لقد تراءى لي في منام الله : الصديق والمبدع والصحفي “المهدي الودغيري” يبتسم كعادته، ويمد يده إليه، لكي يصافحني ! بكل صدق لم أبادله أمر التحية ! لأنني خفت من تلك الحركة (؟) هل هي مصافحة عادية، أم تحمل لغة الانجرار لعالمة الأبدي(..) طبعا كلنا ذاك الرجل، وإن لم يكن للحلم علاقة إحساس بالخوف ، فلقد تعشش ( ذاك)الخوف في منطقة ( الهوَّ) بكثرة ما أعيش إلا مع الإخوة والرفاق الموتى والوالدين والأقربين… بحيث بدون سابق إعلام: يقتحم أو يتسلسل أحد: الفنانين أو المبدعين أو الأدباء الذين رحلوا عنا. [رحمة الواحد الديان: لهم ] خلوة نومك ، وإن كان عامل السن ، لا يساهم بحال من الأحوال استغراقنا في النوم كالأطفال/ الشباب. ليتقلد بناء مشهد الحلم، حسب انفتاح ( الهوَّ ) وموت (الرقيب) ممَّا كِـدت أشعر بالخوف ؛هذا إحساس، ونزوع ، تلبسني خلسة ، وأمسى يفرض علي أن أنهض مفزوعا من منامي/ نومي . هكذا وقع مع القاص والأديب” المهدي الودغيري” الذي ربما حضوره ـ إشعار بدخوله عوالم النسيان، ولكن [اثنان وعشرون ] سنة من وفاته [03/أكتوبر/2002] هل كافية لنسيانه؟ ما أعتقد، ولكن طبيعة تفكيرنا وسلوكنا: التناسي والإقصاء، تشمل الراحلين وحتى القابعـين ! طبعا نتفق مبدئيا ، بأننا ضد صناعة الرموز، ولكن على الأقل إحداث فلتات للذكرى والتذكر تجاه أغلب الفعاليات (…) رغم الإختلاف في بعض الجزئيات الإيديولوجية والرؤيوية والثقافية…ولكنها [كانت[ صادقة ؛ طاهرة؛ عفيفة؛ وطموحة لوطن مشرق، وفاعل وفعال في شتى المجالات. ففلتات الذكرى والتذكر من أجل ترسيخ ثقافة الاعتراف، وتحقيق الامتداد بين الأجيال، وأبعد من هَـذا محاولة استعادة الحرارة الثقافية والإبداعية، التي كانت مشعة في الصحف الوطنية، ومقرات الأحزاب والنوادي الثقافية. فالقضية ليست نوستالجيا، أو أضغاث أحلام ، بل بالإمكان تحقيقها، عبر التوطين، أو أندية شبابية، أو في المؤسسات التعليمية ، لتحقيق الاستثمار الثقافي. رغـم الغـزو التكنولوجي ووسائل التواصل في حياة المواطن .
فتذكري للمبدع والصحفي الراحل عنا منذ عقدين( المهدي الودغيري) النموذج الحامل للهَـمّ الثقافي والسياسي .ربما نتيجة فزع المنام؟ ولربما تلك العلائق والصداقة التي كانت تربطنا، ففي نهاية كل أسبوع، كنا نلتقي في مقهى( مرحبا ) بفاس، رفقة إخوة في “جمعية نجوم المسرح” أغلبهم كانوا رفاقه في المدرسة التقنية الصناعية. بحيث الجلسات كانت لا تخلو من طرائف وإثارة للوضع الثقافي والفني، وغالبا كان يتحفنا بجديد أزجاله. وفي هذا الباب أتذكر جيدا قبل وفاته المفاجئ بشهور، استعرض علينا قصيدة ( ميت غـدا ) وإن لم تخن الذاكرة، كان مطلعها: ((علي مردوم التراب الندا…/ علي مردوم…/أنا جثة تحت اللحْـــدة…/ ينـْبت فوقها شوك ودوم…))
فهل الإبداع بمثابة وحي ؟ أم المسألة كانت مصادفة ليست إلا؟ أم هو إحساس عفوي، ارتباطا بسريرته البريئة ؟ لأن الراحل كان مبدؤه الأسمى “ترسيخ ” تقاليد التعارف والتعريف ، إذ كان يبادر من خلال نشاطه الإبداعي والصحفي ؛ بالتعريف بكل مبدع أو أديب كيفما كان شأنه ،مؤمنا بفكرة التشجيع والدعم ، ولو لمخالف الرأي معه، هكذا تعلم في جريدة ” المحرر” قبْـل توقيفها من قِـبل السلطات. وبتقديم المراثي بحس نبيل، ومنطق صادق النية والنوايا، أمام أي خطب جلل، وجريدة “الإتحاد الإشتراكي” التي واصل مسيرته الصحفية فيها. فصفحاتها شاهدة على ذلك، ففي هاته الصحيفة تراكمت له تجربة رائدة، وعطاء مضاعفا. رفقة العَـديد من الفعاليات الثقافية والصّحُـفية ، وبما أن الكلمة حق ليست عليها جواب، فلقد راكم رصيدا هائـلا من المقالات والدراسات والتحقيقات…. فأين هي الآن؟ إنها جوانية [ أرشيف] الجريدة. ففي تقديري، فالمعضلات التي تعيشها ثقافتنا في أبعد تجلياتها: ( النكران) نكران تضحيات رجالات ونساء في رحاب المشهد الثقافي والإبداعي والسياسي حتى ! فلماذا لانخلق أنماطا دؤوبة للتعريف بمن أعطوا وساهموا في إثراء المشهـد الفكري والثقافي ، وما أكثرهم . وذلك نمط لسد المنافـذ عن التفاهة والإسفاف والادعاءات والمزايدات التي طغت في هذا الزمن، وبشكل مهول.
لا ننكر بأن النسق الثقافي مكون من مكونات المجتمع، فلهذا لـم يكن بمنأى عن التحولات الكبرى التي وسمَت مجتمعنا ، حيث تأثر الحقل الثقافي وغيره، بتأثر البنية الديمغرافية ونوع العلاقات الاجتماعية المستجدة، ووسائل التواصل ذات البعْـد السلبي… ولهذا فلماذا لا نسعى المساهمة، وتحقيق المبادرات بكل القوى في مسألة التدبير الثقافي ؟ لنفض غبارالتناسي و التهميش لفعاليات الإبداع المغربي . وفي نفس اللحظة
تفنيد أطروحة موت ( المثقف) في معناه الإبستيمولوجي؟
طبعا ( كانت) هنالك محاولات جادة، ولكن تفعيلها كان محتشما، وصوتها كان خافتا، وامتدادها شبه معْـدوم. لأسباب تستخلص بشكل مباشر في عدم المآزرة والتعاضد، والدعم المعنوي.
وفي إطار حمولة الذكرى :لماذا لا يتخذ “اتحاد كتاب المغرب” رغم مشاكله (؟) البادرة لإنجاز كتاب يتضمن تجميعا لما دونه” المهدي الودغيري” في جريدة “الإتحاد الإشتراكي” التي لا ننكر بأنها بين الحين والحين تتذكره عبر نشر بعض منجزاته. ولماذا لا تبادر إحدى دور النشر، لنشر ما أعطاه الراحل، وما كتب عن أعماله القصصية والزجلية ؟ ليس من باب المفاضلة، أو الإنتقائية. بقدر ما هو عُـربون اعتراف، له ولغيره من الفعاليات المغربية. إذ يعتبر الكاتب والصحفي “المهدي الودغيري” نموذج للمثقف الذي يَملك ويمتلكُ حماسا واضحا في متابعاته وببيوغرافيته ، التي كان ينجزها. إنه نموذج للمهْـووس بالهموم اليومية للفئات الشعبية ، وهذا كان يعبر عنه في أزجاله وقصصه ،،، التي تدور رحاها عن الفقر والحاجة والرعب و الحرمان والقهر الإجتماعي، مما كان ميالا بشكل تلقائي، الخوض في إضاءة وتسليط الأضواء على الشريحة الشعبية، في بنيته السردية والتخييلية. من خلال ملامسة الواقع، ومعانقة الحلم. وذلك استشعار إحساس بالآخر، الذي يتقاسم معه الماء والهواء.
طبعا الكاتب “الودغيري” ليس هو الوحيد كوجه إعلامي بارز؛ وإبداعي معروف، بل هنالك العديد ممن في مصافه أو أكثر، لكن الراحل كانت له خصوصيات متفردة جدا، بحيث كان الفعل الإنساني يسبقه ، وابتسامته الهادئة، عربون براءة طويته وسريرته . وحضوره الفعلي والملتزم في كل التظاهرات الفكرية والثقافية، ولا نغفل أنه كان متشعب الاهتمامات / الصحفية / الشعرية / القصصية / المسرحية / الروائية / كلها تحمل وتتقاطع في البعد الجمالي و الإنساني. بحكم أن الكتابة كانت لديه إحساس رهيب بالعالم المتضمن للذات والآخر الذي يتقاسم مع الذات همومها وأحلامها . وبالتالي فهو لم يكن يستكين أو ينحاز إلى روتين الكتابة بذاتها بل يفعلها في سياق اهتماماته، ذات قيم إنسانية و نبيلة… ويمكن أن نشير أنه كان مشاغبا بالكتابة ، رغم هُـدوئه المتميز….