في ذكرى رحيل الموسيقار عبدالسلام عامر

ولد الراحل عبد السلام عامر في فاتح أبريل من سنة 1934 بمدينة القصر الكبير. ولحظه العاثر توفي والده، وشاء القدر حرمانه من نعمة البصر في سن مبكرة. وليخرج عبدالسلام من هذا السواد الذي ألم به التحق بالكتاب القرآني لحفظ القرآن الكريم، وبذلك استطاع الانفتاح على العالم الخارجي والاختلاط مع أقرانه.
بعد مرحلة الكتاب، تابع عبدالسلام عامر دراسته الابتدائية بالمدرسة الأهلية الحرة بمسقط رأسه. وهنا لاحت بوادر تنم عن نبوغ فطري يتمتع به هذا الفتى، حيث كان يقوم بإعداد الأناشيد والأغاني كلمات وتلحينا في شتى المناسبات، ولقيت استحسانا من أساتذته وأقرانه، فزاد شغفه بالفن الغنائي، وتقوت ملكته الفنية، وصقلها بكثرة استماعه إلى المذياع الشيء الذي ساعده على التهام العديد من التواشي الأندلسية، والأغاني والقصائد الشرقية والمغربية التراثية والعصرية، بالإضافة إلى تردده المستمر على جلسات المديح والسماع بالزاوية القادرية بمدينة العرائش، وعلى النوادي الأدبية مع رفيق دربه حسن الطريبق.
تدرج عامر في الدراسة إلى السنة الخامسة ثانوي، ثم انقطع عنها ليتحمل أعباء عائلته الفقيرة، فشد الرحال إلى الإذاعة المركزية بزنقة لبريهي بمدينة الرباط، إلا أنه منع مرارا من الدخول، وقوبل بالتجاهل والاستخفاف. ورغم ذلك، ظل عامر يتردد على الدار إلى أن التقطت يوما أذناه صوت أحد العاملين بها ينادي عبد الرفيع جواهري، فصاح بدوره كمن يطلب النجدة : « السي عبد الرفيع .. السي عبد الرفيع …»، التفت إليه شاعرنا، وقد كان آنذاك صاحب ركن إذاعي متميز.
قدم إليه عامر نفسه، فأخذه السي عبد الرفيع إلى داخل الإذاعة، وقدمه إلى بعض الموسيقيين والمغنيين، وعلى رأسهم عمرو الطنطاوي وعبد الوهاب الدكالي وإسماعيل أحمد … استمعوا إليه وأعجبوا بما غناه لهم من تلحينه. وفي سنة 1959 سجل عامر مع الجوق الجهوي لمدينة فاس برئاسة الملحن أحمد الشجعي أول إنتاج غنائي من كلماته وألحانه وأدائه، ويتمثل في أغنيتي: « ما بان خيال حبيبي « و» قالت لي روح «، وبعض القصائد الرمضانية، كما سجل بصوته أغنية « السانية والبير « للفنان الحسين السلاوي.
اعتمد عبد السلام عامر في تلحين أغانيه على المخزون التراثي الذي احتفظت به ذاكرته منذ صباه، ولكنه شعر بأن هذا النوع مصيره الفشل، وفي سنة 1961 بدأت انطلاقته الحقيقية مع المغني الشاب عبد الوهاب الدكالي ـ وبأسلوب فني جديد ـ بقصيدتين
من شعر محمد الخمار الكنوني: «آخر آه»، ثم قصيدة «حبيبتي»، فكانتا قنبلة الموسم الفني، وأحدثتا ضجة لما جاء فيهما من تجديد حتى جرتا على كل لسان، وبذلك فتحتا جديدا بالنسبة للأغنية المغربية الحديثة. بعد هذا النجاح الفني تدفقت ألحانه، وبدأ رحلته مع الشاعر المقتدر عبد الرفيع جواهري الذي يعود له الفضل في إبراز هذه الموهبة المبدعة، فكونا معا ثنائيا متميزا، إذ ما نطقه الجواهري
شعرا بديعا، ردده عامر لحنا رائعا. و كانت باكورة تعاملهما أغنية: « ميعاد « التي أعطت لصوت عبد الهادي بلخياط مجاله الغنائي، فجاء مصقولا مهذبا، ودوت التصفيقات، وانطلقت عبارات الإعجاب مع ظهور الرائعة الخالدة قصيدة «القمر الأحمر» التي تعتبر عملا فنيا متكاملا ومتميزا وفريدا سبق زمانه:
ــ فهي عمل متكامل جمع بين كلمات الشاعر المبدع عبد الرفيع الجواهري، والصوتين الجميلين للمطرب عبدالهادي بلخياط والمطربة بهيجة ادريس والملحن العصامي والمجدد عبدالسلام عامر.
ــ وهي عمل متميز بأسلوبه الموسيقي المغربي الجديد على مستوى التعبير والتوزيع الموسيقي وتوظيف الآلات الموسيقية العربية والغربية والمؤثرات الصوتية الطبيعية والاصطناعية البسيطة لمحاكاة الطبيعة ودمجها بإلقاء الصوت البشري(الشاعر عبد الرفيع جواهري والممثلة المقتدرة أمينة رشيد)، فطبع روح الإبداع في هذه الرائعة الخالدة دون أن يشعر المستمع إليها بالملل، ولا أفقدها الزمن جودتها ومكانتها إلى اليوم.
لقد استطاع الراحل عبدالسلام عامر بفضل موهبته الفطرية وقدراته التعبيرية الكبيرة، ورؤيته الفنية الخاصة أن يجدد الأسلوب الموسيقي للقصيدة الغنائية المغربية ، ورغم حرمانه من نعمة البصر جعلنا عامر نرى الصور الشعرية للطبيعة المغربية من خلال جمله الموسيقية المعبرة انطلاقا من المقدمة الموسيقية ومرافقتها للنص الغنائي، ومع نهاية المقدمة يبدأ المطرب عبدالهادي بلخياط بهدوء في أداء حر لمطلع القصيدة بصوته الشجي (خجولا أطل وراء الجبال .. وجفن الدجى حوله يسهر)، ويصل في البيت الثاني إلى طبقات أعلى لإظهار قدراته الصوتية ولإبراز عظمة نهر أبي رقراق(ورقراق ذاك العظيم ) ثم ينتقل إلى الغناء الموزون في صدر البيت الثاني من القصيدة (على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر)، وهكذا حلق بنا على طول القصيدة بين السفوح والجبال والأنهار والمراعي والروابي والمروج، وجعلنا نستمتع بضياء القمر الأحمر الذي أزاح عنا ظلام الدجى، موظفا بذلك مهاراته في صياغة الجمل الموسيقية والانتقالات النغمية وحسن توظيف الآلات الموسيقية والتوزيع الموسيقي الذي جمع بين العزف الأوركسترالي واللحن الميلودي والتقاسيم على الآلات الوترية ( العود والقانون والناي والكمان) وإدخال بعض الآلات الغربية الإيقاعية والهوائية.
ــ وهي عمل فريد لأن عامر كان نبعا فياضا يغرف منه ثروة من الألحان كلما تحركت أوتار قلبه، فهو لا يعزف على أي آلة موسيقية، ولا يمتلك تكوينا موسيقيا أكاديميا، بل يعتمد في تلحينه على أسلوب الدندنة فقط، ويرفض سيطرة الآلة الموسيقية عليه إيمانا منه أن العازف يعطي ألحانا في مستوى كفاءته في العزف، ولذلك تغلب عليه التقنية والبراعة في خلق الجمل الموسيقية أكثر من اللحن الذي يصدر من وجدان الملحن غير العازف بعد انفعاله مع كلمات القصيدة أو الأغنية، فينساب صافيا رقراقا، ويصب في كل قلب تهتز معه أحاسيسه وتستيقظ مشاعره الكامنة. وكان يعتمد في تدوينها على أساتذة المعاهد الموسيقية، أو يقوم شخصيا بتلقينها للعازفين، كما كان يعتمد في عزفها على العازف البارع على آلة العود الراحل عمرو الطنطاوي.

وهكذا استطاع عبد السلام عامر اختراق جدار التجاهل والتهميش بكفاءته العصامية، وبصبره وطموحه وبحثه الدؤوب في أسلوب القصيدة الغنائية المغربية المتميزة مضمونا وبناء، عزفا وغناء بعيدا عن أسلوبي المماثلة والاقتباس، وقد اغتنم فرصة تواجده بالقاهرة لمدة سنتين من احتكاكه بأهل الفن، وخاصة الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي قال بعد استماعه إلى قصيدة «القمر الأحمر»: ( يكون لي عظيم الشرف أن تكون أسطوانة «القمر الأحمر» في خزانتي ). فاستقى عامر من زيارة مصر معلومات وافرة كانت عاملا هاما في تكوين ملكته الفنية التي أصبح بفضلها قادرا على الإبداع والتجديد في عالم النغم العربي.
وبعد عودته من مصر إثر اندلاع حرب 1967م، استقر بدرب الجديد بقرية الجماعة (السباتة) بمدينة الدار البيضاء ليواصل إبداعه الفني، فأطلق قصيدة «الشاطئ» من شعر مصطفى عبد الرحمان وغناء عبد الهادي بلخياط، وكانت بحق غزوا آخر للأذن المغربية والعربية. ثم توالت أعماله الفنية الجليلة والتي كانت سببا رئيسيا في نجاح كل الأصوات الغنائية المغربية التي أدتها بتفوق، ونذكر منهم: عبد الوهاب الدكالي، عبد الهادي بلخياط، محمد الحياني، عبد الحي الصقلي، إسماعيل أحمد، رداد الوكيلي وليلى الشنا…
أما أهم أعماله فهي: آخر آه، حبيبتي، ميعاد، القمر الأحمر، واحة العمر، الشاطئ، تعالي، راحلة، قصة الأشواق، حديث عينيك، موكب الخالدين، مواكب النصر، سبحان الإله، وطني يا قلعة الأسود، النخيل، وغنت لنا الدنيا… وقام أيضا بالتمويج الموسيقي لمسلسل « يامنة « الذي كتبه خالد مشبال الإعلامي بإذاعة طنجة الجهوية، ولحن فيه خمسة عشر أغنية، ثم وظف الإيقاعات الشعبية والموسيقى التصويرية العربية… وما زالت أصداء هذه الباقة من الألوان الموسيقية الرفيعة ترن في آذاننا، وسيرة عامر الفنان راسخة في وجداننا، وستظل منقوشة في الذاكرة الخالدة، وعبرة وقدوة في المشهد الموسيقي.
وقد شاءت الصدف صيف سنة 1971، حين كان عبدالسلام عامر وعبدالحليم حافظ موجودين بالإذاعة المركزية بالرباط لتسجيل بعض أغانيهما الوطنية بمناسبة عيد الشباب، فحدث انقلاب الصخيرات، وحاول الانقلابيون الذين احتلوا دار الإذاعة في بداية الأمر مع المطرب عبدالحليم لتلاوة بلاغ الانقلاب، إلا أنه أقنعهم بأن المستمعين لن يصدقوا البلاغ بحكم لهجته الشرقية، فأرغموا عامر على حفظ وتلاوة البلاغ. وبعد فشل الانقلاب تم اعتقال عامر وحبسه، إلى أن تدخل الأمير مولاي عبدالله رحمه الله ليطلق سراحه.
ومن المؤسف له تم طمس الحياة الفنية لعبدم السلام عامر، وذلك بعدم ذكر اسمه وإدراج أعماله الغنائية إلى أن قدم ألحانا جميلة لبعض الأغاني الوطنية مثل «موكب الخالدين» و»موكب النصر» الشيء الذي منحه إفراجا نسبيا فقطـ، ومع ذلك لم ينصف عامر لا في حياته ولا بعد مماته، ولم ينل ما يستحقه من اهتمام واحتفاء وتقدير حتى من أكبر وأكثر المستفيدين من عطاءاته الفنية، وقد صدق شاعرنا عبد الرفيع جواهري حينما قال: « عاش عبد السلام عامر غريبا. ومات غريبا «، ولعل في هذه القولة دلالة كبيرة على حجم المعاناة التي قاساها، والمرارة التي تجرعها، فتحملها رغم إصابته بداء السكري، وأدخلته فيما بعد مستشفى السويسي بالرباط لإجراء عملية جراحية بسيطة لاستئصال الدودة الزائدة، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة يوم الاثنين 17 جمادى الثانية عام 1399 هـ الموافق 14 ماي 1979 م، ولم يتجاوز بعد الأربعين سنة من عمره. ودفن بمقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء.


الكاتب : عبدالله رمضون

  

بتاريخ : 17/05/2023