في خضم عالم يتخبط في صراعاته وانقساماته، تأتي الذكرى السنوية لليوم العالمي لحرية الصحافة، لتذكرنا بحقيقة لا غنى عنها، لا حرية للناس بدون حرية للصحافة.
بهذه الكلمات استهل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش رسالته المصورة بمناسبة الثالث من ماي 2025، منبها إلى أن الصحافة الحرة والمستقلة ليست ترفا، بل خدمة عامة أساسية تمثل العمود الفقري الذي ترتكز عليه قيم المساءلة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
فحين يسلب الصحفيون القدرة على نقل الحقيقة، يخسر المجتمع برمته.
الرسالة، وإن بدت في ظاهرها تحية رمزية، إلا أنها حملت نداء عاجلا لإنقاذ مهنة تتعرض للتضييق والتصفية،فالاعتداءات والرقابة والاحتجاز والترهيب باتت جزءا من حياة الصحفيين اليومية، أما الموت، فقد صار الثمن المدفوع مقابل نقل الواقع.
وقد سجل الأمين العام بقلق بالغ الارتفاع المهول في عدد الضحايا من الصحفيين، خاصة في مناطق النزاع وعلى رأسها غزة، حيث تدفع تكلفة حرية التعبير بالدم.
لكن التهديد لم يعد محصورا في الرصاص وحده، إذ برزت جبهات جديدة أكثر دهاء وخفاء، تتجسد في الخوارزميات المتحيزة، وخطابات الكراهية، والمعلومات الزائفة المضللة التي تبث عبر منصات الذكاء الاصطناعي. إنها ألغام معرفية على طريق الحقيقة، لا تقل فتكا عن الرصاص.
وقد حذر غوتيريش من أن هذه الأدوات التقنية يمكن أن تكون سلاحا ذا حدين، إما داعما لحرية التعبير أو أداة لقمعها. وقال إن “التعاهد الرقمي العالمي” الذي اعتمد العام الماضي جاء ليعزز التعاون الدولي في سبيل فضاء رقمي آمن، ويضع قواعد أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي بما يحترم حقوق الإنسان ويمنح الأولوية للحقائق.
هذا الإدراك الأممي لحجم التحدي يعكس وعيا متقدما بأن المعركة لم تعد فقط في الشوارع أو أروقة المحاكم، بل انتقلت إلى عمق الشيفرات الرقمية.
ومن هنا تبرز أهمية المبادئ العالمية لنزاهة المعلومات، كخط دفاع أخلاقي وتقني في آن واحد.
غير أن الصحافة اليوم لا تحتاج فقط إلى الحماية من أدوات القمع التقليدية، بل إلى حصانة من التضليل، وقدرة على استعادة ثقة الجمهور. فالإعلام المسؤول هو ذاك الذي يضع النزاهة فوق السبق، والكرامة فوق الإثارة، والإنسان فوق الأرقام.
وفي ختام رسالته، دعا الأمين العام إلى تجديد الالتزام بصون حرية الصحافة وحماية الصحفيين في كل مكان، قائلاً: “فلنجعل من هذه الذكرى دافعا للعمل من أجل إعلام حر، مسؤول، ومحصن ضد التزييف والخوف”.
فهل ستلتقط الحكومات والهيئات الإعلامية هذا النداء؟ أم أن الصحافة ستبقى وحدها في خنادق المقاومة، تكتب بالحبر والدم في آن واحد؟.