أكدت دراسة سابقة، كانت قد أنجزتها المديرية الجهوية للمندوبية السامية للتخطيط، على أن عدد الباعة الجائلين في مدينة الدار البيضاء الكبرى يقدّر بحوالي 128 ألفا و572 شخصا، مبرزة أنهم يعادلون 10 في المئة من مجموع السكان النشطين، وأن حوالي نصف هذا العدد هم يتواجدون بتراب عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان.
وحسب الدارسة المذكورة، فقد جرى تحديد 30 نقطة بيع موزعة على مختلف تراب منطقة درب السلطان الفداء، وحصرت انعكاسات ظاهرة البيع غير المنظم بشكل خاص، في المنافسة غير الشريفة للقطاع غير المنظم، وحرمان الدولة والجماعات المحلية من مداخيل مهمة، وترويج مواد غذائية فاسدة، ومأكولات غير صحية، وسلع غير مراقبة، إضافة إلى أن المجال يعتبر ميدانا خصبا للرشوة والزبونية.
مرّ حادث اعتداء بائع متجول على عونين للسلطة يعملان بالملحقة الإدارية 17 بتراب عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان بالدارالبيضاء، خلال شهر رمضان الذي ودعناه قبل أيام، مرور الكرام، رغم خطورة الفعل، بعيدا عن تحميل المسؤولية للبائع/المعتدي دونا عن غيره، بالنظر إلى أن البحث الذي أجري معه، قد يكون سلّط الضوء على عدد من التفاصيل المستترة. هذا الحادث الذي أدى إلى نقل الضحيتين على وجه الاستعجال إلى المستشفى من أجل تلقي العلاجات، الأول من أجل إنقاذه جراء الطعنة التي تلقاها في كليته، والثاني الذي ظل السكين مغروسا في عنقه، إذ بالرغم من فداحة الوضع فقد تم التعامل معه من طرف السلطات المختصة ببرودة، جعلت المتتبعين يطرحون أكثر من علامة استفهام، حول الدوافع التي ساهمت وما تزال في استفحال ظاهرة احتلال الملك العمومي، والغايات من مواصلة شرعنة الفوضى، وعدم السعي لتنظيم هذه الفئة، بما يحافظ على ضمان عيشها وتمكينها من كسب قوتها اليومي، ويمكّن المارة من راجلين ومستعملي الطريق من حقهم في الرصيف والشارع، بعيدا عن أية مواجهات لفظية التي قد تتطور في كثير من الحالات إلى مواجهات صدامية جسديا، ويحافظ على حقوق أرباب المحلات التجارية؟
تنظيم وحلول
يتذكر المتتبعون للشأن المحلي كيف أولت سلطات منطقة الفداء مرس السلطان على عهد الوالي مدير الجماعات المحلية حاليا، خاليد سفير، الذي كان عاملا للعمالة آنذاك، اهتماما كبيرا لملف الباعة الجائلين، إذ تم تسطير برنامج علمي وعملي من أجل حلّ هذه المعضلة، وتنظيم المعنيين بالأمر عبر قطع مجموعة من الأشواط، حتى يتسنى تقديم إجابات عن الأسئلة الاجتماعية لساكنة المنطقة التي تمتهن البيع بالتجوال من خلال «الفرّاشات»، سواء تعلّق الأمر بأشخاص متقدمين في السن، أو شبابا عاطلين، أو أرامل وغيرهم، ممن لا مورد عيش لهم إلا «الفرّاشة».
برنامج تأسس على تنظيم الباعة الجائلين في إطار أسواق متنقلة، تهدف إلى حماية مصالح التجار المنظمين من المنافسة غير المشروعة، وضمان مداخيل قارة لهؤلاء الباعة، والحفاظ على الخصوصية التجارية للمنطقة، وإخلاء الممرات العمومية. وارتكز البرنامج على تحديد مناطق حمراء تمنع فيها كليا تجارة الرصيف، ومناطق زرقاء يسمح فيها بذلك، مع وضع أجندة زمنية لتحديد الأوقات التي يسمح فيها بممارسة هذا النوع من التجارة مرة واحدة في اليوم، في منطقة معينة مع منع استقرار الباعة المتجولين في الأماكن ذاتها، وتم وضع مجموعة من الشروط التي تقوم على محاربة التجارة بالعربات والقطع مع ظاهرة عرض السلع والبضائع على أفرشة قارة في الملك العموم.
وكانت السلطات المختصة قد أشارت إلى أن عملية التنظيم ستشمل تراب العمالة بشكل عام، وليس فقط على مستوى شارع محمد السادس والأحياء المتفرعة، كما هو الحال بالنسبة للقريعة نموذجا، مع حمل الباعة المتجولين لشارات ولباس موحد، والتسجيل في الضريبة التجارية، وتوحيد طريقة عرض السلع … وغيرها من الخطوات.
مجهودات تم يذلها وخطوات تم قطعها، على عهد سفير ومن بعده العامل محمد عارف، حيث تم بالفعل تقليص أعداد الباعة الجائلين من أصحاب «الفرّاشات»، من خلال حملات منظمة باعتماد مقاربات متعددة، مكّنت من القدرة على التعاطي مع هذه المعضلة التي استفحلت في الوقت الحالي، فتم تحرير سوق القريعة، الذي شُيّدت به الخيام، وتمّ هدم «الأعشاش» على صعيد تراب العمالة، وبالأزقة المحيطة بقيسارية الحفارين، وفتحت حركة السير في الاتجاهين بزنقة العباسيين، وتم إخلاء شارع محمد السادس، وذلك باعتماد تقليص أعداد «الفرّاشات» إذ كان هناك من يمتلك أكثر من «فرّاشة»، مما ساهم في اغتناء البعض على حساب من هم في حاجة حقيقية، وتم فسح المجال لساكنة المنطقة على حساب أشخاص آخرين يتوافدون عليها من عمالات أخرى بالبيضاء وضواحيها، إلى جانب فسح المجال في حدود مساحات معينة للحالات التي تعرف توافقا مع أصحاب المحلات التجارية فتراجع عدد الباعة الجائلين إلى حوالي 5 آلاف بائع.
تقهقر واندحار
مسار تنظيمي امتد لسنوات، ورصدت له إمكانيات بشرية ولوجستيكية، وبذلت في سبيل تحقيق أهدافه الكثير من المجهودات، لكن وبكل أسف كأنه لم يكن، وكل الأشواط التي تم قطعها عادت إلى نقطة الصفر خلال الفترة الحالية من تسيير عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان، إذ انتقل عدد الباعة الجائلين من 5 آلاف، هذا الرقم الذي تم الوصول إليه بعد جهد جهيد، إلى حوالي 50 ألف بائع يحتلون مسالك العمالة كلها، من القريعة إلى حي عمر بن الخطاب، مرورا بقيسارية الحفارين وشارع محمد السادس، الذي لم يعد تواجد «الفرّاشة» فيه محصورا في النفوذ الترابي للملحقة الإدارة 17، بل انتقلت العدوى إلى تراب الملحقة الإدارية 19 درب الكبير، على مستوى زنقة احمد الصباغ، والأزقة المتفرعة، وامتد «الورم» فطال النفوذ الترابي للملحقة الإدارية 20 طرابلس، على مستوى الشارع وبالأزقة المتفرعة بكل من درب الشرفاء والطلبة، حتى أصبحت «الفرّاشة» رمزا للعمالة كلها!
تجارة «الفرّاشة»
«الفرّاشة» بدرب السلطان، ليست مورد عيش ومصدر دخل لذلك البائع الذي يفترش الأرض، الذي قد يبيع أشياء بسيطة بدراهم معدودة، تجعل المتتبع يتساءل عما قد يكسبه منها، وهل سيمكّنه من مواجهة تحديات الحياة اليومية ومتطلباتها، بل هي مصدر غنى لمن يمتلك أكثر من «,واحدة»، الذين حولوها إلى محلات تجارية في «العراء»، وهي مصدر كسب سريع بدون مجهود لمن يؤجرونها للغير، إذ يكتري باعة من غيرهم مساحات تختلف أسعارها بحسب المواقع، وفقا لتأكيد مصادر مطلعة من هذا الملف، فهناك من يسدد مبلغ 9 آلاف درهم مقابل رقعة جغرافية في الشارع العام، وهناك من يكتري «فرّاشته» بخمسة آلاف، و 4 ثم 3 فألفين …
إسفلت تمت مصادرته والهيمنة عليه من طرف البعض، على حساب فقر وحاجة البعض الآخر، وتطاولا على حقوق مستعملي الطريق، مما زاد العمالة اختناقا، وهيمنت «الفرّاشات» على كل شبر، ليس فقط على مستوى الشوارع الرئيسية بل وحتى بالأزقة الداخلية؟
سوق قروي بمجال حضري
كثيرون يعرفون أن درب السلطان يحتضن نشاطا تجاريا خاصا يومي الأربعاء والسبت، إذ تكون المنطقة قبلة لمن يرغبون في اقتناء ملابس وغيرها بأثمنة في المتناول، وإذا كان البعض يختزل حضور هؤلاء الباعة في شارع محمد السادس، فإنهم لا يعلمون أن سوقا قرويا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، يعقد ما وراء القيسارية وتحديدا وسط حي بوجدور. سوق تتوفر فيه كل مواصفات الأسواق، لغة ومبيعات وطقوسا، يترك بصمته على المنطقة منذ سنوات خلت، ويرسخ لصبغتها التجارية، أخذا بعين الاعتبار أن الحي الذي يقام به، شكّل محور محاولة لاحتواء الباعة الجائلين وتنظيمهم في فترة خلت، لكنها فشلت بعدما وجد المعنيون بالأمر أنفسهم في حكم «الإعدام» بالنظر إلى أن المنطقة داخلية لم تستقطب إليها المواطنين الذين يفضلون اقتناء ما يرغبون فيه من الشارع وينصرفون لحال سبيلهم بعيدا عن الازدحام.
كراج علاّل أو البالونة
إذا كان الكلّ يجمع على الفوضى التي تعيشها المنطقة، و»التقاعس» الذي يطبع عمل السلطات المحلية، فإن الدعوات الموجّهة لها، لا تقوم على حثها لكي تحارب الباعة الجائلين من أصحاب «الفرّاشة»، وقطع أرزاق الفقراء المحتاجين الذي لا معيل لهم ولا مورد رزق لهم إلا هذه «التجارة»، خلافا لمن حولوها إلى مصدر اغتناء غير مشروع على حساب معاناة الغير من تجار الإسفلت، وإنما من أجل تنظيمها باعتماد مقاربة واقعية تنهل مما هو اجتماعي، وتحرص على احترام روح القانون على حدّ سواء، وذلك بإعادة «الظاهرة» إلى حجمها الحقيقي، وهو ما لن يتأتى إذا لم تكن هناك دراية كافية بطبيعة الوضع المحلي والإلمام بالمعطيات الخاصة والشخصية لكل بائع متجول على حدة، الأمر الذي يجب أن يكون سبّاقا لكل فعل وتصرف، على اعتبار أن أي تصرف قبل الفهم لن يكون عمليا بالمطلق.
إن الوضع الحالي، إذا كان يضمن سدّ رمق بعض أصحاب «الفرّاشة»، فإنه يعود بالنفع المضاعف مئات المرات على جهات معينة، مما يستدعي وقفة حقيقية من أجل القطع مع الفوضى التي تتخبط فيها المنطقة من خلال مواكبة الباعة الذين لا غنى لهم عن «فرّاشاتهم»، وأجرأة تنظيمهم باعتماد الحكامة والعقلانية ومراعاة الوضع الاجتماعي فعليا، وضمان العيش للمعنيين بالأمر وعدم حرمانهم من قوتهم اليومي، مع الحرص بالمقابل على عدم تغوّل البعض، لأنه لم يعد من المقبول بأي شكل من الأشكال، استمرار تحريك المنطقة، كمن يسير كركوزة، يحركّها كيفما يشاء، أو كمن يلهو ببالونة، تارة ينفخها وتارة أخرى يقوم بسحب الهواء منها، وفقا لـ «المزاج»؟