في دراسة ميدانية للأوضاع السوسيو مهنية لنساء ورجال التعليم ومستقبل المهنة بالمغرب

ضعف منسوب الثقة في المهنة التربوية وغياب الإرادة السياسية للدولة

في الإصلاح الشامل لمنظومة التربية والتكوين

 

اعتبرت أن الثقة في مستقبل المهنة بالنسبة لنساء ورجال التعليم بالمغرب، ضئيلة جدا، إضافة إلى القلق والخوف من المستقبل بحكم تجربتهم المهنية وبحكم الواقع الذي يعيشونه مهنيا واجتماعيا، وكذا بسبب الإرادة السياسية للدولة في الإصلاح الشامل لمنظومة التربية والتكوين وأولوية الأولويات في الاستثمار العمومي، وهي إحدى المؤشرات الرئيسية لاختيار التقاعد النسبي بوصفه السبيل للهروب الجماعي من مهنة مستقبلها غير مطمئن ولا مستقر.
واعتبر المبحوثون في دراسة الأوضاع السوسيو مهنية لنساء التعليم ورجاله ومستقبل المهنة في المغرب، المنجزة بشراكة بين النقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ومركز التضامن العمالي ، ضعف منسوب الثقة في المهنة التربوية ومستقبلها راجع إلى عدم الأخذ باستشارة نساء التعليم ورجاله في مجال عملهم ومستقبله ، وهو ما يقلل من جودة أداء المهنة، كما أن هناك ضعف منسوب الثقة المتبادلة بين المجتمع والفاعل التربوي ومرده – حسب الدراسة – إلى السياسات التعليمية المتبعة في القطاع الهادفة إلى تقليص قيمة التعليم والمعرفة ودورهما في بناء مستقبل الوطن ، والميل إلى الرفع من أهمية القطاع الخاص واقتصاده، وجعله بديلا عن الخدمات المجتمعية الاساس، والتقليل من الوضع الاعتباري للمدرس والمدرسة العمومية، وتبخيس دورهما الوظيفي والنضالي.
مع بداية الالفية الثالثة، وانطلاقا من الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي تجاوز عشريته بكثير، تواترت الاصلاحات التي طالت قطاع التربية والتكوين، المخطط الاستعجالي، الرؤية متوسطة المدى، الرؤية الاستراتيجية
2030/2015.وما صاحب كل ذلك من تفاعلات ونقاشات، وتقويمات دولية ووطنية، والتي أقرت كلها بفشل الاصلاحات أو محدوديتها، واقرار أعلى سلطة في البلاد بفشل النموذج التنموي المغربي، عامة وبفشل منظومة التربية والتكوين ضمنه، وأقرت بذلك في عدد من خطاباتها، فضلا عن الاصدارات الفكرية التي اكدت معطى الفشل نفسه، وهو ما يفسر حجم الاجتماعات التي تعتمل في الساحة التعليمية والتي لا تكاد تنقطع فالواقع لا يرتفع ويكشف صراحة بان الوضع المهني غير المنفصل عن القطاع التعليمي، وعن التصور التنموي العام للبلاد، يعيش ازمة وبالتالي لا يؤدي الادوار التربوية والتعليمية التي من المفروض ان يقدمها خدمة للوطن و المواطنين.
وتفاعلا مع كل هذه المتغيرات، يبدو من الصعب الإحاطة بكل الاشكالات التي يعيشها القطاع ولا اجمالها في دراسة واحدة. ومن شأن معالجة كل جانب على حدة ان يساهم في تحديد الاختلالات بحسب كل مجال وجانب، واختيارنا للجانب السوسيو مهني للفاعلين في القطاع سيمكن لا محالة من استجلاء جانب من الازمة اعتبارا لكون هؤلاء الفاعلين ركيزة لا يمكن ان يقوم اي اصلاح بدون انخراطها فيه وشرط الانخراط الوعي والاقتناع بنجاعة هذا الاصلاح على الاقل في حدوده الدنيا.
ومن ذلك يمكن ان نجمل اشكالات الدراسة في علاقة ثقة الفاعلين في القطاع في الاصلاحات المتعاقبة، ومدى انخرطها الفعلي فيها، وطبيعة رؤيتهم للمستقبل المهني في ظل واقع عنيد ومتسارع.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تطرح اشكالات اخرى ذات صلة بالممارسة المهنية، فالاقتناع بالمهام المسندة للفاعل، وطريقة ادائها اداريا وبيداغوجيا تطرح سؤال النجاعة والفعالية، هو سؤال يجد تصريفه في العلاقة التي يبنيها الفاعل في مؤسسته، ومع زملائه ومع التصور البيداغوجي الذي يعمل على أجرأته في مستوى الممارسة الفعلية،
ويمكن ترجمة اشكالات الدراسة في الاسئلة التقريبية الاتية:
ما طبيعة النظرة التي تطغى على غالبية الفاعلين المهنيين في قطاع التربية والتكوين، مهنتهم؟ وتجاه محيطهم المؤسسي والبشري والخدمي؟
ما مدى نجاعة الاختيار المهني للفاعلين في القطاع؟ وما مسوغات هذا الاختيار؟
كيف يحضر التصور البيداغوجي الاصلاحي عند الفاعلين باختلاف مهامهم وخبراتهم خلال ممارستهم المهنية ومساراتها؟
كيف يتصور الفاعل التربوي والاداري الوضع الاعتباري للمهنة في اوساط الفاعلين ذاتهم، وفي الوسط المجتمعي؟
ما مستوى الوعي القائم والممكن لدي الفاعل التربوي والاداري بالممارسة المهنية التي يديرها، وبالسياسة التعليمية المؤطرة لممارسته، وما قدرته في الفعل فيها والفاعل معها؟
­ ما طبيعة التفاعل مع السياسة التعليمية المتبعة، ولا سيما في الالفية الجارية على الاقل؟
هذه بعض من الاسئلة المؤطرة للاشكالات التي تروم الدراسة محاولة الاقتراب منها، والجواب عنها، وهي الى جانب أخرى، لخصت، عموما، الاهتمامات التي تشغل بالنا ومنها انطلاق اسئلة الاستمارة والمقابلات، فلعلها تقدم ما يكفي من مسافة قصيرة لملامستها والبناء عليها.
انطلاقا من هذه الاشكالات والاسئلة المرتبطة بها، يمكن ان نضع فرضيات أولية سيتم تمحيصها خلال الدراسة بما تقدمه من معطيات وتحليل، ومن ذلك نفترض ما يأتي:
اغلب الفاعلين في القطاع غير راضين عن وضعهم المهني، ويبنون علاقات مع المؤسسات الداخلية والخارجية يطبعها عدم الارتياح والخوف والتردد.
تغيب الثقة بشكل كبير في القرارات الادارية والسياسية التي يتم اجرأتها في الممارسة وعبرها، مما يجعل فعالية الاصلاح ضعيفة ونتائجه غير ناجعة.
منسوب الوعي بالممارسة المهنية لازال ضعيفا عند غالبية الفاعلين ويتجه عملهم نحو أداء الواجب في حدوده الدنيا استجابة لضرورات إدارية والتزامات مهنية، لا تمس البعد الوطني والاحساس بالانتماء الا قليلا.
يرسم أغلب الفاعلين نظرة مستقبلية يسودها التعتيم وعدم الرضى تجاه ما ينتظرهم من تغييرات إصلاحات ستمس استقرارهم المهني.
ان النسبة العامة لنساء التعليم في القطاع تقارب نسبة الرجال، ان اكبر نسبة تفاعلت مع الاستجواب هي فئة ما بين 30 و 49 سنة وهي الفئة الاكثر نشاطا في المجتمع، اضافة الى السن فقد راكمت اقدمية في المهنة لابأس بها تتيح لها ابداء الرأي الذي سيكون له تأثير تستفيد منه الاجيال اللاحقة لا سيما ان البنية التي تتحكم الان في المسار المهني بنية تسير نحو الانتقالية، اذ يعرف القطاع سنويا احالة نسبة مهمة من الموظفين على التقاعد بشقيه، والتحاق نسبة كبيرة من الاجيال الجديدة بالقطاع حاملة معها آمالا و طموحات جديدة قد تعمل على رسم ملامح مستقبلية للمهنة، اضافة الى السن فقد تلعب الحالة العائلية دورا مهما في فهم المواقف وآراء وتطلعات نساء التعليم ورجاله.
ان اكبر نسبة من الفئات المستجوبة التي تفاعلت مع الاستمارة هي فئة المتزوجين مع إضافة معطى آخر له دلالة وهو عدد الاطفال، وهذا يعني انه بقدر ما توفر الاستقرار العائلي يزداد مفعول الانخراط والالتزام في الحياة ويكون الرهان أكبر على ضمان التوازن بين تحديات المهنة وصعابها وبين الاستمرار في مواجهة الاعباء والضغوط الاجتماعية.
تتمتع الموارد البشرية المستجوبة بكفايات معرفية،ويظهر هذا من خلال مستوى الشهادات المحصل عليها اذ ان نسبة كبيرة جدا منها حاصلة على الاجازة فما فوق وهذه النسبة مرشحة للارتفاع في المستقبل اذ ان شرط ولوج المهنة يقتضي الحصول على الاجازة على الاقل.
وعلى الرغم من المستوى الدراسي / المعرفي الذي تتمتع به الفئة المستجوبة فإن نصف المستجوبين يقرون بأن اختيارهم للمهنة جاء نتيجة عدم وجود فرص مهنية أخرى وهذا يعني انهم سيغادرون القطاع في أول فرصة تتاح لهم لمعانقة آفاق أخرى أكثر رحابة وجاذبية.
كما سجلت الدراسة أسلاك العاملين في قطاع التعليم و مهامهم، وعدد ساعات عملهم واقدميتهم العامة في العمل، كما ركزت على المؤهلات التي يتمتعون بها وطريقة اكتسابها، وكيفية توسيع هذه المؤهلات وتطويرها عن طريق التكوين بشقيه الاساسي والمستمر، ومن ذلك يمكن ان نستنتج من خلال تحليل هذه المعطيات والنسب التي عبر عنها الاستبيان ما يأتي:
أغلب الفئات العاملة في القطاع شاركت في الاستجواب مما يساهم في تشكل التصور العام الذي يؤطر الموقف أو المواقف تجاه المهنة بشكل شمولي.
قدم المحور قاعدة معطيات تساهم في بناء نظرة شمولية عن المواقف التي تعتمل في القطاع، وتسمح بمعرفة التوجهات التي تحرك العاملين حسب كل سلك وما يتضمنه من حوافز وامتيازات واكراهات تجعله مختلفا عن غيره.
مكن التصنيف حسب المهام المنوطة بكل فئة، ومن داخل كل سلك عمل من استحضار المواقف المختلفة والمتناقضة احيانا بين فئات التعليم، وتحظى فئة هيئة التدريس بالنسبة العالية بحكم العدد الاجمالي لعدد العاملين منها في القطاع، وبحكم أدوارها ووظائفها التي تنعكس على باقي أدوار ووظائف الفئات الاخرى.
لعبت السنوات التي قضاها المستجوبون في العمل (الاقدمية العامة) دورا مهما في اكسابهم الخبرة والتجربة اللازمتين لاداء وظائفهم وبناء المواقف التي تحدد نظرتهم الى واقع المهنة ومستقبلها. وهي نظرة لها قوتها لان تراكم السنوات والتدرج المهني الذي يعرفه الموظف سواء عن طريق الاقدمية أو طرق أخرى محددة في القوانين والتشريعات الجاري بها العمل تجعله يبني رأيا وموقفا منبثقا عن تجاربه المتعددة والتي لا تخرج في عموميتها عن ما عاشه طيلة حياته المهنية وما واكبها من مهام أثرت بشكل مباشر على بناء المواقف المعبر عنها والتي تساعد لا محالة، في إيجاد الحلول للمشكلات المطروحة مستقبلا.
التكوين بشقيه الاساس والمستمر يطرح سؤال التأهيل المهني والاستمرارية الضامنة لحدود مقبولة من الجودة، ولعل الخلاصة البارزة التي يمكن ان نستنتجها هي أن أغلب المستجوبين خضعوا للتكوين في بداية مشوارهم المهني، وهذا راجع الى أن القوانين تشترط المرور من أحد مراكز التكوين للالتحاق بالمهنة مع بعض الاستثناءات التي وإن كانت قليلة فإنها معبرة باعتبار النتائج التي سوف تترتب عن إبدائها لمواقفها اذ ستجد نفسها منذ الوهلة الاولى تعوزها الوسائل المهنية والتربية التي تمكنها من أداء وظائفها مما يجعل إمكاناتها الذاتية ومجهودها الشخصي هو العامل المحدد في تشكل وعيها المهني، وبناء على مواقفها تجاه المهنة بخلاف الاغلبية التي خضعت للتكوين ودخلت مسلحة بأدوات ومعارف وتقنيات تجعلها تمتلك وعيا نظريا مهنيا يساعدها على تأدية مهامها في الحدود المسموح بها، وقادرة على بناء المواقف والتعبير عن الواقع السوسيو مهني لنساء التعليم ورجاله.
تظهر محدودية التكوين المستمر الذي لم يواكب الموظف طيلة حياته المهنية.
وهو ما يطرح محدودية أثره مع الزمن، مما يفرض التفكير في ضمان سريان التكوين عبر المسار المهني، فالتكوين المستمر يزود الموظف بين الحين والآخر بالمهارات المهنية والمعارف المستجدة الحاصلة في القطاع، لكن الملاحظ ان أكثر من نصف المستجوبين لم يتلق تكوينا مستمرا واكتفى فقط بالمكتسبات والمعارف التي تلقها في بداية مشواره المهني. أو في أحسن الظروف عند تغييره للمهام، وهذا يجعلنا أمام مفارقة، فبقدر ما أن هناك تطورا متسارعا في المعارف والمهارات يقتضي مواكبته واستيعابه بقدر ما أن هناك ركودا واكتفاء بما تم تحصيله في البداية، ويبقى أمر مواكبة المستجدات متروكا للمبادرات الشخصية والتكوين الذاتي ولهذا لابد من إعادة النظر في المقاربة المعتمدة في التكوين من أجل أجرأة تصورات بديلة وناجعة حوله.
لقد بات ضروريا من حيث البداهة وقوة الواقع ان تقام هذه الدراسة بالنظر الى الحاجة الملحة لفهم واقع التعليم من وجهة نظر تنطلق من مواقف الفاعلين في الميدان أنفسهم، لأن الوتيرة المتسارعة للأحداث والاصلاحات المتعاقبة عليه و التي اجمع كل المهتمين باختلاف تخصصاتهم ومواقعهم ومناصبهم أنها لم تصل الى الاهداف المنشودة، ولم تحقق التطلعات التي كانت ترومها، ومع كثرة المتدخلين وتداخل العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية والمهنية بات الفهم الرصين والهادئ للمنظوم فارضا نفسه، حتى يتمكن القائمون على الدراسة وكل المتبنين لنتائجها من الترافع امام كل الجهات المعنية والمحافل المحتفية بالقطاع وموارده بوثوقية وثقة في الاسس التي ستنبني عليها المرافعة، كما سيبدو مهما أن تعاد صياغة الوعي بالممارسة المهنية نقابيا ومجتمعيا حتى يتمكن الفاعل النقابي والمهني من التدخل بفعالية وملاءمة عندما يتعلق الامر ببناء المواقف في القطاع لا يختلف أحد في العالم، انه رافعة اساس في بناء التنمية في جل أبعادها، وفي عمقها بناء الإنسان تصورا وممارسة.
إذا كان فعل التربية والتعليم فعلا واعيا، فانه حري بكل الممارسات اللصيقة به ولا سيما الفعل النقابي ان يكون على درجة اكبر من الوعي لانه الحاضن الاجتماعي لكل المتطلبات والطموحات التي تمور في فكر وتصور الفاعلين فيه، و لم يعد مقبولا باي حال من الاحوال أن يكون الفعل النقابي تابعا او مجاملا لأي جهة كانت ومن دون خلفية اجتماعية ومعرفية، فتحقيق الندية في التشخيص والنقد والاقتراح ينبغي ان تكون في مستوى تطلعات الوطن، فبناء المدرسة هو بناء للوطن، وهذا الاخير ليس حكرا على شخص او جهة ما بل هو حق مكتسب لكل المواطنات والمواطنين وبقدر كثرة الانتاجات الفكرية والثقافية، والنقاشات العمومية الملازمة للتعليم، يلاحظ ضعف تأثير كل ذلك في التصور العام لدى المجتمع ولدى الدولة معا، وهو ما يقتضي اسهاما في النقاش العمومي، على الرغم من التهميش الذي يطاله، لإعادة النظر في آليات الاصلاح وأسسه وفلسفته، بما يجعل القطاع، فعلا مسؤولية مجتمعية، وليس اختيارا من جانب الدولة وقدرا محتوما على المجتمع.
ولامست الدراسةاهم الموارد البشرية العاملة في قطاع التعليم بتعددها جنسا وعمرا ومستوى تعليميا، وباختلاف مهامها، ووضعها الاسري، وانتماءاتها الوظيفية، ومستوى تكوينها، وظروف عملها، ومدى تقبلها لمهنتها تحفيزا واداء ومقبولية من حيث الولوج والاستمرار وطبيعة الفئات المتعامل معها تلامذة وأطر وجمعيات، وبما يوفر إمكانات العمل من تجهيزات ووسائل. وهو ما يغني الدراسة، ويوفر إمكانات بناء أحكام تفيد تطوير المهنة، ويرسم آفاقا لتطويرها وإغنائها.
ان قطاع التربية والتكوين يشكل، فعلا، قطاعا مفصليا في بناء الدولة والمجتمع، ويرسم معالم الدخول الى المعرفة والعصرنة، وإعداد أجيال قادرة على ضمان مستقبل حضوري لبلادنا.
ان ضعف منسوب الثقة المتبادلة بين المجتمع والفاعل التربوي مرده الى السياسات التعليمية المتبعة في القطاع الهادفة الى تقليص قيمة التعليم والمعرفة ودورها في بناء مستقبل الوطن، والميل الى الرفع من أهمية القطاع الخاص واقتصاده، وجعله بديلا عن الخدمات المجتمعية الأساس، والتقليل من الوضع الاعتباري للمدرس والمدرسة العمومية، وتبخيس دورهما الوظيفي والنضالي.
ان الإحساس بالأمان والثقة لدى الفاعلين التربويين والإداريين رهين برفع منسوب الوطنية الوظيفية للمهام المسندة اليهم بما يجعلهم يحسون بالمسؤولية تجاه ما يقدمونه من خدمات مقابل ما يتلقونه من تحفيز مادي ومعنوي وتكوين أساس ومستمر يؤهلهم للاقتناع بجدوى المجهود المبذول منهم ومن الدولة.
إن أي اصلاح لا يمكن ان يكون ناجعا الا اذا استحضر مفهوم الإشراك الفعلي للفاعلين المعنيين بتنفيذه وتطبيقه، وبمشاورات واسعة معهم ومع ممثليهم بما يضمن اقتناعهم بجدواه وقيمته المجتمعية، وأثره في التنمية الذاتية والجماعية، ويوفر مبررا للتضحية الجماعية في سبيله ماديا ومعنويا، وبمدى زمني وديمقراطي وإنساني مقبول، ويجعل مستقبل الأجيال مضمونا في حدود مقبولة ومعقولة حسب مؤشرات متفق حولها.
إن فتح آفاق التواصل بين المدرسة ومحيطها لا يتعلق بتواجد الهيئات والجمعيات، وتسطير القوانين المنظمة لها، بقدر ما يتعلق بمستوى توفير الوسائل الضرورية للحكامة الرشيدة الفاصلة في مستوى المحاسبة المرتبطة بتحديد المسؤوليات بدقة، وبتوقع آليات أجرأة الحكامة من حيث الموارد البشرية، والتحفيزات الضرورية، والتراتبية الادارية الموفرة لحرية المبادرة، وتوسيع أفق الابداع المعرفي والتربوي المشترك، وترصيد التجارب الناجحة مؤسسيا، واقليميا، وجهويا، ووطنيا، بعيدا عن الحسابات الايديولوجية والموازنات المالية المنضبطة لإكراهات النيوليبرالية المتوحشة الخاضعة لإملاءات الصناديق الدولية.
إن التشغيل بالتعاقد لا يمكن ان يشكل بديلا عن الاستقرار المهني والمجتمعي، كما لا يمكن ان يضمن تجويدا للتعليم والتربية،لانه يمس عمق الإحساس بالثقة في القرارات السياسية المؤطرة للقطاع، وبالأمان في استمرار أداء المهام، ويهدد مستقبل البلاد في ولوج مجتمع المعرفة، واستقرار المهنة، ويضع المدرسة موضع سؤال وجودي تجاه علاقة الاسرة بالمؤسسة، وبالتالي تجاه المجتمع والدولة، ان تبخيس دور مؤسسات المجتمع المدني، وتحويلها إلى مقاولات مادية ممنوحة الارصدة من الدولة، لا يضمن تبعيتها للدولة نفسها، ولكن يحولها الي هيئات مؤقتة قابلة للانقلاب التصوري متى أحس منخرطوها بالمساس بمستقبل ابناء أعضائها وكيانهم المعرفي في الانخراط في التنمية المجتمعية والوظيفية.
ان مستقبل المهنة مرتبط بالفاعلين فيها على الخصوص، وهو رهين بمدى ثقتهم في الاصلاحات المتبعة حتى أحسوا بأنهم في صلبها، وانهم مسؤولون عن انجاحها، وذلك لا يتأتى الا برؤية تربوية رصينة مشتركة تفضي الى بناء تصور عام يجد فيه الفاعل رأيه مأخوذا به بجدية في القرار السياسي التعليمي، يتضامن فيه الاباء والأولياء والاستاذ والإداري والوزارة والحكومة والدولة بما يشي بوحدة وطنية يحتل فيها القطاع الرتبة الحقيقية المعلنة من لدن الدولة.
ان الفرضيات التي وضعتها الدراسة، تجد مقبولية كبيرة بحكم التاريخ المتكرر للاصلاحات المتعاقبة على القطاع، وبمقتضى تجربة الإطار الذي وضعها، وبما أكده تاريخه
من خلال نضالاتوبياناته وبلاغاتهوحواراتها مع الجهات المعنية، بما يؤكد الخبرة المطلوبة في الترافع والتفاوض، وبما يغني عن آليات مصطنعة لاستقلال الزمن وتبخيس الاطارات الممثلة للشغيلة التعليمية، وهو مدعاة لاختزال الزمن والجهد في المشاورات المبتذلة، والمحاولات للتقليل من قيمة الهيئات الممثلة.
ان إعادة الاعتبار للتعليم رهين باستقلال القرار التعليمي عن القرارات السيادية، وجعله قرارا ديمقراطيا مجتمعيا، يستهدف تسييد الدولة المجتمع عن مجتمع الدولة بما يضمن جعل المؤسسة خادمة للمجتمع والدولة معا، في اطار تعاقد سياسي ديمقراطي يضع المؤسسة التعليمية فوق كل المزايدات الايديولوجية والمصلحية الخاصة والطبقية، ويرتقي بها إلى الحياد الفكري بما يضمن حرية الاختيار المشترك، والقرار الفردي الحر، ان تسليع المدرسة يعني تسليعا للحق في المعرفة، وهو ما يفيد غيابا لتكافؤ الفرص في ديمقراطية التوزيع العادل للمعرفة والعلم، ويشي بسيادة المال على المعرفة، مما يجعل هذه الاخيرة رهينة امتلاك المال لا الإرادة والكفاءة وبالتالي الوطنية، وهو ما يعطل مبدأ النزاهة في التنافسية الحرة في اظهار النبوغ والكفاءة والقدرة على التطوير، ويحولها الى فرص تعتريها الزبونية والصدفة، مما يشي بقتل المبادرة البناءة وتحويلها الى تبعية للمال وارتهان لسوق المال الذي قد لا يعترف بالكفاءة المعرفية طبقا لقانون الرأسمالية الجاهلة بقيمة الانسان والمحتفية بقيمة الربح المادي.
ان الأمان المجتمعي رهين بالأمان المعرفي، وهذا الاخير رهين بالأمان المدرسي، وكل ذلك رهين بالاحتفاء بالمورد البشري المحرك للمؤسسة المعرفية، انه في نهاية المطاف امرأة التعليم ورجله، الذي ينبغي ان يعاد إليه الاعتبار تكوينا وتحفيزا وانتقاء.


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 23/02/2021