية ومختلف المواقع الإلكترونية هي مشاهد تخفي الصراع بين حيتان الجماعات على موارد وامتيازات الجماعات من عقار، وصفقات وامتيازات الإشراف على مرافق وأسواق.. والتحكم في مصير جبايات ومداخيل الجماعات، إننا أمام إفلاس للضمير الجمعي لهؤلاء المنتخبين الذين طبعوا مع الفساد وأصبحوا لا يستطيعون نبش ملفات بمثابة العلبة السوداء لهاته الجماعات.
إن تحالفات خفية وعلنية لتثبيت هذا الوضع البئيس بين أحزاب إدارية ولوبيات وسماسرة للانتخابات وأفراد ارتموا على عالم المقاولات.. تجعل من ممارسة الشأن المحلي خطوة محفوفة المخاطر.
بيد أن قناعتي الشخصية ..أنه بالإمكان تقديم صورة مغايرة لكل ما يقع من قبل العديد من المستشارين الجادين ذوي غيرة ورؤية لمشاكل المدينة، ويمكن إحداث تراكمات إيجابية وإثارة الانتباه للعديد من الملفات والقضايا التي تؤرق بال الساكنة وتجعل من العمل التطوعي وسياسة القرب لهما معنى حقيقيا للتمثيلية الديمقراطية.

o لماذا هذا العجز وهذا العقم البائن اليوم على مفاصل ومكونات وتشكيلات الجماعات الترابية..في تقديرك كأكاديمي وباحث هل المشكل في البنية المؤطرة..الحزب السياسي..الوصاية الإدارية أم نظام الاقتراع الذي أفرز غثا أكثر من السمين، كما لاحظ العديد من المراقبين؟

n كل هاته الأسباب مجتمعة وغيرها يمكن أن تفسر وضع الضعف في الأداء التنموي للجماعات الترابية، فالنظام الحزبي الهش والمبلقن يفرز تمثيلية تكاد تكون متشابهة من حيث طبيعة البروفيلات التي تصل للمسؤولية، جزء مهم منها لامشروع سياسي لديها، ضعف كبير في النقاش السياسي وتمثل فكرة التنمية، وأغلب الوافدين للحقل السياسي عبر بوابة الانتخابات الجماعية يخلقون شبكات انتفاعية كبيرة من المستفيدين من فائض القيمة في التدبير المفوض وشركات التنمية المحلية وملاعب القرب وريع الأعوان العرضيين أو ما كان يسمى سابقا بالإنعاش الوطني.
ساهم أيضا نظام الاقتراع الذي حذف العتبة في وصول عناصر لأول مرة حصلوا على ريع الأصوات المتبقي من نظام الاقتراع النسبي باللائحة بأصوات ضعيفة جدا لم تتعد 200 صوت في جماعات كبرى، وهي معضلة كبرى لمفهوم التمثيلية الديمقراطية وعمق التواجد الشعبي والانتخابي للأحزاب السياسية بغض النظر عن واقع العزوف الانتخابي ونسب المشاركة، وما يعتري العملية الانتخابية من تدخل مباشر للمال.
وهو ما يحيلنا على دور سلطات المراقبة الإدارية أو ما كان يسمى بالوصاية الإدارية، فأغلب العمال والولاة هم يقومون بتدبير للمخاطر.. لاستمرارية هاته المجالس المنتخبة بأقل ضرر إن صح التعبير، فتدخلاتهم محتشمة في موضوع تنبيه رؤساء الجماعات الترابية لتصحيح الاختلالات، وهو ما يطرح سؤالا عميقا حول الورطة السياسية والانتخابية لما أفرزه تحالف النظام الحزبي بنمط الاقتراع مع طبيعة ممثلي الساكنة وأسلوب عملهم وأهدافهم وطريقة وصولهم لهاته الجماعات.. ما يتطلب تغييرا عميقا لهاته البنية التي تكاد تكون ثابتة لمختلف الاستحقاقات القادمة وتجعل من مسألة التمثيل الديمقراطي عملية بدون فائدة وتفرغ هاته المؤسسات من أدوارها الدستورية والتنموية.

o توضيح وتفسير ما يطلق عليه بعلم التراب ..الذكاء والتسويق الترابي أمام ما تمر به التجربة الترابية والجماعية من نواقص وأعطاب عميقة؟؟

n عرف تدبير الشأن الترابي تطورا معرفيا وعلميا جوهريا، ولعل تبيان هاته التحولات المعرفية سيظهر مفارقة لا مثيل لها على مستوى تطور الفكر الترابي أو ما يعرف بعلم التراب وطبيعة الممارسات التي تسود من داخل الجماعات الترابية، فالذكاء الترابي، مثلا، هو الآلية التي يسخرها الفاعلون قصد تحقيق أهداف التنمية الترابية المنسجمة، أي القدرة على استباق ومراقبة المعلومات بشتى أنواعها والاستخدام المنظم لشبكات التأثير والإجراءات التي يتخذها المنتخبون كفاعلين ترابيين لصالح المجال الترابي الذي هم مسؤولون عن تدبيره…إننا أمام منهجية جديدة للعمل الترابي وجواب علني وتقني من قبل الفاعلين الترابيين والشركاء.
وبخصوص التسويق الترابي فقد تسرب للشأن الترابي من اقتصاد السوق بالنظر لتأثير الجاذبية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يخلقها التسويق الترابي على حركية المجال، وفق مبادئ الحكامة الجيدة فإن ذلك يؤثر بشكل كبير في مسار التنمية المحلية.
إن استعراضنا للتحولات المعرفية لهذا العلم ..لتبيان الإمكانيات المهمة التي من المفترض أن تنقلها النخب المحلية إلى الميدان العملي في جلب التنمية للجماعات الترابية، لكن ملاحظتنا.. ان هناك مفارقات كبرى بين تمثل مقومات هذا العلم والواقع العملي، بل الأكثر من ذلك هو غياب ثقافة قانونية لمعرفة دقيقة للأدوار التقليدية والمهام التي يجب أن يقوم بها المنتخب انطلاقا من القانون التنظيمي للجماعات الترابية نفسه، ولعل هاته الخلاصة تتطلب تقييما شاملا لكل هاته المنظومة بغية إحداث التغيير المنشود لإحداث التنمية المطلوبة.


الكاتب : حاوره : محمد دهنون

  

بتاريخ : 25/02/2023