الحكومة لاتعدم الحلول لخفض أسـعار المحروقات ولكن تعوزها الشجاعة السياسية
«قانون مالية تعديلي» أصبح ضرورة ملحة لتصحيح أخطاء السياسة الاقتصادية التي تنهجها الحكومة
يرى الخبير الاقتصادي محمد بنموسى أن ما يعيشه سوق المحروقات الوطني من ارتفاع فاحش في الأسعار، لا يرجع فقط إلى المستجدات الظرفية التي طرأت في الأسواق الدولية نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وإنما يعود لإشكالية عميقة وقديمة ظهرت بسبب أخطاء سياسية واختلالات بنيوية صاحبت قرار تحرير القطاع دون آليات مواكبة، واستفحلت اليوم بفعل المستجدات الدولية الطارئة، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي زادت الطين بلة.
محمد بنموسى في أسطر
* عضو سابق في اللجنة الخاصة بإعداد النموذج التنموي.
* محلل اقتصادي، خبير استشاري في السياسة الاقتصادية.
* أستاذ جامعي متخصص في المالية.
* مسؤول بنكي سابقا تقلب لسنوات طويلة في عدة مناصب عليا في القطاع المصرفي المغربي كما تحمل مسؤوليات عليا في قطاع الأسواق المالية والبورصة.
* فاعل سياسي، عضو في حزب الاستقلال.
فاعل جمعوي، نائب رئيس حركة ضمير.
* عضو بارز في الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول سامير.
خلال مساره المهني الحافل ترأس بنموسى العديد من المؤسسات المصرفية والهيئات المالية والاقتصادية، حيث شغل مدير الإستراتيجية والتطوير لمجموعة Wafabank وترأس الجمعية المهنية لشركات الوساطة وكان مسيرا لمجلس أخلاقيات القيم المنقولة ومسيرا في مجلس بورصة الدار البيضاء ونائب الرئيس وعضو اللجنة التنفيذية لبورصة الدار البيضاء، كما ترأس مجلس إدارة وفا إموبيليي، ثم قام بإنشاء Match Point Conseil، وهي شركة استشارية متخصصة في السياسة الاقتصادية والمالية العامة والبنوك وسياسات التمويل، كما تم تعيينه في 2018 مديرًا وكبير الاقتصاديين بالاتحاد العام لمقاولات المغرب …
n تسبب الارتفاع المتواصل لأسعار المحروقات بالسوق الوطني في احتقان اجتماعي، يستفحل يوما عن يوم، ولا أحد يعلم بعواقبه المحتملة إذا ما استمرت وتيرة هذه الزيادات المتوالية التي لم تعد للمواطنين القدرة على مجاراتها.. في المقابل تبدو الحكومة غير منشغلة كثيرا بهذا الملف الذي يوشك أن يهدد السلم الاجتماعي للبلاد، مكتفية بتوزيع الدعم على بعض مهنيي النقل.. كيف تنظرون إلى هذا الموضوع؟
بداية ينبغي التنبيه إلى أن مشكل التهاب أسعار المحروقات في المغرب ليس وليد الساعة، ولم يظهر فجأة غداة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بل يعود إلى سنوات خلت، وبالضبط منذ أن قررت حكومة بنكيران رفع يدها عن المحروقات، وإيقاف الدعم الذي كان يؤمنه صندوق المقاصة، بالموازاة مع تحرير القطاع في دجنبر 2015.. حيث كانت حكومة بنكيران تعتقد أنه بمجرد اخضاع هذا القطاع للمنافسة في تحديد الأثمنة سيفتح الباب على مصراعيه أمام بيئة تنافسية حقيقية تغني السوق بقيمة مضافة يستفيد منها المستهلكون والمقاولات الصغرى والمتوسطة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى خفض الأثمنة، غير أن العكس تماما هو الذي حصل. ذلك لأن الحكومة، وهي تقدم على هذه الخطوة الحاسمة لتحرير المحروقات، لم تفكر في اتخاذ الإجراءات والتدابير والآليات الضرورية لمواكبة هذه العملية، على مستوى تنظيم السوق وتأطيره بالقوانين والأنظمة اللازمة لمراقبة الفاعلين.. لاسيما وأن المؤسسة الدستورية التي كان من الفروض أن تواكب هذه العملية، والمتمثلة في مجلس المنافسة، لم تكن حينذاك تتوفر على الصلاحيات القانونية والآليات التي تخول لها القيام بهذه المهمة، وبالتالي فإن هذا المجلس في تلك الفترة لم يكن له أي دور في تتبع عملية التحرير، غير أن الأمور تغيرت بعدما أصبحت هذه المؤسسة تتوفر على صلاحيات واسعة وعلى مجلس تقريري يسمح لها بالقيام بالأدوار التي أنيطت بها، خاصة على مستوى مراقبة مدى احترام قوانين المنافسة، وقد اتضح ذلك جليا حين شرع المجلس بمجرد تعيين ادريس الكراوي على رأسه، خلال نونبر 2018، في تحريك مسطرة البحث بخصوص الشكاية التي كانت قد تقدمت بها بعض النقابات لقطاع النقل الطرقي للمجلس حول شبهات التواطؤ في تحديد الأسعار من طرف بعض المستوردين و الموزعين الكبار ، إذ قام المجلس وفق ما تمليه قوانينه بالتحري والتحقيق في الموضوع الذي أسفر عن ثبوت مخالفات استدعت فرض غرامات جزائية تقدر ب9 % (ثم %8) من حجم معاملات ثلاث شركات كبرى في القطاع، إلا أن بعض أعضاء المجلس أثاروا ضجة حول بعض الاختلالات الداخلية التي كان يشكو منها مجلس المنافسة، ذهبت حد مراسلة الديوان الملكي في الموضوع، وهو ما أدى إلى إحداث لجنة ملكية أشرف عليها عدة مسؤولين رسميين من بينهم رئيس المجلس الأعلى للحسابات آنذاك ادريس جطو، و رئيسا مجلسي النواب والمستشارين الحبيب المالكي وحكيم بنشماس، و والي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري ورئيس هيئة محاربة الرشوة البشير الراشدي .. وغيرهم، وهي اللجنة التي أعدت، بعد القيام بتحرياتها، تقريرا أسفر عن إعفاء ادريس الكراوي من رئاسة المجلس وتعيين أحمد رحو بدلا عنه، كما صدرت الأوامر الملكية بضرورة إعادة النظر في الإطار القانوني للمجلس بغية تحصينه وتمتيعه بأكبر قدر من المصداقية والمهنية والاستقلالية وحمايته من التدخلات الخارجية… غير أنه، وإلى حدود الساعة، ما زالت الأمور على حالها، وإن كانت وزيرة الاقتصاد والمالية قد تحدثت عن مشروع قانون جديد تعكف عليه الحكومة ، يؤطر عمل مجلس المنافسة، وقد قدمت بعض رؤوس الأقلام حوله، سوى أن هذا المشروع لم ير النور بعد، ولم تتوصل به المؤسسة التشريعية حتى الآن.. وكلنا اليوم ننتظر أن تفرج الحكومة عن هذا القانون الذي من شأنه أن يعالج مجموعة من الإشكاليات الأساسية التي تفرضها الظرفية الراهنة، لاسيما في ملف المحروقات الذي يرفض الرئيس الجديد للمجلس، أحمد رحو، البت فيه، طالما لم يتوفر على القانون الأساسي الذي يحدد مجال وظروف اشتغال المجلس.
وهكذا يتضح أن إشكالية ارتفاع أسعار المحروقات ليست وليدة الساعة، كما يريد البعض أن يوحي بذلك، وإنما هي إشكالية عميقة وقديمة ظهرت بسبب أخطاء سياسية واختلالات بنيوية صاحبت قرار تحرير القطاع دون تعزيزه بآليات مواكبة، واستفحلت اليوم بفعل المستجدات الدولية الطارئة، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي زادت الطين بلة. وبالتالي فإن الوضع الحالي لأسعار المحروقات، وإن كان يبدو نتيجة إكراهات دولية خارجية، فهو قبل ذلك، ناجم عن اختلالات بنيوية داخلية ومركبة على رأسها غياب كلمة الحسم النهائي من طرف مجلس المنافسة في شبهة التواطؤ حول تركيبة الأسعار في قطاع المحروقات.
n ومع ذلك وعلى الرغم من رفضه البت في ملف المحروقات إلى حين خروج القانون الأساسي الجديد، فقد قام المجلس مؤخرا بالإعلان عن إنجاز «رأي» في الموضوع بمبادرة ذاتية، قصد التحري حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الموجة من الغلاء الفاحش التي تضرب القدرة الشرائية للمغاربة منذ عدة أشهر، وذلك من خلال التركيز على 13 مادة تنتمي إلى ثلاث مجموعات رئيسية من المواد الأساسية، ضمنها المحروقات.. في نظركم، ما هو سبب هذا الارتباك الذي يطبع تعاطي مجلس المنافسة مع هذا الملف بالذات؟
pp أولا، أنا لا أفهم كيف أن السيد رئيس مجلس المنافسة يقول إنه لن يحسم في ملف أسعار المحروقات طالما لم يتوفر بعد على القانون الأساسي الجديد (الذي ما زال عالقا في أدراج الحكومة) وفي نفس الوقت نجده ينظم حملة إعلامية ويقوم بمبادرات شتى ويحرك هذه الإحالة الذاتية، بغرض البحث في أسباب الارتفاع الفاحش لأسعار العديد من المواد الاستهلاكية.. وهو بذلك يضع نفسه في موقف متناقض.. فإذا كان السيد رحو – كما يقر بنفسه – لا يتوفر على إطار قانوني جديد يسمح له بممارسة صلاحياته في البحث والتحري والمحاسبة، فعلى أي سند قانوني إذن، أطلق هذه الإحالة للتحقيق حول حقيقة التهاب الأسعار؟
ثانيا، حين يقحم السيد رحو مادة المحروقات ضمن 13 مادة يشملها التحقيق عبر هذا «الرأي»، فهو بذلك يبخس هذا الموضوع الجوهري الذي يلقي بظلاله على المشهد الاقتصادي للبلاد برمته، والذي بدأت انعكاساته بالفعل تظهر جليا على عدة مستويات (تدني القدرة الشرائية، تراجع الطلب الداخلي، ارتفاع صعوبات المقاولات الصغرى والمتوسطة..) مما يوحي بأن مجلس المنافسة لا يقدر مدى خطورة وحساسية هذا الملف الذي أصبح هاجسا مؤرقا يشغل بال جميع المواطنين، وبالتالي يضعه على قدم المساواة وفي كفة واحدة مع مجموعة من المواد الغذائية ومواد البناء وغيرها.. كما لو أن غلاء المحروقات، وفق هذا المنطق، أمر عاد لا يختلف في شيء عن غلاء العدس أو الزبدة أو الإسمنت أو الزليج..
n في غياب مجلس منافسة قوي بإطار قانوني واضح وبصلاحيات واسعة ومدققة وبمجلس مستقل وكفء، إلى متى سيبقى المغاربة تحت رحمة السوق المتوحشة، وأمام حقيقة الأسعار الفاحشة التي تلهب جيوبهم يوما بعد يوم؟ وهل من وسيلة أو حلول أو تدابير سياسية واقتصادية لإيقاف هذا النزيف المتواصل لميزانية الأسر حماية لما تبقى لها من قدرة شرائية؟
المشكل الحقيقي في نظري، يكمن في الموقف السلبي والصمت المطبق حول هذا الموضوع من طرف الحكومة التي تبدو وكأنها رفعت يدها عن هذا الملف، وتقف إزاءه موقف المتفرج، علما بأن الجهاز التنفيذي حين قرر تحرير هذا القطاع الاستراتيجي ورفع الدعم عن المحروقات، كان واعيا تمام الوعي بأن هناك وضعية احتكار واضحة في السوق. وقد كان بإمكانه التدخل لمعالجة هذه الوضعية الشاذة، فالمادة الرابعة من قانون المنافسة وحرية الأسعار تعطي للحكومة بشكل صريح الحق في «ّاتخاذ تدابير مؤقتة ضد ارتفاع أو انخفاض فاحش في الأسعار تعلله ظروف استثنائية أو كارثة عامة أو وضعية غير عادية بشكل واضح في السوق بقطاع معين.» وبالتالي فإن الغلاء الفاحش الذي يطبع منذ مدة (ان لم أقل سنين) أثمان المحروقات، والحاجة الملحة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وكذا الضرورة التي تستدعي الرفع من القدرة التنافسية للمقاولات خاصة الصغرى والمتوسطة.. كلها مبررات كافية تعطي لرئيس الحكومة الحق في اتخاذ قرار سياسي دون الحاجة إلى قانون، لإخراج المحروقات من قائمة المواد المحررة، وتحديد سقف لأسعار هذه المواد لمدة ستة أشهر، مع إمكانية تمديد هذا الاجراء الاستثنائي، لستة أشهر ثانية.. وخلال الـ 12 شهرا التي يسمح فيها القانون باتخاذ هذا التدبير الاستثنائي، يمكن للحكومة أن تغتنم الفرصة لمعالجة الاختلالات البنيوية والمشاكل الهيكلية التي تطبع قطاع المحروقات. ومن ضمن الحلول التي يمكن للحكومة أن تواجه بها هذا الملف، إعادة تشغيل مصفاة التكرير سامير..
n هل يتعلق الأمر إذن بغياب إرادة سياسية لدى الحكومة للانكباب على معالجة شمولية لصلب المشكل، أم بضيق الهوامش المالية المتاحة أمامها للتخفيف من حدة هذه الزيادات؟
بالنظر إلى كل هذه المعطيات التي أوردناها قبل قليل، يتضح أن الأمر لا يتعلق بانعدام الحلول لمواجهة هذا المشكل، بقدر ما هو مرتبط أساسا بانعدام الإرادة السياسية لدى الحكومة للتخفيف من الاعباء المادية لارتفاع اسعار المحروقات على ميزانية الأسر وميزانية المقاولات. ولو توفرت هذه الإرادة لما وصلنا إلى هذا الوضع.
وقد رأينا كيف أن الحكومات الأوروبية التي تقدر وضعية مواطنيها أعطت الأولوية في انشغالاتها خلال الاشهر الأخيرة للملفات التي تؤثر على المعيش اليومي للأسر، واجتهدت للحفاظ على قدرتها الشرائية، خصوصا في هذه الظروف الطارئة التي يمر منها العالم اليوم. وهنا سأعطي مثالين بارزين لهذا النوع من الحكومات التي وضعت القدرة الشرائية للمواطنين فوق كل اعتبار.
المثال الأول جاءنا من إيطاليا التي قرر رئيس حكومتها ماريو دراغي مؤخرا إطلاق حزمة واسعة من التدابير لدعم القدرة الشرائية للمواطنين ومواجهة التضخم الذي فاق 6 في المائة.. وبلغت كلفة هذه الإجراءات 14 مليار أورو، تنضاف إلى 15.5 مليار أورو التي أقرت سابقا، أي ما يناهز في المجموع 30 مليار أورو.. ومن جملة هذه الإجراءات، منح مساعدة مالية قدرها 200 أورو لـ 28 مليون إيطالي يقل دخلهم عن 35 ألف أورو سنويا، وتقديم مساعدات مالية للشركات التي تستهلك الطاقة بكثافة، وكذا سن تخفيض ضريبي على الوقود البالغة قيمته 30 سنتيم اورو على كل لتر.. بالإضافة إلى كل هذه الإجراءات، عمدت الحكومة الإيطالية إلى فرض ضريبة إضافية على أرباح الشركات الكبرى في قطاع المحروقات نسبتها 10 في المائة خلال مارس 2022 وعندما تبين للحكومة أن هذه النسبة غير كافية، قامت برفعها في ماي الماضي إلى 25 في المائة. وطبعا فإن هذه المداخيل الضريبية الاستثنائية من شأنها أن تغطي جزءا كبيرا من اعتمادات الدعم الاجتماعي التي ستكلف 30 مليار أورو..
المثال الثاني يأتينا من بريطانيا، التي تعد من أكبر الدول الليبرالية في أوربا، حيث قامت حكومة بوريس جونسون، التي تواجه نفس مشاكل التضخم والركود الاقتصادي المرتبطة بفورة أسعار المحروقات وتفشي الغلاء، باتخاذ نفس التدابير التي اتخذتها نظيرتها الإيطالية، وعلى رأسها فرض ضريبة استثنائية على أرباح شركات المحروقات والشركات العاملة في مجال الطاقات الأحفورية بنسبة 25في المائة. وهو ما سيدر على الخزينة البريطانية حوالي 5 ملايير جنيه إسترليني، أي ما يعادل ثلث الميزانية التي رصدتها الحكومة لمساعدة الأسر (حوالي 1400 أورو لكل أسرة) ولدعم المقاولات البريطانية حتى تتخطى أزمة تضخم الأسعار..
n ولكن هذا النوع من القرارات السياسية الجريئة يبدو بعيد المنال عندنا في المغرب.. هل تعتقدون أن مثل هذه التدابير ممكنة؟ كأن تتم مثلا مراجعة الرسوم والضرائب المرتفعة المفروضة على المحروقات ولو بشكل ظرفي، علما بأن الأمر يقتضي قانون مالية تعديلي وهو ما ترفضه حكومة أخنوش رفضا قاطعا؟
طبعا هذا النوع من الإجراءات والتدابير يلزمه التحلي بقدر من الشجاعة والمسؤولية السياسية، وهو ما تفتقد إليه للأسف الحكومة الحالية.. وفي اعتقادي الشخصي، فإن الإشكال الجوهري الذي يفسر العديد من الاختلالات والنواقص التي نتحدث عنها الآن، يتجلى في كون هذه الحكومة تحمل في تكوينها الجيني وفي تركيبتها السياسية، ما أسميه «خطيئة الولادة» الناجمة عن حقيقة «تضارب المصالح» لدى مكوناتها، وهو ما يقف عائقا أمام اتخاذ هذا النوع من المبادرات السياسية الشجاعة التي تراعي القدرة الشرائية للمواطنين.. هذا التضارب في المصالح هو بالضبط ما يقيد حكومة أخنوش ويشل عملها في هذا الاتجاه وفي اتجاهات أخرى كالتفعيل الوفي والسليم للنموذج التنموي الجديد.
المغرب اليوم في أمس الحاجة إلى قانون مالية تعديلي، ليس من أجل معالجة ملف المحروقات فحسب، بل من أجل تصحيح عدة أخطاء فادحة تطبع السياسة الاقتصادية للحكومة.. بطبيعة الحال، هناك ضرورة مستعجلة لمراجعة تركيبة أسعار المحروقات، خصوصا في شقها الضريبي، سواء عبر خفض الرسم الداخلي على الاستهلاك أو عن طريق خفض الضريبة على القيمة المضافة المفروضة على استيراد واستهلاك المواد الطاقية، وذلك بشكل مؤقت، لأن المداخيل التي حصلتها الخزينة العمومية من هاتين الضريبتين حتى الآن، ارتفعت بشكل كبير على حساب القدرة الشرائية للمغاربة. هذه مبادرة أولى تتطلب قدرا كبيرا من الإرادة السياسية التي، مع الأسف، لا تتوفر لدى الحكومة. وهناك طبعا مبادرة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وتتطلب هي الأخرى منسوبا عاليا من الشجاعة السياسية التي تفتقدها هذه الحكومة، بسبب «خطيئة الولادة» التي أشرنا إليها، ويتعلق الأمر بمبادرة جبائية فائقة الأهمية، تتمثل في ضرورة فرض ضريبة استثنائية على شركات المحروقات التي جنت خلال هذه الظرفية العصيبة التي تمر منها البلاد، أرباحا طائلة، وراكمت ثروات هائلة منذ تحرير قطاع المحروقات في دجنبر 2015 (المبلغ الاجمالي للأرباح الفاحشة يقدر ب 45 مليار درهم منذ 2016). ويكفي إلقاء نظرة على الحسابات المالية لهذه الشركات، قبل التحرير وبعده، للوقوف على حجم الأرباح الخيالية والفاحشة التي أصبحت تجنيها على حساب القدرة الشرائية للمواطنين، حيث أن معظمها (دون حاجة إلى تسميتها) أصبح يجني من الأرباح أضعاف ما كان يجنيه قبل التحرير، ولعل وزارة المالية تتوفر على ما يكفي من المعطيات والحقائق حول هذا الملف الذي أصبح من حق المغاربة أن يطلعوا على خباياه.
n قلتم قبل قليل إن تشغيل مصفاة سامير يمكن أن يشكل واحدا من الحلول المتاحة أمام الحكومة لمعالجة الاختلالات البنيوية لسوق المحروقات، سواء على عبر الاستفادة من قدرتها التخزينية أو من قدرتها الانتاجية … غير أن ليلى بنعلي، وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، وأخيرا نادية فتاح، وزيرة الاقتصاد والمالية، كلتا الوزيرتين تحاولان في خرجاتهما الإعلامية – كما في خرجاتهما البرلمانية – تبخيس دور شركة سامير في المنظومة الطاقية للمملكة معتبرتين تارة أن تشغيل مصفاة «سامير» لن يحل مشكل ارتفاع أسعار المحروقات، وتارة أخرى أن الكرة في ملعب القضاء ويصعب الحسم في الموضوع طالما لم يتم البت فيه نهائيا .. مارأيكم في هذا الموقف الملتبس؟
هذه تصريحات جد خطيرة، تظهر بشكل فاضح إشكالية تضارب المصالح داخل الحكومة، من حيث أنها تعبر عن رأي الجهة التي استفادت ومازالت تستفيد من الفراغ الذي خلفته سامير، والتي يشكل استمرار إغلاق المصفاة أو إعدامها بالمرة، خدمة لمصالح محددة..
هناك تناقض واضح يطبع علاقة الحكومة بهذا الملف الاستراتيجي، يتجلى في كون الحكومة السابقة كانت قد تقدمت لدى المحكمة التجارية بطلب عقد كراء بغية الاستفادة من الطاقة التخزينية لمصفاة سامير والتي تقدر بحوالي مليوني متر مكعب، وهو الطلب الذي حظي بسهولة بموافقة المحكمة التجارية. غير أن الحكومة وبمجرد حصولها على الموافقة، سرعان ما تراجعت وصرفت النظر عن الموضوع.. وهو ما يطرح عدة علامات استفهام حول ما إذا كانت هناك جهات معينة دفعت الحكومة إلى التراجع عن توقيع عقد التخزين، والذي كان سيوفر لنا حوالي 7 أو 8 ملايير درهم بالنظر إلى أسعار النفط التي هبطت حينها إلى 20 دولارا للبرميل..
من جهة أخرى، لا ينبغي أن ننسى أن جلالة الملك قد أعطى أوامره السامية للحكومة من أجل إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، وعلى رأسها المحروقات، وذلك لتعزيز الأمن الاستراتيجي للبلاد. ولحدود الساعة، لا أحد يعلم أين وصلت الحكومة في تهييئها لهذه المنظومة، من أجل تفعيل التعليمات الملكية في هذا الاتجاه.
والخطير في الأمر، أن الأمور سارت في الاتجاه المعاكس لهذا الهدف الذي سطره جلالة الملك، والقاضي برفع المخزون الاستراتيجي للبلاد من المواد الأساسية من بينها النفطية، حيث إن القانون الذي يفرض على الحكومة ضمان توفر 60 يوما من الاستهلاك الوطني للمواد النفطية، جاءت وزيرة الانتقال الطاقي لتضرب به عرض الحائط، حين صرحت أمام الملأ بأن المخزون الاستراتيجي من هذه المواد لا يتعدى 27 يوما وأن هذا تعتبره «مخزونا كافيا»!! وهو ما يعد خرقا سافرا للقوانين التي وضعها المشرع المغربي وصوت عليها البرلمان والتي كان ينبغي على الحكومة أن تتقيد بها حرفيا.. كما هي ملزمة بتنزيل الأوامر الملكية الواضحة الداعية إلى رفع المخزون الاستراتيجي.. إذن نحن هنا إزاء حكومة تجاهر بخرقها للقانون الخاص بالمخزون الاستراتيجي، وتعطي لنفسها الحق في اعتبار» 27 يوما كافية» بدل 60 يوما التي يحددها القانون بنص صريح، وتتلكأ في تنزيل الأوامر الملكية الواردة بهذا الخصوص في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية لسنة 2021.
النقطة التي يجب التركيز عليها، هي أن إعادة تشغيل مصفاة سامير هي اليوم ضرورة ملحة، لأنها من ستضاعف الطاقة التخزينية للمواد النفطية التي تحتاجها البلاد، أي أنها ستضيف مليوني متر مكعب من المخزون الاستراتيجي لهذه المواد الطاقية، كما أن تشغيلها من جهة أخرى سيخلق نوعا من التوازن الجديد في العلاقات بين الفاعلين في السوق الداخلي للمحروقات، حيث إننا اليوم نلاحظ أن هناك سلطة مطلقة للموزعين الذين يسيطرون بإحكام على القطاع.. ولا شك أن عودة سامير إلى استئناف نشاطها من جديد ستخلق مناخا من التنافسية التي يحتاجها السوق، ما قد يجبر شركات التوزيع المهيمنة حاليا، على إعادة النظر في هوامشها الربحية، وهذا طبعا هو الهدف من تحرير القطاع..
وفي الأخير، وردا على الادعاءات التي تصدر بين الفينة والأخرى من بعض الجهات الحكومية التي تزعم أن ملف سامير مازال بيد القضاء، وبالتالي لا يمكن للحكومة الفصل فيه، يجب التأكيد على أن هذه التصريحات هي مجرد مغالطات وأعذار واهية لا تستند إلى أي منطق عقلاني، ذلك أن القضاء المغربي قال كلمته الفصل في ملف مصفاة سامير، وأن الملف استكمل جميع مراحل التقاضي.
وبعدما تبين أن جميع العروض التي أبدت الاهتمام بشراء المصفاة (أزيد من 25 اقتراحا) لم تؤت بأي نتيجة، لم يعد هناك ما يمنع الدولة من تأميم المصفاة، خاصة وأنها هي الدائن الأكبر في لائحة المديونة التي بقيت عالقة في ذمة الشركة، والتي تقدر بحوالي 44 مليار درهم، تصل ضمنها ديون الدولة إلى الثلثين.. وإذا اخذنا بعين الاعتبار أن القيمة السوقية للمصفاة اليوم تناهز 25 مليار درهم، تتناقص سنة بعد أخرى، فإن الدولة، وبجرد عملية محاسباتية بسيطة، يمكنها أن تمر بسهولة من وضعية الدائن إلى وضعية مالك وصاحب رأسمال هذه المصفاة، ما نحتاجه الآن هو الإرادة والمبادرة السياسية الشجاعة لتأميم المصفاة..
n وأين هو دور الأحزاب والنقابات؟ وهل بمقدور الفاعلين السياسيين أن يقنعوا الحكومة بتغليب المصالح العليا للبلاد في هذا الملف؟
نحن في هذا الصدد كفاعلين سياسيين قدمنا مشروع قانون لتفويت أصول سامير للدولة، وهي المبادرة التي لقيت مساندة من عدة أحزاب سياسية في مجلس النواب ونقابات في مجلس المستشارين، من بينها حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفدرالية اليسار الموحد وحزب الاستقلال والكونفدرالية الديمقراطية للشغل.. المفارقة هي أن حزب الاستقلال الذي أنتمى اليه حين كان في المعارضة ساند هذه المبادرة، وعندما أصبح متواجدا في الحكومة فضل الركون إلى الصمت المطبق، وهذا التصرف يؤسفني كثيرا، علما بأنه في برنامجه الانتخابي تقدم بمقترح إعادة تشغيل المصفاة وتسقيف أرباح الموزعين، وهو نفس المقترح الذي تضمنه البرنامج الانتخابي لحزب الأصالة والمعاصرة، واليوم بعد أن وصل هاذان الحزبان إلى مركز القرار في الحكومة، نفاجأ بأنهما يفضلان صرف النظر عن الموضوع!!